شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
تُوران إيران، وما أدراك ما هي؟!

تُوران إيران، وما أدراك ما هي؟!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 8 نوفمبر 201802:56 م
كانت علاقتي مع الكلاب علاقة مخيفة. أخاف أشكالَها ونباحَها، وإن حصلتُ على جرأةِ منتصف النهار، لم أكن أفوّت فرصة مناحرتِها من بعيد. قد يكون السبب في ما حصل لي وأنا في الثامنة؛ خرجنا للصحراء مجموعة من العوائل المهاجرة، وكما تفعل الصحراءُ بالغرباء، انعزل الشبابُ عن الفتيات. هِمْنا كشبابٍ في الصحراء مبتعدين عن مضارب العوائل وأعيُن الآباء المتربّصة وعن الأشجار التي حمتْهم. تمادينا في الابتعاد، ولمَحْنا من بعيدٍ قطيعَ أغنامٍ فركضْنا نحوها. كنّا نتسابق مجموعة من الشباب للوصول للقطيع وكنتُ أتقدّمهم. سرقتُ نظرة للخلف لأحدّد مستوى تقدّمي، فإذا بي أرى المجموعةَ تركض عكس اتّجاه القطيع. كانت تتراجع. عدتُ بنظري للقطيع، فإذا بكلبَين يركضان نحوي. كان موتان يركضانِ باتّجاهي؛ أذنان مدبّبتان، لسانان طويلان، وسرعة غير متوقعة على الرّمال. لم يعد الركض ممتعًا كما في السابق. تنغرس القدمان في التّراب معيقةً تحرّكهما، فسقطت على وجهي. كانت مجموعةُ الشباب مثلي تركض هاربةً وتسقط؛ بيد أنّ السبب لم تكن الرّمال وحدها، بل شاركت الرّمال في إسقاطهم. MAIN_Iran-Toran2 استرجعتُ كلَّ شتيمةٍ عرفتُها في سنّ التاسعة ورميتها عليهم، ولم تسكتني إلا لحظةُ سقوطٍ رمليّةٍ موجعة. رفعتُ رأسي وإذا بأنيابٍ حادّة ولسان طويل وعينين واثبتيْن وسكوت صحراويّ مطلق. تشمَّماني ودارا حولي ثم أكملا ركضَهما إلى المجموعة الهاربة. من حينِها وأنا أخاف الكلاب؛ ولكنّه خوف فيه من الامتنانِ الشيءُ الكثير. "توران"، هي الوحيدة التي حسّنت علاقتي بالكلاب. وهي لم تحسّنها فقط، بل علّمتني أسرارَ التّعامل مع الكلاب.
ظهر أنّ الثعبان من سلالة "جعفري" أو "الحاريّة"، وهي أخطر ثعابين إيران، حيث تؤدّي عضّتُها إلى نزيفٍ في الرأس. أخطر أفعى في إيران تلدغ أطيب كلبة فيها!
في قرية تبعد عن العاصمة طهران 850 كيلومترًا، لا غاز فيها ولا أنابيب مياه. ما زالت العوائل في هذه القريةِ والقرى المحيطة بها يعتمدون على مياه النهر. عاشت توران هناك. حين كنّا نصل القرية تخرج لنا مستقبِلة. علاقةُ صديقي بها علاقة تعدّت حتى علاقة صاحبِها. كانت تستقبله بالعتب. تعاتبه على التأخير وتعاتبه على المغادرة. تصدر أنينًا أنثويًّا واضحًا. وحين يغيب أشهرَ عنها وتسوء حالتها، يتصل صاحبها به عبر "السكايب"، وما إن تسمع صوتَه حتى تعود لأنينِها، وتشكو له، ويلمع في عينِها شوقٌ مخاتل. في هذه القرية وُلدت ترجمات روايتيْ "العطر الفرنسي" و"جهة العربة"، ورسائل فروغ السرّيّة"، و"بائع الكتب"، وقسمٌ من "خالي العزيز نابليون"، و"سواقي القلوب"، وترجمات قصصية والقليلُ من الشّعر. وحاليًّا تشهد القرية تكوّنَ جنينِ ترجمةٍ لروايتيْن. في تلك القرية نتخفّف من المدن وضجّتِها ونمارس الرياضة وسط حقول القرية، ومع كلّ خطوة تهزّنا رائحةُ نبتةٍ أو تغريدة طائر أو توقّف ركضة ابن عرس أو يفاجئنا خنزير برّيّ. كانت توران تعلّمنا كيف نتعامل مع الطبيعة، وكما عُرف عدْوُ السلوقي خلف فريستِه، تعدو توران قبل أن نلحظ أقلّ حركة. مع الوقت علّمتنا من عدْوِها نوعَ ما تعدو خلفه وهي تدافع عنّا، وتتهوّر أحيانًا في دفاعها. وتهوّرها خصصته للحيوانات فقط. في استقبال توران الأخير لنا، خرجنا للمشي بين الحقول بعد آخر مطرةٍ هبطت بعد تأخّر؛ فموسمُ المطر هذه السنة نسي زيارته شهريْن كاملين. شاهدنا ما يفعله البشرُ على مدى سنواتٍ من تخريب في البيئة؛ لقد غيّروا الكثير ممّا اعتدنا على رؤيتِه. غيّرنا طريقنا المعتاد بين الحقول، حيث أحراشٌ كثيفة ونهر صغير قد جفَّ الآن. من بين الحرش جاءنا فحيح، تخيّلناه خنزيرًا برّيًّا أو ابن عرس، فلا يمكن لأفعى أن تصدر صوتًا بهذا الحجم المخيف. ابتعدنا عن الصوت الذي أرسل لنا إنذاراتِه، وتريّثنا. جاءت توران راكضة، أشعرتْنا بدُنوّ خطر منّا. حشرت نفسَها بين الأحراش. سحبت ثعبانًا سمينًا يحضّر نفسه للبيات الشتويّ. غرست أنيابَها في ظهرِه وحرّكت رأسَها بقوّةٍ حتى تطايرت دماء الثّعبان على ثيابِنا. ثمّ صمت كلُّ شيء. جاءت بقربِنا، ونظرت للفريسة متباهيةً غير فاقدةٍ لحسّ حمايتِنا. ثم نزلت في نهرٍ جارٍ صغير، وخرجت. لم تنفض نفسَها. عادت للنهر، ثمّ خرجت وجلست. لم يعد بإمكانها النهوض. ازدادت شراسة السمّ على حاجبِها. بالتحديد فوق الحاجب كانت قد عُضّت. لم تعدْ توران تحرّك ذيلَها. همدت. في هذه الأثناء وصل سائقُ جرافة، فنادينا عليه لكي يوصلها للبيت. لكن اتّضح أنه أخرس، وطلب منّا رميَ توران، فنهاية الاقتراب من "الجعفري" الموت المحتم. ثمّ اختلى بصاحبِ توران الذي وصلنا متأخّرًا بسيّارته. حين عاد صاحب توران، قال لنا وهو يهزّ يده: هل تعرفون ما طلب مني الأخرس؟ قال لي أن أقطع أنيابَ الجعفريِّ، وأشدّها على "الشكوَة" (آلة استخراج الزبدة)، ولا يعلم أنّه علينا نزعُ قرونِها، وليس أنيابها. وهي أسطورة معروفة بأنّ قرونَ الثعبان حين تشدّ على "الشكوة" تجمع زبدة البيوت والمدن من حولها، فبدل كيلو من الزبدة تحصل على عشرات الكيلوات. ظهر أنّ الثعبان من سلالة "جعفري" أو "الحاريّة"، وهي أخطر ثعابين إيران، حيث تؤدّي عضّتُها إلى نزيفٍ في الرأس. أخطر أفعى في إيران تلدغ أطيب كلبة فيها! علّمتني توران كيف أوزّع الحنان، أو كيف أُظهِره في لحظتِه، ولا أخفيه عن من يستحقّه. بات قبرُها تحت نخلةٍ قديمة قاومت سنين الجفاف.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard