يعود ملاك أديب بذاكرته إلى ديسمبر 2018، عندما ألقت الشرطة القبض على زوجته نادية عزيز. "كنت مُنهار وعمّال أبكي ورا الباب وعاجز ومرمي على الأرض مش قادر أتحرك. فأنا مُعاق في رجليّ بشلل الأطفال".
أوقفت الشرطة زوجته (40 عاماً) وآخرين على خلفية أحداث عُنف بين مسلمين ومسيحيين، في قرية كوم الراهب، وأُطلق سراحها بعد ساعات، لكن مسلمي القرية اتهموها بالتسبب للشاب المُسلم فضيل عبد الستار بجرح قطعي في الرأس، نتيجة قذفه بحجر أثناء الأحداث، وطالبوا بعقد جلسة صلح عرفية.
"الجلسة العُرفية حَكمت بتغريمي 30 ألف جنيه (1800 دولار)"، يستذكر ملاك (45 عاماً) سرعة البت في القضية وقسوة العقوبة: "كنت مغصوباً بسبب ضعفي". هذا "المدان" مجتمعياً لم يكن يملك حينها سوى خمسة آلاف جنيه (290 دولاراً). "ابن أخي دفع بقية المبلغ للخصم"
مأساة ملاك وعائلته تتشابه مع عشرات القضايا التي تشهد انحياز مجالس عُرفية ضد مسيحيين واتخاذها عقوبات قاسية، بحضور ممثلي الأجهزة الأمنية، حسبما يوثق هذا التحقيق. وتتراوح العقوبات المفروضة دون سند أو حق في الاستئناف، بين التهجير القسري وبين بيع ممتلكات خاصة وفرض تعويضات مالية ضخمة.
نصف العائلات المسيحية التي التقتها مُعدّة التحقيق وخضعت لتحكيم عرفي واجهت عقوبة التهجير قسراً.
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومؤسسة ماسبيرو للتنمية وحقوق الإنسان وجدتا أن ربع الأحكام الـ70 التي صدرت خلال السنوات السبع الماضية لفض نزاعات على أسس طائفية حكمت بتهجير قسري لعائلات مسيحية، بدعوى نزع فتيل الاحتكاك والشحن المجتمعي. ورصدت الهيئتان غير الحكوميتين وقوع 140 قتيلاً في 184 حادث عُنف بين مسلمين ومسيحيين بين 2011 و2018.
المصدر المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
في مصر، خصوصاً في محافظات الصعيد بالجنوب، تُفض النزاعات من خلال جلسات صلح عرفية برعاية ممثلي الأجهزة الأمنية بعيداً عن المحاكم المدنية، في خرق للدستور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذه الجلسات تبت في نزاعات مجتمعية بشكل عام، من بينها تلك التي تقع بين مسلمين ومسيحيين، حسبما يؤكد مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إسحق إبراهيم
مُعدّة التحقيق سعت للحصول هاتفياً وعبر البريد الإلكتروني على إجابة من وزارة الداخلية حول قانونية هذه المجالس ودور الوزارة في آليات عقدها، إلا أن الوزارة أحجمت عن الرد.
للجم هذا العرف غير المنصف، أُعدّ مشرّع قانون يُجرّم الجلسات العرفية لكنّه اصطدم بمقاومة متنفذين ومستفيدين من استمرار هذه الممارسات، حسبما يؤكد مُعدّ المشروع، النائب محمد أبو حامد.
تُعقد الجلسات العرفية بموجب المادة (17) من تعديلات قانون العمد والمشايخ رقم 58 لسنة 1978 والتي تنص على أن "إجراء المُصالحات وفض المنازعات ضمن المهام الوظيفية لعُمد ومشايخ القرى". على أن تلك المادّة لا تنص على استبدال المسار القضائي بتحكيم مجتمعي. ولم تحدّد أيضاً آلية عقد اللجان وتشكيلها أو وتيرتها، ولا يترتب عليها أي أثر قانوني حسبما يقول الباحث المتخصص في التنمية المحلية ولاء جاد الكريم.
والعُمدة أو الشيخ هو شخص يتقلّد وظيفة إدارية تنفيذية مدتها خمس سنوات، ومهمته حفظ الأمن وفض النزاعات وإجراء المصالحات في قريته، وتعيّنه وزارة الداخلية، بحسب قانون العُمد والمشايخ.
تنص على أن :"عمدة القرية ومشايخها مسئولون عن حماية أمن القرية بمنع الجرائم، وضبط ما يقع منها، وإجراء المصالحات، والعمل على فض المنازاعات، والتوفيق بين المتخاصمين، وكل ما من شأنه الحفاظ على الأمن العام. ويؤخذ رأيهم فى اختيار الخفراء الجدد حال تعيينهم، وكذا فى اختيار شيخ الخفر، وعليهم فى دائرة عملهم مراعاة أحكام القوانين واللوائح، واتباع الأوامر التي تبلغ إليهم من جهات الإدارة".
يشرح القاضي العرفي ومحكم الجلسات العرفية في محافظة المنيا أنور عبد العال، العُرف المتبع في فض النزاعات بقوله: "يختار طرفا الخصومة محكمين بالتساوي عن كلّ طرف. ولا تشترط ديانة المحكمين، لكن في حال النزاعات الطائفية يحضر ممثلون عن الأسر المسيحية".
والقاضي العرفي، كما يعرّفه عبد العال، غالباً ما يكون أحد الوجهاء أو عُمدة أو شيخ حكومي، ولا يشترط أن يكون قد عمل في وظائف قضائية مدنية، ويكون معروفاً بين العامة بالتحكيم في مجالس عُرفية.
تتشكّل المجالس فور وقوع أحداث، وتتفاوت سطوة أعضائها وفق طبيعة الأزمة ونفوذ أطراف النزاع، بحسب إسحق إبراهيم.
ويثير سمو العرف فوق المسار القضائي انتقادات المجتمع القبطي، ويرى كثيرون في ذلك أداة لإفلات المتهمين من العقاب أمام المحاكم المدنية. كما أن غالبية أحكام جلسات الصلح العرفي بين مسلمين ومسيحيين تتأثر بموازين القوة بين الطرفين المتنازعين، ما يُوقع ظلماً بالطرف الأضعف ويتسبب له بخسائر مادية ونفسية ومعنوية، حسبما يشرح إيهاب رمزي، المحامي بالنقض (درجة تقاضي عليا).
اشتعلت المشكلة صبيحة الأحد، في التاسع من ديسمبر 2018، حين أقام مسيحيو القرية أولى شعائرهم الدينية في مبنى كنسي حديث من أربعة طوابق. حينذاك، احتشد العشرات من المسلمين أمام المبنى لوقف الشعائر بحجّة أن المبنى غير حاصل على ترخيص دار عبادة. هكذا، تعطّلت الشعائر وحضرت الشرطة وأغلقت المبنى ثم انصرف الجميع. في اليوم التالي، تجمهر متشددون من مسلمي القرية وقذفوا ممتلكات مسيحيين بالحجارة وسط هتافات التكبير. "أثناء الكر والفر وقذف الحجارة أُصيب فضيل عبد الستار أمام منزلي، فاتهم المتجمهرون زوجتي بإصابته لأنهم لا يستطيعون اتهامي كوني مُعوّقاً"، حسبما أكد ملاك أديب.
ويضيف أديب بأسى: "خضعت غصباً عني لشروط المحكمين العرفيين من أجل التصالح وإنهاء الخصومة مع جيراننا المسلمين".
بصوت مخلوط بضيق وحزن تؤكد نادية عزيز أنها لم تعتدِ على أحد. وهذا ما ذكرته حين طُلبت للشهادة في الجلسة العرفية التي عُقدت في منزل أحد كبار قريتها. "قالوا لي ولزوجي: عاوزين نلم المشاكل علشان الكنيسة تتفتح. ممثلين عن طرفي النزاع وشيوخ وعُمد كانوا على رأس الحضور"، تستذكر نادية.
يرفض عاصم شحات، صاحب المنزل المُضيف لجلسة الصلح المذكورة وأحد أعضاء لجنة التحكيم، التعليق على نتائج تلك الجلسة، ويكتفي بالقول إن الحُكم كان يسهتدف تصفية النزاعات بين الطرفين بالتراضي.
يقول القاضي العرفي أنور عبد العال إن التقاضي العرفي يكون من درجة واحدة دون معارضة، و"يتسم بسرعة الفصل في النزاعات الطائفية التي قد تزداد وتتسع وتيرتها مع طول أمد التقاضي في المحاكم المدنية غير المربوط بمدة، ما يدفع المتضررين لليأس من تحقيق العدالة".
ويؤكد عبد العال أن معظم جلسات فض النزاعات بين مسلمين ومسيحيين أو حتى مسلمين ومسلمين تُعقد بحضور ممثلي السلطة من رجال الأمن، والمحافظة التي تُعقد فيها الجلسة. قبل عقد الجلسة، يذهب المحكمّون إلى طرفي النزاع، ويلتقون بكل طرف على حدة، لتهيئتهم للصلح يوم انعقاد الجلسة.
عقب وقوع أي حادث بين مسلمين ومسيحيين، تستدعي الأجهزة الأمنية مشاهير المحكمين العرفيين في المدينة أو القرية لوأد الفتنة بين العائلات قبل أن تتفاقم، بحسب عبد العال. وتدرج نسخة ضوئية من محضر الجلسة العرفية والحكم الصادر عنها في قسم الشرطة المعني، لإغلاق ملف النزاع.
يقرّ عبد العال بأن الأحكام العرفية تقضي أحياناً بالتهجير القسري إذا لزم الأمر، لاحتواء أزمة قد تكون مُرشحة للتصاعد إذا ظلّ بعض الأفراد في أماكنهم، لا سيما في قضايا الثأر و"الشرف".
ويشرح أن القرارات تصدر "وفق دستور الأحكام العرفية المستمد من الشرع والقانون وخبرة المحكمين"، وهو نص وضعه عدد من المحكّمين عام 2018.
اطلعت معدّة التحقيق على "دستور الأحكام العرفية" فوجدت أنه لم يصدر عن جهة حكومية أو تشريعية، بل عن مجموعة محكّمين عرفيين، يقولون إنهم استمدوا مواده من روح القانون المدني والشريعة الإسلامية. هذا "الدستور" ليس منتشراً على نطاق واسع، على خلاف قانون العُمد والمشايخ، الذي يُعد تشريعاً رسمياً منذ صدوره عام 1978.
أيمن شكري، قاضي حكم جلسات صلح عرفية بين مسيحيين ومسلمين، يميّز بين التهجير القسري المؤقت والدائم، ويقول إن جلسات عرفية تقضي بالتهجير المؤقت لعدة أشهر تمتد لقرابة العام في حالات "الشرف"، فيما قد تقضي بالتهجير القسري الدائم في حالات القتل العمد أو الخطأ درءاً للثأر.
ويوضح شكري أن طرفي النزاع يوقعان على إيصالات أمانة (شيكات) على بياض أو بمبالغ مالية باهظة، بهدف إلزام الطرفين بتنفيذ بنود الاتفاق العرفي، أو إجبارهما في بعض الحالات على التنازل عن القضايا بينهما وتسوية النزاع.
ويؤكد شكري أن دور الأمن في الجلسات العرفية يقتصر غالباً على تشجيع طرفي الخصومة على إتمام جلسة المصالحة وقبول نتائجها وتأمين تلك المجالس بحال وقوع أزمات كبرى أبرزها جرائم القتل بدافع "الشرف" أو النزاعات الطائفية.
وتتناقض ممارسات التهجير القسري مع الدستور المصري الذي ينص في المادة (63) منه على أنه "يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم".
المستشار أحمد عبد الرحمن، النائب الأول لرئيس محكمة النقض وعضو مجلس القضاء الأعلى السابق، يقول إن محاضر الصلح العرفي تفيد في تخفيف عقوبة المتهمين أمام القضاء المدني. ويقول عبد الرحمن: "في معظم الحالات تُخفّف عقوبة الجاني إذا تلقت هيئة المحكمة النظامية نسخة من محضر صُلح عرفي".
يؤكد عضو مجلس النواب محمد أبو حامد أنه أعد مشروع قانون يُجرّم انعقاد الجلسات العرفية، غير أن إقراره يلقى مقاومة نيابية، ويوضح أن برلمانيين عن محافظات الوجه القبلي يقاومون تجريم الجلسات العرفية لأن مناطقهم تلجأ إليها في حل النزاعات، فيما تميل الجهات الرسمية إليه فترفع عن كاهلها إنهاء النزاعات بالجلسات العرفية والصلح عوضاً عن القانون.
ويؤكد أبو حامد أن الصلح العرفي يخالف أحكام القانون ومبادئ حقوق الإنسان ويقوض أسس الدولة المدنية، كما يشجع الجناة على ارتكاب الجرائم دون مساءلة، إذ تنتصر الأحكام العرفية في الغالب الأعم لطرف النزاع الأقوى (صاحب نفوذ عائلي أو سلطة).
عضو مجلس النواب منتصر رياض هو أحد منتقدي مشروع القانون الذي يجرم الجلسات العرفية. يرى أن الأحكام العرفية أداة للسلم الاجتماعي ولإنهاء الخصومة بين طرفي النزاع، مستشهداً باعتراف القضاء النظامي بالأحكام العرفية ومباركة أجهزة الأمن والمسؤولين المحليين لدور القضاة العرفيين.
من جانبه، يجادل مجدي ملك، عضو مجلس النواب عن محافظة المنيا، بأن "بطء إجراءات التقاضي النظامي يعزّز اللجوء إلى الجلسات العرفية لإنهاء الأحداث خصوصاً بين مسيحيين ومسلمين". ويرى ملك أن "الهيئات القضائية المدنية وغيرها من جهات الدولة الرسمية ترى أن القضاء العرفي يرفع عن كاهلها جزءاً كبيراً من مهمة حل النزاعات"، ويقول إن "للقضاء النظامي سلطات وصلاحيات تقديرية مطلقة في الاحتكام بنتائج جلسات الصلح العرفي في المنازعات أو عدم الاحتكام لها".
في الأثناء، تتواصل جلسات الصلح العرفية دون تقييد أو حتى نظام قانوني يُرتب سير عملها لضمان نزاهة الأحكام الصادرة عنها، فيما يتضرر الطرف الأضعف من المتنازعين حتى وأن كان مظلوماً، وتنظر الحكومات إلى الصلح العرفي على أنه الوسيلة الذي يُنجر البت في النزاعات، خاصة بين مُسلمين ومسيحيين.
تصميم وتطوير: سليم سكاكيني و آيه المناصير المصور: ناصر صبحي مونتاج: أنس ضمرة إشراف: سعادة عبد القادر
تصميم وتطوير: سليم سكاكيني و آيه المناصير المصور: ناصر صبحي مونتاج: أنس ضمرة إشراف: سعادة عبدالقادر