شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
القبيلة في موريتانيا تُعيّن الوزراء وتحمي المفسدين

القبيلة في موريتانيا تُعيّن الوزراء وتحمي المفسدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 19 ديسمبر 201605:18 م
عندما حلّت موريتانيا في المرتبة 112 على قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، بحسب منظمة الشفافية العالمية، خرج وزراء الحكومة في تظاهرات ضد الفساد، جابت شوارع العاصمة، في مشهد رآه كثيرون مثيراً للسخرية والتهكم. وعلّق المدوّنون والناشطون في شبكات التواصل الاجتماعي على هذا الحدث الفريد مرددين: الفساد يتظاهر ضد نفسه في نواكشوط. فالوزراء والمسؤولون الذين تظاهروا، رافعين شعارات مناهضة الفساد، هم أنفسهم من يتولى تسيير القطاعات الحكومية. وهذا ما جعل أحد المدونين يقترح عنواناً للتظاهرات: "الحكومة تتظاهر (أنّها) ضد الفساد."

القبيلة قبل الشهادة: المحظوظون جينياً

في موريتانيا، ليست مؤهلاتك العلمية أو خبرتك المهنية أو مهاراتك المعرفية هي التي ترسم ملامح مستقبلك على الأرجح، بل العامل الأكثر أهمية هو القبيلة التي تنتسب إليها. وستجد مستقبلك في كثير من الأحيان، مرهوناً بتعيين أحد أبناء قبيلتك في منصب وزاري أو وظيفة سامية في الحكومة. حينها فقط يمكن أن يكون لشهاداتك العلمية معنى وأهمية. وهكذا يجد الكثير من الشباب الموريتانيين أنفسهم، بعد أن أنهوا دراستهم الجامعية المتخصصة، مضطرين إلى ممارسة مهن يدوية، أو التطفل على أعمال لا علاقة لها بمسارهم الدراسي، غالباً ما تكون ضعيفة المردود المادي، وغير مضمونة المستقبل. وذلك فقط لأنهم ليس لهم علاقة أو صلة قرابة بقبيلة ما. ويجد آخرون أنفسهم في وظائف مريحة معنوياً ومربحة مادياً، ليس بفضل ذكائهم أو تحصيلهم العلمي المميز، إنما نتيجة انتسابهم عرقياً لقبائل قوية النفوذ والتأثير، أو لصلتهم الأسرية والاجتماعية بمسؤولين حكوميين، أو ضباط كبار في الجيش، أو بالبيروقراطية الإدارية التي ورثتها البلاد من عهد الاحتلال الفرنسي، ولا يزال نفوذها قائماً إلى اليوم. ورغم إعلان السياسة الرسمية للحكومة عن السعي إلى ترسيخ مبدأ "تكافؤ الفرص"، وإجراء مسابقات توظيف واكتتاب، وُصفت "بالشّفافة والنزيهة"، ما زالت القبيلة تطلّ برأسها في كل مناسبة، لتمارس تأثيرها وضغطها. فالأنظمة الحاكمة، المتعاقبة على البلاد، تعيد نسج التحالفات القبلية والعرقية والجهوية، بما يخدم بقاءها واستمرارها. ويجري ذلك غالباً، بإبرام اتفاقات ضمنية بين الحاكم وممثلي هذه القبائل. في هذا الإطار، يرى الدكتور محمد ولد بوعليبه أن "الأنظمة السياسية المتلاحقة تمسكت بهذه القيم والممارسات الموروثة عن الاستعمار، فجعلت من المحاصصة والتوازنات القبلية والفئوية أداة استقرار للأنظمة، بدل اعتماد آليات وأساليب في الحكم تفضي إلي استقرارٍ أساسُه التنمية والعدالة". وقال ولد بوعليبه إن المحاصصة تبقى في نهاية المطاف "لغماً يهدد وجود الدولة ووحدة شعبها، وعائقاً في وجه التنمية". وأوضح: "المحاصصة تغيب الأساليب الكفيلة ببناء دولة حديثة، تختفي فيها أو تميل إلى الاختفاء، تلك التراتبيات الاجتماعية التي غيبت شرائح عريضة من المجتمع عن ممارسة حقها في المواطنة الكاملة، كما غيبت الكفاءة وقيم النزاهة في تسيير الشأن العام. ونمت في ظل هذه المحاصصة منذ عهد الاستعمار، أبشع المظاهر المعيقة للتنمية كالرشوة والزبونية والمحسوبية، فلم تعد الوظائف السامية ومراكز القرار ذات التأثير على مصير الدولة إلا قطعاً من الكعك، يوزعها الحاكم وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة والنفوذ، إذ لا عبرة بالكفاءة".

ديمقراطية القبائل

ويعتقد الكثيرون في موريتانيا أن البلاد تعيش في الوقت الراهن العصر الذهبي للقبلية، في ثوبها السياسي على الأقل. فاستفادت القبائل بشكل لافت من الوضع السياسي القائم، لتشكيل تحالفات كبرى ومجموعات ضغط قوية داخل الدوائر الحكومية والبرلمان والمجلس التشريعي، والمجالس المحلية، ومجالات التجارة والأعمال والاستثمارات، لفرض أجندتها ومصالحها وخطابها السياسي والجهوي. بل أصبحت القبائل اليوم تمتلك وسائل إعلام الكترونية، وصفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، يتابعها الآلاف، ويغذيها مدوّنون من أبناء القبيلة يسهرون على بث الدعاية لتكريس صورة القبيلة وتمجيد تاريخها. ويقول المدوّن حسين عمر إن "هناك الكثير من الحالات التي يتجسد فيها التدخل السافر للقبيلة في قرارات الحكومات المختلفة، والتي تكون غالباً مزيجاً من أشخاص يعيّنهم جنرالات أو رجال أعمال، لتمرير أعمالهم عبر المصالح الحكومية، ووزراء ومدراء آخرين يتم تعيينهم تلبية لرغبة زعماء العشائر. هكذا تجري تركيبة الحكومات الموريتانية المختلفة، أما الحديث عن الشخص المناسب في المكان المناسب فلا يعدو كونه نكتة في قاموس الأنظمة الانقلابية المتعاقبة". ويعدّد عُمَر التأثيرات السلبية لممارسات القبيلة، ومن بينها: "إعاقة تنفيذ القانون، منع معاقبة المجرمين المنتمين إليها، ممارسة الضغط على المسؤولين لتعيين أشخاص في مناصب لا يستحقونها، تشجيع الاغتصاب والتحرش، من خلال حماية مرتكبيه من المساءلة القانونية، وذلك بتسوية هذه النزاعات بالوساطات القبلية...".
مستقبلك في موريتانيا مرهون بتعيين أحد أبناء قبيلتك في منصب رسمي.. حينها فقط يمكن أن يكون لشهاداتك العلمية معنى وأهمية
أما المدوّن والناشط أحمد ولد جدو، فيفسر تنامي نفوذ القبيلة بتخلي الحكومات عن مسؤوليتها. ويقول: "تدخّل القبيلة يوازي إذاً استقالة الدولة من دورها المجتمعي، واكتفاء الحكام بنهب الثورة وعدم الاكتراث بالواقع العام للناس، ولا بتطوير مؤسسات الدولة، فلا يجد المواطن سوى قبيلته ليحتمي بها. فهي تساعده في البقاء حياً عبر برامج التكافل الاجتماعي، فتقدم له الدواء حين يمرض والمال حين يحتاج، وتساعده في العمل، فهي مصعد للتوظيف وللبروز السياسي. وهذا يجعل المنتفع منها تحت رحمة شيوخ القبيلة وقراراتهم، ويظهر أثر ذلك بشكل جلي في العملية السياسية الدائرة، إذ تسعى السلطة من خلال شيوخ القبائل لمحاربة كل الأصوات المعارضة". ويلاحظ بروز القبيلة بشكل أساسي أيضاً في النزاعات العقارية والقضايا الجنائية. فتحشد قبائل المتنازعين كافة وسائلها المادية والمعنوية، لمناصرة الطرف المنتمي إليها، مثيرة بذلك استقطاباً اجتماعياً وعرقياً، غالباً ما يتحول إلى اشتباكات دامية بين المتخاصمين. إلا أن الدور القبلي أخذ يزداد ويتسع مؤخراً ليأخذ منحى جديداً، بتدخل بعض القبائل في ملفات الفساد، التي أطاحت في السنوات الأخيرة عشرات الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين. ومنذ فضيحة إفلاس الخطوط الجوية الموريتانية عام 2008، التي اعتقل على إثرها رئيس الوزراء الأسبق يحيى أحمد الواقف، ورئيس مجلس إدارة الشركة وعدد كبير من الموظفين، مروراً بفضائح الفساد في الخزينة العامة للدولة، وصولاً إلى فضيحة شركة الأسمدة (سونمكس)، وليس انتهاءً بعشرات ملفات الفساد في قطاعات حكومية أخرى، أظهرت قبائل المتهمين والمشمولين في مختلف هذه القضايا تعاطفاً واسعاً معهم. ونظمت الوقفات الاحتجاجية والحملات الإعلامية المساندة لهم. فضلاً عن الضغط الاجتماعي على الجهات القضائية والأمنية، التي تتولى التحقيق في هذه الملفات، لإطلاق سراح المتهمين أو تخفيف العقوبة عنهم. التّخادم بين الحكومة والقبيلة يتجسد أساساً في مقايضة الولاء السياسي بالمناصب الوزارية. وهو أمر شائع ومعروف في التعاطي بين النظام السياسي والقبائل. فعدم تعيين فرد من إحدى القبائل وزيراً في الحكومة، أو تسريح وزير منها لأي سبب كان، غالباً يدفع بهذه القبيلة إلى التصويت لصالح مرشحي المعارضة ضمن دوائرها الانتخابية. في حين أن تعيين وزراء من قبيلة معارضة يؤدي إلى تحوّل ولائها لصالح الحكومة رغم وجود قبائل يتوزع ولاؤها السياسي تقليدياً بين الموالاة والمعارضة. علاوة على ذلك، فإن القبائل التي تتمتع بغالبية ديموغرافية في منطقة ما، تفرض خيارها على الأحزاب الكبرى المتنافسة بترشيح فرد من هذه القبيلة على رأس القائمة الانتخابية، مقابل تصويت القبيلة لصالحها. وفي المواسم الانتخابية الساخنة يجري ابتعاث الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين إلى مناطقهم القبلية، لضمان تصويتها لمرشحي الحكومة، محمّلين بوعود كثيرة بتحسين أوضاع السكان المحليين. وغالباً تتهم أحزاب المعارضة الإدارة المحلية، باستغلال موارد الدولة، والأملاك العامة، من أموال ومعدات لوجستية لدعم المرشحين الموالين للحكومة. في المقابل، تدعم الحكومة كثيراً الانشقاقات في القبيلة الواحدة، باستحداث تكتلات موالية لها داخل القبائل المعارضة، أو تلك التي لا تزال مترددة في تحديد خيارها السياسي. وتدرّ دعمها على القبائل والمجموعات التي تتقاطع مصالحها مع أهداف وأولويات النظام الحاكم، أو تلك التي ينحدر منها الرئيس ومحيطه الأسري. ويؤكد تقرير لمعهد كارنيغي الدولي للسلام أن سياسات المحسوبية والمحاباة والقبلية، أفضت إلى إثراء نخبة حصرية ومترابطة تتصل بعلاقة مع قبيلة الرئيس الأسبق "اسماسيد"، وقبيلة "أولاد بالسباع" التي ينتمي إليها الزعيم الحالي، ولد عبد العزيز. "تُعد هذه القبائل مثلاً، أطرافاً فاعلة في السوق. فهي تشكّل، إضافةً إلى حلفائها في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتّع بسلطة قائمة على احتكار القلّة. كان الفساد والنهب والاستغلال من الصفات المميّزة لنظام ولد الطايع، مع تزايد انعدام الأمن الاقتصادي، وانتشار الفقر، وارتفاع معدلات البطالة".

معضلة حقيقية

ويشير المدوّن حميد ولد محمد إلى أن القبيلة هي حزب سياسي في الحقيقة، لها مرشحوها وأهدافها وأنصارها، وغالبية السياسيين في البلد خصوصاً في السلطة، هم في الحقيقة زعماء ونافذون في هذا الحزب/ القبيلة. وغالبية الوزراء هم وزراء القبلية، وغالبية النواب في البرلمان الموريتاني هم نواب القبيلة. ويرى حميد أن هذا الواقع خلق بيئة فاسدة بكل المقاييس. فكل مسؤول أصبح يخدم القبيلة وأبناء القبيلة التي دعمته للوصول إلى هذا المنصب السياسي، والتي ستحميه وتضغط بكل بقوة وتتظاهر في الشارع، عندما يعتقل متلبساً بجريمة فساد، كما حدث في حادثة اعتقال الوزير زيدان ولد احميده. ويضيف: "القبيلة آفة موريتانيا الكبرى، وعقبة في وجه الديمقراطية والمساواة وفي وجه كل إصلاح". ويقول: "أعتقد أن الوضع أكثر تعقيداً وتجذراً من أن توجد له حلول جاهزة، لكن يجب أن تكون هناك سياسات جادة لتجاوزه من خلال دعم الأحزاب السياسية وإبعاد القبيلة عن الحياة السياسية ونشر ثقافة المواطنة وزرع روح الانتماء الوطني". أما الكاتب والمحلل السياسي محمد المختار، فيقول: "تحقيقَ هدف مأسسة السلطة في موريتانيا، لا يكون إلا بإحداث تغيير كبير، بل تحول جذري على مستوى طبيعة الحكم، فالخلطُ بين المصلحة العامة والخاصة ما يزال قائماً. علاوة على تثبيت الوازع الأخلاقي في المؤسسات، يتوجب العمل على إنشاء إدارة جمهورية. مِن هنا فإن شَغل المراكز السياسية والإدارية يجب أن يكون مُرتهناً بمعايير الكفاءة والنزاهة، وليس بالانتماء السياسي والإيديولوجي. ومِن هنا أيضاً تنبع أهمية ترسيخ قواعد المواطنة وقيم الأخلاق في مجتمعنا".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard