شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
السودان: ثورة نسائيّة بامتياز.. والزغاريد بوجه القمع

السودان: ثورة نسائيّة بامتياز.. والزغاريد بوجه القمع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 24 يناير 201902:35 م

للحكومة السودانية فئات تمنحها قدرًا أكبر من جرعة القمع المعتادة للدول البوليسية، ونحن النساء نتصدر الفئات المفضلة ولا ينازعنا المركز الأول إلا أبناء إقليم دافور. عليه،  وإن لم تنتفض البلاد بجميع مكونات المجتمع ضدهم لكان واجب  المرأة السودانية الخروج وحدها في مواكب للخلاص من سودان البشير، جحيم النساء.

المرأة العربية الأشد بؤسًا؟

لعل القارئ يفكر بعد هذا العنوان الفرعي، أنني أبالغ. لا بأس، كأننا اليوم في العالم العربي نتنافس على لقب "الأشد بؤسًا"، فالمرأة السعودية ما زالت ترضخ لملكية تسميها "ملكة"، وتمنع عنها حقوق المواطنة البديهية. الفرق بين السعودية والسودانية، أننا في بلادي نسير عكس الزمن،  فنفقد مكتسباتنا وهو أقسى بنظري من نضال حركة التطور التي تتحرك قدمًا وتسعى لها النساء في أي مجتمع مهما كان متخلفًا. نحن نعود للخلف، نكرر صراع الجدّات في كل عام، صراع حسم لصالحنا في السابق، قبل البشير الذي غيّر الساعة (على مدار 17 سنة، كنا على توقيت مخالف لخط الطول) وحركتها.

هذه المرأة التي تمنح صغيرها الجنسية، على عكس اللبنانية مثلاً، لا تستطيع أن ترتدي بنطالًا وتزاول به عملها في دائرة حكومية. السودانية التي دخلت البرلمان مبكراً والتي تزاول مهنة المحاماة وتعمل قاضية منذ عقود، لم تتمكن من التصدي لقانون النظام العام الذي يضعها في تهديد كلما ارتدت نفس البنطال الممنوع لتتنزه مساءً والتقت برجل من الشرطة يجد هو في تقديره الشخصي أن "زيها فاضح".

نحن في بلد أنظر فيه لصور والدتي في ستينات القرن الماضي بالتنورة القصيرة والشعر المرسل كحُلم، لقد تمكن نظام الإنقاذ من زرع عداوته للنساء في عقول المواطن البسيط عبر الإعلام والتعليم حتى صارت الملابس مقياسًا للشرف. إنت تماماً ما ترتدين، بل ما يظن إنك تقصدين من وراء عدم الالتزام بالحجاب. نجح الإسلام السياسي في وطني بتشويه الظنون ووضعنا في صراع مع الدين، أي طرحة "غطاء رأس" تتوسد كتف فتاة عوضاً عن ستر شعرها، هي إعلان حرب ضد الإسلام والمسلمين.

هذا الشعور بأنك تعاملين بطريقة أسوأ من والدتك رغم أننا في عصر أفضل بالنسبة للنساء عامة في بقية الكوكب، يشبه ربما ما يحدث في إيران. لكن في منطقتنا العربية، المرأة السودانية وحدها من تسقط سقوطًا حرًا نحو هاوية لا قاع لها.

المرأة و حروب النظام

يكفي أن تطالع تقارير حقوق الإنسان أو تسمع شهادات متفرقة من مناطق النزاع المسلّح لتعلم حجم الضرر الواقع على نساء في زمن نظام بلا أخلاق. سواء كانت سيدة من الجنوب، أو من جبال النوبة أو من إقليم دافور، فإن الحرب مرّت عليها لتقتل الرجل وتحرق المنزل وتغتصبها.

المرأة في حروب الأطراف عانت من تفرقة كبيرة خاصة أن الكيزان (اللقب المستخدم في الإشارة لمنتسبي الحزب الحاكم) حققوا مرادهم بعد أن كذّبوا حكايات الحرب المفزعة. للأسف، صدّق الشمال والوسط دعاية الحكومة ولذا ظلّت قصص اضطهاد المرأة والإبادة العرقية كأسطورة رفضها مجتمع الخرطوم ومدني وعطبرة والقضارف و بقية مدن "السلم" السابق التي تشهد اليوم ما يسميه الإعلام العربية: احتجاجات.

أذكر ردة فعل الناس على فيديو "صفية إسحاق" الذي تحكي فيه عن اغتصابها، صفية تنتمي لحركة "قرفنا" المناهضة للنظام والتى ظهرت في 2009 لتنادي بترشيح المعارضة  وإسقاط حزب المؤتمر الوطني "الحزب الحاكم" في انتخابات 2010. ما شد انتباهي في الجدل حول قضية صفية هو استبعاد احتمال حدوث اختراق بهذا الحجم للأخلاق والأعراف السودانية المجيدة، صدقت أم كذبت رواية صفية، كيف تمكنت الحكومة من النجاة من التهمة بتلك البساطة  وكيف يكون الشعب ساذجًا لهذا الحدّ.

صدقت المرأة في دارفور والجنوب، وأميل لتصديق روايات الناشطات السياسيات كصفية لكنني بلا صوت، لم تستفِد نسوة الحرب من تعاطفي شيئًا، فإن أداء الأغلبية هو التجاهل.

ثورة التاسع عشر من ديسمبر

منذ بداية نضالنا الحالي انضمت الجمعيات النسويّة للجموع، مثل "لا لقهر النساء" التي تسعى باستمرار  للتوعية وتدافع عن المرأة في المحاكمات. تشاهد وتسمع صوت الفتيات الحاد في التظاهرات مصحوبًا بالزغاريد. ثم امتلأت السجون بهن وانتشرت صور فتيات من الخرطوم ومدني ومدن اللا حرب عبر وسائط التواصل الاجتماعي مع عبارة "أطلقوا سراح المعتقلات".

صدقت نساء الشمال والوسط رواية نساء دافور والجنوب. المعتقلات فتيات يشبهن بنات الأسر التي أنكرت وتجاهلت صرخات نساء الحرب السابقة.  أخيرًا وبعد 15 عاماً على نزوح المرأة في غرب البلاد صار بالإمكان التحدث عن فظاعات الحروب ومطالعة تقارير الأمم المتحدة.

حمدا لله، خرجت صديقاتي من المعتقل دون التعرض للأذى الجسدي، لكن كما تخبرني منال "لسه حاسه بصدمة" بعد 48 ساعة في الزنزانة. ما زالت مصدومة من رؤية هذا الجانب من وحشية جهاز الأمن السوداني، وكان قد حرص الحراس على أن تسمع صوت الشباب وهم يتعرضون للضرب.

حكت لي صديقة شجاعة، أنها تحاورت مع محتجزيها وأقنعتهم بإطلاق سراحها، هل سمعوا حقاً؟ حسبما فهمت أن تعامل الشرطة كان أفضل. يعدو الأمر حظاً جيداً أن أمسك بك شرطي وحظاً سيئاً إن وجدك رجل أمن غاضب. سلاحهم الأول ضد المرأة هو العنف اللفظي والإساءة والضغط على الفتيات، خاصة صغيرات السن، بالحديث عن وصمة اجتماعية قد تلاحقهن. تقص طالبة جامعية أن قلقها كله كان حول رد فعل أسرتها لأنها لم تخبرهم بانضمامها إلى الاحتجاجات، لكن قبلة في جبينها عند عودتها أزالت مفعول تحذيرات رجال الأمن، فقد وجدت الفخر لا العار.

التسجيلات المرئية للتعدي على نساء في أحياء سكنية مدهشة، تجدهم بسياطهم وعصيهم داخل منزل يروعون سكانه الذين لجأ إليهم المتظاهرون (شاهد/ي الفيديو) . بالإضافة إلى صور كثيرة توضح قسوة التعامل، كصورة يظهر فيها رجل يرتدي ملابس مدنية يثني ذراع محتجة سلمية ويدفعها بقسوة للركوب في سيارة الأمن الشهيرة تويوتا هاليوكس أو "التاتشر" كما يسميها السودانيون، يدفعها لتركب في الخلف كما قد يفعل راعٍ مع الماشية!

من أسوأ الصور، ما نشرته متظاهرة قضت فترة اعتقالها في تعذيب وعادت بجسدها يحمل كدمات وجروحاً دامية. بالتأكيد استغل النظام حالة الذعر التي أحدثها مجتمع الخرطوم المسالم البعيد عن النزاعات حين فوجىء بالعنف الذي واجه نساءه فنشر إشاعة التعرض للاغتصاب. هم لن يمتنعوا عن العنف الجنسي، لكن مع صيغة خطابهم الراهن ليس من مصلحتهم استفزاز الجمهور بعد. حالياً يصر البشير ووزراؤه وأي ناطق باسم الدولة على إنكار حالات قتل المتظاهرين وينسبها لمجهولين.

نحن في بلد أنظر فيه لصور والدتي في ستينات القرن الماضي بالتنورة القصيرة والشعر المرسل كحُلم، لقد تمكن نظام الإنقاذ من زرع عداوته للنساء في عقول المواطن البسيط عبر الإعلام والتعليم حتى صارت الملابس مقياسًا للشرف.
يكفي أن تطالع تقارير حقوق الإنسان أو تسمع شهادات متفرقة من مناطق النزاع المسلّح لتعلم حجم الضرر الواقع على نساء في زمن نظام بلا أخلاق. مرّت الحرب على النساء من كل المناطق لتقتل الرجل وتحرق المنزل وتغتصبها.
من أسوأ الصور، ما نشرته متظاهرة قضت فترة اعتقالها في تعذيب وعادت بجسدها يحمل كدمات وجروحاً دامية. بالتأكيد استغل النظام حالة الذعر التي أحدثها مجتمع الخرطوم المسالم البعيد عن النزاعات حين فوجىء بالعنف الذي واجه نساءه.
تشاهد وتسمع صوت الفتيات الحاد في التظاهرات مصحوبًا بالزغاريد. ثم امتلأت السجون بهن وانتشرت صور فتيات من الخرطوم ومدني ومدن اللا حرب عبر وسائط التواصل الاجتماعي مع عبارة "أطلقوا سراح المعتقلات".

أغاني دلوكة الثورة

الدلوكة هي آلة موسيقية بسيطة تشبه الدف وتصدر صوتًا كالطبل، وأغانيها ترتبط بالنساء. لا يكاد يوجد منزل سوداني لا تجيد بناته استخدامها. تظهر الدلوكة في الأفراح عند تجمع الجارات حول العروس أثناء فترة التجهيزات لحفل الزفاف وتنطلق أغنيات البنات لتطرب القاصي والداني.

أرسلت مغردة مقاطع صوتية سُجلت بجهازها المحمول لما اسمته "دلوكة الثورة"، حمّله الثوار على موقع soundcloud- مرفق مقطع من أغنية الدلوكة "تسقط بس":

يا بشير يا بشير.. ياخ تسقط بس

الحكومة تطير.. ياخ تسقط بس

شجاعة المتظاهرات

بينما أنعم بأمن منزلي خارج خارطة التظاهرات، تخبرني فتيات أعرفهن عن مغامرة الخروج ضد النظام. سألت سهى: "بتعرفي منو في بري؟"، أعني الحيّ الذي اعتقلت منه كونها من سكان أمدرمان، أي يفصلها عنه جسر نهري وشوارع طويلة. ردت ببساطة: "ما بعرف زول... ركبت ترحال ومشيت مع صحبتي". تخيّل الشجاعة اللازمة للذهاب باستخدام سيارة أجرة لمكان لا تعرف به أحد لتشارك في اقتلاع البشير من كرسيه.

بنفس الأسلوب أحاول اقناع زميلتي أن تعرضها للغاز المسيل للدموع خطر واضح على حياتها لأنها مريضة بالأزمة Asthma. لأجد إجابة قوية أخرى مفادها: "شايلة معاي بخاخي".

هذا الشعب لن يعود للخضوع وإن عادوا، فستظل نساؤه في الطرقات حتى آخر لحظة، بالزغرودة وبالأغنيات وهن يرتدين ما شئن من الملابس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard