شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن رحلتي إلى مدينة هجرتها الحياة... خان شيخون

عن رحلتي إلى مدينة هجرتها الحياة... خان شيخون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 18 أبريل 201710:10 ص

تبدو خان شيخون كمدينة تخلو من الحياة. كأنها مأهولة بالأشباح بعدما هرب الكثير من أهلها عقب قصفها صباح يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي بالغازات السامة، التي يرجح أن من ضمنها غاز السارين. فارق أكثر من ثمانين مدنياً الحياة بسبب ذلك القصف الوحشي.

أدت الضربة الكيماوية، والتي تعد الأشرس منذ اندلاع الحرب في سوريا بعد القصف الكيماوي على منطقة الغوطة في 2013، إلى تغيّر السياسة الأمريكية تجاه سوريا، بعدما بدأت إدارة دونالد ترامب عهدها قائلة أنها لا ترى ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد.

شيء من الحياة ثم تتوقف في خان شيخون

لقد زرت مدينة خان شيخون يوم الخميس الماضي، أي بعد 48 ساعة من القصف الكيماوي. عبرت من الجانب التركي في رحلة امتدت 140 كيلومتراً من المعبر إلى المدينة المنكوبة.

لم يزر صحفيون من وكالات إخبارية غربية محافظة إدلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة، منذ سنين، بسبب خطر الخطف والقصف الجوي من قبل نظام الأسد، وبسبب انتشار تنظيم القاعدة، المعروف الآن بهيئة تحرير الشام بعد اندماجه مع فصائل مسلحة وإعلان قطع علاقته بقيادة القاعدة.

الحياة تدب بحذر في مدن وبلدات إدلب رغم الحرب والقصف العشوائي. ريف المحافظة في فصل الربيع من أجمل البقع على وجه الأرض: اخضرار ناصع على مد البصر، وأشجار الزيتون والكرز واللوز والجوز أزهرت. لم أدخل مدن أريحا وإدلب، ولكني رأيت في البلدات الأخرى ملامح الحياة، وإن كانت خجولة بعض الشيئ، بسبب الخوف القائم دائماً من الغارات الجوية.

الحياة تدب بحذر في بلدات محافظة إدلب ويظهر فصل الربيع جلياً، إلا في خان شيخون، لا مكان سوى للموت

لكن علامات الحرب في إدلب لا تراعي جمال الطبيعة، تتخطاه لتصدح بصوت عال وتعلن حضورها. إنذارات الطيران من أبراج المراقبة، محذٰرةً من دخول الطائرات الحربية سماء المحافظة، تكاد لا تتوقف في فترة الصباح. دخان لا يفتأ يتصاعد إلى السماء بعد الغارات، كلما نظرت باتجاه البلدات من الطريق الريفي، ما يدفعك إلى التفكير في الجحيم اليومي الذي يعيشه السكان في البلدات المستهدفة. ثم تنعدم الدلائل البسيطة على الحياة عند وصولك إلى خان شيخون. أصبحت مدينة شبه مهجورة بعد فرار الكثير من الأهالي، من ضمنهم النازحون الذين اتخذوها مكاناً آمناً بعد هروبهم من جبهات محافظة حماة المجاورة، والذين عادوا إلى ديارهم هناك لدفن ضحايا القصف الكيماوي.

في مستودع الأسلحة: قش وسماد ورائحة الروث

ذهبت أولاً إلى موقع القصف الكيماوي، حرصاً على عدم قضاء وقت طويل في المدينة بسبب تحليق طائرات استطلاع في الأجواء، ما يرجح احتمال إعادة قصف المدينة.

أردت التحقيق في مزاعم وزارة الدفاع الروسية، بعدما أكدت أن النظام السوري استهدف مستودعاً للأسلحة الكيماوية في مدينة خان شيخون، ما أدى إلى تسرب الغاز وسقوط الضحايا.

كان لا يزال موقع سقوط القذيفة موجوداً. هو عبارة عن حفرة متشحة بالسواد وفيها شظية خضراء في وسط شارع على أحد جانبيه مساكن مدنية وعلى الطرف الآخر مستودع ومخازن كانت في السابق تستعمل لتصنيع وتخزين الحبوب.

دخلت المستودع، الذي كان لا يزال قائماً عند زيارتي له. لم أجد شيئاً بداخله باستثناء بعض الركام، وشبكة للعب الكرة الطائرة، وكان واضحاً أنه لم يستعمل منذ فترة. أما في مخازن الحبوب، فلم أجد شيئاً يذكر باستثناء بعض القش والسماد، ورائحة روث الحيوانات.

وصف لي أحد متطوعي فرق الدفاع المدني في المدينة، وشهود عيان آخرون، تسلسل الأحداث يوم القصف: قامت طائرات حربية بأربع غارات على المدينة بين الساعة السادسة والنصف صباحاً والساعة السابعة. وظن الدفاع المدني والسكان في البداية أن الغارات مثل غيرها.

إلا أنه بعد وصول الفرقة الأولى من الدفاع المدني فوجىء المركز بطلبات استغاثة من المغيثين أنفسهم، الذين أخبروا المركز أنهم بدأوا يتساقطون ويفقدون الوعي، ما أوحى للبقية أنها ضربة بالغازات السامة.

يقول رجل يقطن قرب موقع القصف، وقد عرف عن نفسه باسم أبو البراء، إنه عند نزوله إلى الشارع فوجىء بمناظر مرعبة. كان الضحايا مستلقون على الأرض، شفاههم مزرقة، يتنفسون بصعوبة ويتساقط الزبد من أفواههم. أما المسعفون، فيصفون ما رأوه بأنه كيوم القيامة: أطفالاً مختنقين في أسرّتهم وأهالي سقطوا وفقدوا الوعي على أدراج البيوت وفوق الأسطح والأقبية.

"دخلت المستودع، الذي كان لا يزال قائماً عند زيارتي له، ولم أجد شيئاً بداخله باستثناء بعض الركام"

مشفى خان شيخون

أُسعف المصابون الذين ما زالوا على قيد الحياة في مشفى المدينة، وحينما اكتظ ولم يعد فيه مكان لتلقي مئات الحالات التي أصيبت بالاختناق، جرى نقل البقية إلى مشافي إدلب وتركيا.

بعد بضع ساعات، استُهدف مشفى خان شيخون ومركز الدفاع المدني المجاوران بعدة غارات جوية عنيفة أخرجتهما من الخدمة، رغم بنائهما داخل جبل صخري

حينما وصلتُ إلى موقع المشفى والدفاع المدني، وجدت المدخل عبارة عن ركام. عبرته، ودخلت لأجد مكاناً مظلماً بسبب انقطاع الكهرباء والدمار الذي لحق بالمنشأة. لم أجد أسلحة داخل المشفى، ولكني وجدت العديد من الآلات الطبية المدمرة والأدوية التي تبعثرت نتيجة القصف، وغرفة عمليات غير صالحة، وحقن إتروبين لمعالجة أعراض السارين، لم يستطع الأطباء استعمالها بسبب القصف والاضطرار إلى إجلاء المرضى.

عبد الحميد اليوسف، الأب الذي فقد توأميه

ذهبت بعد زيارة المشفى إلى بيت عائلة اليوسف، التي فقدت أكثر من عشرين فرداً من العائلة. التقيت في سرادق العزاء عبد الحميد اليوسف. هو الأب الذي انتشرت صورته عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهو يحتضن توأميه، أحمد وآية، اللذين اختنقا في الضربة الكيماوية وهما في الشهر التاسع من عمرهما، كما اختنقت زوجته وأخوه وعدد من أقربائه وأبناء إخوته.

كان عبدالحميد وشقيقه خالد من الناس الذين حاولوا إسعاف الضحايا، بينما اختبأت زوجته وأولاده في أحد الملاجىء. إلا أن الغاز السام تسرب إلى القبو ليخنق العائلة في ملاذ ظنوا أنه أكثر أمناً. أصيب بانهيار عصبي عندما اكتشف مصيرهم.

حينما زرته، كان لا يزال أسير الصدمة، يرتدي ملابس بدلة رياضية داكنة اللون ويحدد وجهه النحيل لحية خفيفة: يسرح تارة بنظره بعيداً، ثم يعود ليردد أسماء أبنائه. يذكره الأقرباء بأهمية الصبر على الابتلاء، بينما تنهمر دموعه. لا يزال شقيقه خالد مريضاً، لا يسعه إلا البكاء عند تذكر أقاربه الذين لقوا حتفهم في القصف. يتذكر ابن عمه علاء اليوسف، الذي التقط الصورة المشهورة للأب وأبنائه، صدمة عبدالحميد ومعاناة العائلة، ولحظات دفن التوأمين. يذكر كيف أصر الأب على احتضانهما حتى وصلوا إلى المقابر. وعندما رأى ابن عمه يصور المشهد، قال له: "خذ صورتي مع هذه الطيور".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard