شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عن بلاد أمّي وكاظم الساهر التي أحلم أن أزورها

عن بلاد أمّي وكاظم الساهر التي أحلم أن أزورها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 25 نوفمبر 201804:48 م
لم أكن أبلغ الثامنة من عمري حين حفظت أغنية كاملة له. كانت كلمات الأغنية تقول: "لا لست فاتنتي، لا لست ملهمتي…". كان أخي الذي يكبرني بأربع سنوات يستمع إلى هذه الأغنية طوال اليوم. كان حينها يحبّ تلميذة معه في المدرسة ويفعل مثلما يفعل المراهقون رغم أنّه لم يكن قد بلغ عمر المراهقة بعد. أذكر صديقه الذي كان يأتي إلى بيتنا في الحيّ الغربي في مدينة القامشلي ليستمعا معًا إلى كاظم الساهر. هذا الصديق تحوّل لاحقًا إلى مقاتل ضمن صفوف المجاهدين الذين قطعوا الحدود السوريّة ذاهبين إلى العراق لمحاربة الجيش الأمريكي وقُتل هناك خلال إحدى المعارك.

******

قبل ذلك بسنوات طويلة كان عمي، طالب الجامعة حينها، يحفظ أغنية "نزلت للبحر تتشمس الحلوة". كانت أغنية الشباب في دمشق. ودائمًا كان يُسأل عن معاني كلمات أغنيات كاظم الساهر لأنّ زوجة أخيه -أمي- عراقيّة، ومن المفترض أن يعرف كلّ الكلمات العراقيّة. كانوا يسألونه مثلًا ما معنى: عبرت الشط على مودك؟ كان عمي يجيب: تعني عبرت الشط على الجسر. يعود إلى البيت ويخبر أمي بذلك فتضحك أمي كثيرًا وهي تقول له على مودك تعني من أجلك. إلى الآن تضحك أمي على هذه القصة.

******

كنّا في زيارة إلى بيت بعض الأقرباء وكنت في العاشرة من عمري. أرادوا أن يهدوا إلي هدية ما لكنهم لم يملكوا شيئًا مناسبًا للأطفال، فقلت لهم أعطوني كاسيت مدرسة الحب لكاظم الساهر. كانت البنت المراهقة، قريبتنا، رافضة، لكن إصرار أمها جعلني أحصل على كاسيت كاظم الساهر الخاص بي لأول مرة.

******

INSIDE_KathemIraq

حين كنّا صغارًا، كنّا نستمع إلى الأغنيات الكرديّة والأغنيات العراقيّة التي يحبها أهلنا. كنا نستمع إلى محمد شيخو وفقه تيرا وناظم الغزالي وسعدون جابر كما كنّا نستمع إلى مارسيل خليفة وسميح شقير. لاحقًا بدأ كاظم الساهر يدخل حياة العائلة. كانت أمي تتذكر وطنها الذي نُفيت منه عن طريق ناظم الغزالي  وفرقة الإنشاد العراقيّة وكانت ترنو إلى وطنها الجديد عن طريق أغنيات كاظم الساهر.

******

كان الحزب الشيوعي العراقي ينظم رحلات في محيط دمشق. ولمّا كانت أمي من بين أعضاء الحزب كنّا نشارك في تلك الرحلات. دائمًا كان هناك أحد الأشخاص من أصحاب الصوت الجميل يحمل بحة الحزن العراقيّة. وكان يغني أغاني قديمة قدم العراق إلى أن ينتهي بأغنية سعدون جابر "يا طيور الطايرة مُري بهلي.. يا شمسنا الدايرة ضوي لهلي" وكان الجميع، وحين أقول الجميع أقصد الجميع، كلّ شخص موجود باستثناء الأطفال، يبدأ بالبكاء على وطن لا يستطيع الوصول إليه. كان المغني يقول " آخ يا ديرة هلي، آخ يا ريحة هلي، آخ يا طيبة هلي" والناس تبكي. بكاء جماعي لا يتوقف إلى أن تنتهي الأغنية. فيعم صمت قصير يقطعه أحد الكبار بالعمر ويقول لعن الله الحزن لنغني أغنية فرحة. فيغنون "هذا اللون عليك يجنن" أو "عبرت الشط" أغنيات كاظم الساهر التي يفرح بها العراقيون.

أذكر صديقه الذي كان يأتي إلى بيتنا في الحيّ الغربي في مدينة القامشلي ليستمعا معًا إلى كاظم الساهر. هذا الصديق تحوّل لاحقًا إلى مقاتل ضمن صفوف المجاهدين الذين قطعوا الحدود السوريّة ذاهبين إلى العراق لمحاربة الجيش الأمريكي وقُتل هناك خلال إحدى المعارك.
أخي الذي يكبرني بأربع سنوات مرة أخرى. هذه المرة في دمشق. كان يعطي دروسًا خصوصية لواحدة من جاراتنا تصغره بسنتين. وقعت هذه الفتاة في حبه واشترت له كاسيت "قصة حبيبين" الأصلي، ألبوم كاظم الساهر الجديد.
أهرب من نصفي السوري ومن نصفي الكردي إلى نصفي العراقي الذي لا أعرفه، وأردد بيني وبين نفسي كلمات أغنية كاظم الساهر: "بغداد وهل خلق الله مثلك في الدنيا أجمعها؟"

أخي الذي يكبرني بأربع سنوات مرة أخرى. هذه المرة في دمشق. كان يعطي دروسًا خصوصية لواحدة من جاراتنا تصغره بسنتين. وقعت هذه الفتاة في حبه واشترت له كاسيت "قصة حبيبين" الأصلي، ألبوم كاظم الساهر الجديد. ومثل معظم المراهقين كان أخي ذا مزاج سيىء معظم الوقت. لم يسمح لي بلمس الكاسيت أو الاستماع إلى الأغنيات إلا حين يستمع هو إليها. غضبت منه ذات يوم واشتريت نسختي الخاصة من الألبوم، وكانت نسخة غير أصلية ابتعتها من تسجيلات المحطة، الدكان الذي يحتوي على كلّ أغنيات العرب القديمة والحديثة بنسخ مقلّدة، وكان الدكان يقع في قلب دمشق وبالتحديد في سوق القرماني الذي هُدم لاحقًا.

******

كبرت قليلًا وظهرت الموسيقى البديلة في بلدان سوريا والأردن ولبنان وفلسطين ومصر واحتلت الجزء الأكبر من وقتي. بدأت استمع إلى موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكيّة واكتشف عوالم جديدة لم أعرفها من قبل وغابت تلك الأغنيات من حياتي ومن ذاكرتي. لكنّني بين حين وآخر استرق النظر من شباك ذاكرتي على حياتي السابقة وأستمع إلى سعدون جابر وكاظم الساهر وناظم الغزالي وفؤاد سالم. أهرب من نصفي السوري ومن نصفي الكردي إلى نصفي العراقي الذي لا أعرفه، وأردد بيني وبين نفسي كلمات أغنية كاظم الساهر: "بغداد وهل خلق الله مثلك في الدنيا أجمعها؟" لكنني أقول لنفسي بعد لحظات قليلة لكنك لم ترِ بغداد ولم تزوري العراق يومًا. فأجيب نفسي وأقول لها: هي الرومانسية العراقيّة التي تجري في الدم، وهي أغنيات كاظم الساهر التي جعلتني أحب بلادًا أحلم أن أراها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard