شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل نعيش أزمة بيئية بسبب استهلاك اللحوم؟

هل نعيش أزمة بيئية بسبب استهلاك اللحوم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 9 يونيو 201612:04 م
شكل استهلاك اللحوم المرتفع مادة دسمة للنقاش والمشاكسات في السنوات الأخيرة، ووقف العِلم عاجزاً عن قول كلمة نهائية لأسباب لها علاقة بشروط السوق والاقتصاد و«اللوبيات»، وأخرى تتعلق بعلماء من هذا القطاع وكتّابه أنفسهم. أكثرية هؤلاء، أي أصحاب البحوث المتعلقة بطبيعة موائدنا وصحيِّتها وتاريخها، متحيزون كلّ لفئته. هل الإكثار من اللحوم صحّي؟ هل كان الإنسان القديم نباتياً أم أنه أكل اللحوم حقاً؟ ثمة من يؤكد على جميع هذه الأسئلة وثمة من ينفيها. يقول بعض العلماء، إن الإنسان كان صياداً منذ فجر البشرية. بينما يدعي نباتيون أنه لم يأكل اللحوم إلا مع بداية العصر الحديث، أي منذ 30 ألف عام تقريباً، وبدأ ذلك فقط بعد تمكنه من صناعة أدوات الصيد. إذا أخذنا هذه النظرية بعين الاعتبار، لا بد من أن تكون كل تلك المشاهد التي رأيناها في الأفلام الوثائقية، التي تصور الإنسان القديم مع حيوان الماموث، يحمل الرمح، ضرباً من ضروب السينما. تذكيراً، تبدو هذه الحجة مقنعة لكثيرين. لكن بعيداً من النقاش التاريخي أو الصحي الذي قد يتشعب كثيراً من دون الوصول إلى خلاصة، كم تستهلك البشرية من اللحوم اليوم خصوصاً أن عدد «الأرضيين» بلغ رقماً لم يعرفه كوكب الأرض قبلاً؟ بحسب معهد «ووردواتش» الأمريكي البيئي، ازدادت نسبة استهلاك اللحوم الحمراء والبيضاء حول العالم 3 أضعاف خلال العقود الأربعة الأخيرة. علماً أن الدول والشركات المنتجة، تستخدم الوزن (الطنّ)، للكلام عن إنتاج اللحوم والأسماك. بينما تتعمد منظمات بيئية وأخرى غير حكومية اختيار الرقم (العدد)، للكلام عن هذا الإنتاج. والمفارقة أن استعمال الأرقام والأعداد يبدو أكثر انسانية في هذه الحالة. تقول الإحصاءات إن العالم يستهلك سنوياً 55 مليار حيوان بري (دجاج، بقر، خنزير...)، ومئة مليار حيوان مائي. تحول استهلاك اللحوم الحمراء والبيضاء إلى أمر يومي، فكل شخص في البلدان النامية يحتاج إلى نحو 40 كيلوغراماً من اللحوم الحمراء سنوياً. بينما يستهلك الفرد في البلدان الصناعية والمتطورة نحو 75 كيلوغراماً. هذه النسبة العالية من الاستهلاك لم تكن لتصير متاحة، لولا الاعتماد على تربية الماشية الصناعية المكثفة، والصيد المكثف في البحار والمحيطات. وهنا تُسجَّل مُفارقة مستجدة: على الرغم من تربية الماشية المكثفة والتدجين الخرافي، بدأت بعض الدول الأوروبية تسجل انخفاضاً في معدل استهلاك اللحوم، منذ مطلع القرن الـ21. ويعود السبب إلى القدرة الشرائية لدى المواطن، خصوصاً في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لا سيما اللحوم. مشكلة إنتاج اللحوم واستهلاكها أصبحت عالمية، لها ارتباط وثيق بأسعار المزروعات المخصصة لهذه الحيوانات، وبالنفط، الماء والدواء أيضاً. موقع «بلانيتوسكوب» الفرنسي (موقع مختص بالشؤون البيئية، الطاقة المستدامة، والغذاء)، يعرض أمام زائريه بالأرقام الحية (بث حي)، كمية اللحوم والأسماك التي استهلكت منذ بداية العام. ويذكر الموقع أن كل فرد فرنسي يستهلك نحو 66 كيلوغراماً من اللحوم سنوياً، بينما يحتاج الأمريكي إلى نحو 75 كيلوغراماً. ربما يصح بعد أرقام هذه الإحصاءات أن نضيف رقماً مهماً: نحن «الأرضيون» صرنا 7 مليارات. فما العمل؟ يتبادر موقف النباتيين إلى ذهن المرء، حتى لو لم يكن نباتياً. فالكثير منهم، يدعون دوماً إلى التوقف عن أكل اللحوم لأسباب طبية (صحية)، وأخرى تتعلق بحقوق الحيوان، أو الدورة الاقتصادية. ومن بين الحجج الكثيرة التي تقدَّم، تبدو الحجة الاقتصادية، تليها البيئية الأكثر متانة ليعيد كلُّ فرد بيننا النظر في طريقة استهلاكه للحوم.

إليكم بعض الوقائع التي قد تدفع المرء إلى «تعديل» كمية اللحوم التي يأكلها:

أوَّلاً: ثمة خلل يشهده الانتشار السكاني العالمي منذ عقود. سكان الريف والقرى، أي منتجو اللحوم والمزروعات، هجروا الأرياف بشكل تدريجي للالتحاق بالمدينة. توازياً، يزداد عدد سكان المدن الذين يستهلكون المواد الغذائية من دون أن ينتجوها. وتعي دول أوروبية اليوم خطر هذا الخلل في الانتشار، فأطلقت ألمانيا وفرنسا مشاريع داعمة، لتثبيت الشباب في الأرياف. وبإمكاننا القول إن فرنسا بدأت، منذ سنوات قليلة جداً، تشهد حركة نزوح داخلي عكسية للحركة التي شهدتها بعد مايو 1968، حين خرج كثير من الفرنسيين من الأرياف إلى المدن. ثانياً: ثلث الإنتاج الزراعي العالمي السنوي، وهو ثلث يحتاج إليه «الأرضيون» حقاً بسبب ما يشهده العالم من كوارث، وارتفاع في مستويات الفقر وانتشار للجوع، يخصَّصُ للحيوانات التي تذبح. وتلك البهائم البرية، على كثرتها، تسبب تلوثاً لا يستهان به، وهو تلوث ناتج عن استهلاك ضخم للمياه الحلوة، والطاقة (كهرباء ووقود لنقل المبعيات)، وانبعاث الغازات التي تصدرها الحيوانات نفسها، خصوصاً الأبقار. هنا أيضاً يجدر التذكير بتلوث الأرض التي تزرع بالذرة والصويا وأنواع أخرى من الأعلاف، تستهلكها مزارع الماشية. التلوث ناتج عن استعمال مكثف للمبيدات، أشهرها مبيد «الراوند-أب»، الذي تنتجه شركة «مونسانتو» الأمريكية الرائدة عالمياً في مجال المزروعات المعدلة وراثياً، وصاحبة السجل الحافل بالفضائح منذ نشأتها عام 1901. أخيراً يجدر التذكير بتلوث البحار والمحيطات، الناجم عن صيد الأسماك الوحشي، خصوصاً بحر الصين. ثالثاً: الثلث الثاني من الإنتاج الزراعي السنوي مخصص للقطاع الصناعي، فهو يهدر بهدف إنتاج زيوت صناعية لمعامل مختلفة. إذن، بمعادلة حسابية بسيطة، يمكن القول إن الإنسان يستهلك ثلثاً واحداً من إنتاجه الزراعي السنوي، بينما يحتاج كثيرون في القارة السمراء إلى أبسط مقومات الغذاء وأبخسها، مثل الحبوب مثلاً. رابعاً: في ظل هذا الإنتاج الصناعي المكثف للحوم، ثمة قلق دائم على الأمن الغذائي. وإن لم تكن الأسباب غير المباشرة، الاقتصادية والأخلاقية، تكفي ليعيد المرء التفكير قليلاً بما يأكله. لكن هناك أسباباً مباشرة لا بد أن تدفع به، أقله، إلى البحث عن مصدر اللحوم التي يشتريها. «أزمة جنون البقر» الشهيرة، خير مثال على ذلك. إذ تبين في نهاية المطاف أن سبب المرض يعود إلى مزج أعلاف الأبقار بطحين حيواني. إضافة إلى أن أسعار اللحوم والأسماك «العضوية» (Produit biologique) مرتفعة نسبياً، لأنها تخضع لشروط قاسية جداً، لتحصل على الامتياز من وزارات الصحة. لدى الجميع الحرية في أكل ما يشاؤون. لكن ثمة أمراً يجب أن يبقى دائماً في خلفية أفكارنا: الاستهلاك المرتفع للحوم الحمراء والبيضاء، يعني بطريقة أو أخرى موافقة ذاتية على شكل النظام الاقتصادي العالمي القائم. على فكره وأساليبه. ليس في الإحصاءات المذكورة أعلاه أي دعوة مبطنة. هي مجرد إحصاءات فجة. فاليوم، يمكن القول إنه عبر استهلاكنا المكثف للحوم، نساهم، على صعيد فردي، في تثبيت منطق «اللوبي». وفي تدعيم الزراعات الموحدة الصناعية (La monoculture)، وبالتالي شرعنة إنتاج آلاف أطنان المواد الكيميائية، التي ترش بها عشرات آلاف الهكتارات من الذرة والصويا، وما تسببه من أمراض مسرطنة.  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard