استمرارك في تصفّح الموقع يعني قبولك باستخدام ملفّات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا، وإظهار إعلانات ومقالات وخدمات تناسب اهتماماتك.
ليس من المبالغة القول إن الانقسام تحت عنوان سنّة وشيعة يشكّل اليوم أحد أبرز العوامل الصراعية في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، إلى حد أن كثيرين يصفون أبناء هاتين الطائفتين بـ"الإخوة الأعداء". كثيرون يرددون حكاية الصراع الذي لم يهدأ منذ نحو 14 قرناً بين الطرفين، وهي حكاية لا صحيحة ولا خاطئة، ففيها نسبة من هذا وأخرى من ذاك.
المشكلة الأساسية في القول بـ"صراع أبدي" بين الطائفتين هي أنه يحاول تفسير الواقع بناءً على فرضية تعميمية، وبالتالي يحجب أجزاءً كثيرة من المشهد التاريخي والراهن تخالف هذه الفرضية، بدءاً من طمس محطات تاريخية وراهنة شهدت وتشهد تعاوناً وثيقاً بين فئات من المذهبين وصولاً إلى غض النظر عن أن لوحة التحالفات والصراعات في العالم الإسلامي، أكان في الماضي أو في الحاضر، أعقد بكثير من اختصارها بهذه الثنائية.
يقوم التمايز بين المذهب الشيعي الاثني عشري، وهو المذهب الشيعي الأكثر انتشاراً اليوم، وبين المذاهب السنّية الأربعة، على ثيمة صراعية، هي الصراع على السلطة بعد وفاة النبي، أو "اغتصاب الخلافة" من آل بيت النبي، بحسب معتقد الشيعة. ولكن هذا التمايز القائم على طبيعة صراعية هو نظري محض ولا يمكن أن يحرّك أحداث الحياة الواقعية بنفسه، على الأقل منذ ظهور معتقد غيبة الإمام الثاني عشر عند الشيعة وتوقف الصراع على السلطة العامة.
انتقاد فرضية الصراع التعميمية وذات البعد الواحد، إذا جاز التعبير، لا يعني نفي فكرة الصراع بين فئات تنتمي إلى المذهبين، لكنه يعني أنه صراع بين فئات وليس صراع الكل ضد الكل، فالشيعة بينهم عدة فرق وعدة توجهات والسنّة بينهم عدة فرق وعدة توجهات، ويعني أيضاً أنه يهدأ حيناً ويثور حيناً، بتأثير من عوامل كثيرة منها طبيعة أداء السلطة في المجتمعات المتنوعّة، وتركيبة القوى السياسية الفاعلة في هذه المجتمعات، ومدى التمييز المذهبي في التشريعات وفي ممارسات أجهزة السلطة، ومدى وفرة الموارد، والمشهد الإقليمي وما يكتنفه من تصارع مراكز قوة مؤثرة على النفوذ...
وبسبب إمكانية الاستثمار السياسي في الثيمة الصراعية التأسيسية النظرية بين السنّة والشيعة، ومع فشل الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، بنسبة أو بأخرى، وضعف الرابطة الوطنية كنتيجة لذلك، وعودة الهويات ما قبل الوطنية إلى الظهور لا بل الهيمنة، تصدرت فرضية الصراع بين السنّة والشيعة ترتيب الفرضيات التي تبحث عن فهم ما يجري حولنا.
وأتى نجاح الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، واندلاع صراع على زعامة العالم الإسلامي بين إيران الشيعية والسعودية السنّية، ليزيد من التفرقة بين أبناء المذهبين، وهي تفرقة لم يخلقها هذا الصراع بل غذّاها ووضعها في موضع الصدارة.
يعمل هذا الملف على طبقات مختلفة من الصراع السنّي الشيعي. تحلل بعض مواضيعة العلاقة بين الصراعات المذهبية وبين السياسة والمصالح، وتبحث أخرى في واقع التهميش الذي يلحق إما بشيعة في دولة سلطتها ذات طبيعة سنّية أو بسنّة في دولة سلطتها ذات طبيعة شيعية، ويفتح صفحات من تاريخ العلاقة بين السنّة والشيعة، بعضها عنوانه التعاون وأخرى عنوانها الصراع، ومن تاريخ العمل على التقريب بين المذهبين، فيما تتناول بعض المواضيع تحليلياً بعض الخلافات العقائدية بين المذهبين، أو تتصدّى لأفكار خاطئة شائعة.
يتضمّن الملف 16 مادة جديدة أُعدّت خصيصاً لهذا الملف بإشراف رئيس التحرير المشارك لرصيف22 حسن عباس، بجانب 21 مادة منشورة سابقاً وأعيد تحديث ما تقتضي الحاجة تحديثه فيها.
الشباب والشابات العرب بأعمار العشرين والثلاثين وحتى الأربعين ليس في ذاكرتهم صورة عن مجتمعات لم تكن تعرف التفرقة الطائفية بين سنّة وشيعة، كما الحال مع أجيال آبائهم وأمهاتم. وإنْ كانت الصورة التي تحتفظ بها ذاكرة الآباء والأمهات ولا يكلّون عن ترديدها مبالغ في ورديتها، وعلى الأرجح تختلط فيها الحقيقة بالوهم، إلا أنها تدلل على توسّع رقعة الشقاق بين أبناء المذهبين. فماذا سيعلق في ذاكرة الأجيال القادمة؟