شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الأنا" التي تتأمل نفسها في "سلفي" على جدران متاحف العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 31 يناير 201804:30 م

منذ قرابة سنة ونصف، أطلق موقع غوغل للفن والثقافة "Google Arts & Culture" تطبيقاً رقمياً جعل كل أخبار الموقع متاحة على الهواتف الخليوية لجميع هواة هذين الموضوعين. كان أداء التطبيق في الـApple Store متواضعاً، إلى أنّ أطلقت الشركة خاصيّة جديدة في ديسمبر/كانون الأول 2017، جعلت منه الأكثر رواجاً وتحميلاً في الولايات المتحدّة. فما سر هذا النجاح الذي ظهر بين ليلة وضحاها؟

السر في الـ"سيلفي"

السر في الـ"سيلفي"، أو بالأحرى بميزة جديدة تسمح للمستخدم بتنزيل صورة سلفي تستخدمها برمجية غوغل للعثور على شبيهتها في الأعمال الفنّية المتواجدة في إحدى المتاحف العالمية. تستند هذه الخاصية الحديثة على مشروع قام به معهد غوغل الثقافي سمّي "مشروع الفن" (The Art Project) والذي يسعى لتوفير أعمال ولوحات فنيّة شهيرة—رقمياً—بالتعاون مع أكثر من 60 متحفاً عالمياً، من مدينة ساو باولو البرازيلية إلى متحف الفن الإسلامي في الدوحة، حتى متحف بريدجستون للفن في اليابان. يمزج المشروع ما بين المؤسسات الكبيرة والمشهورة وغيرها من الأقل شهرة، والصالات غير التقليديّة في مجموعاتها وتوجهاتها الفنية، وذلك بهدف جعل الفنّ "في متناول الجميع" حيث يستطيع المرء، اليوم، التجوّل بين قاعات غوغل الافتراضية التي تعرض أكثر من 45,000 عملاً فنياً. نستطيع أن نرى تطبيق غوغل وميزة السلفي الجديدة كامتداد لمشروع أوسع بدأ مع The Art Project، يحاول تعريف الناس بأعمال فنية، سواء شهيرة أو غير معروفة، على نطاق واسع، بطريقة مسليّة و"ع الموضة". بعد تحديث التطبيق بالخاصيّة الجديدة بوقت قليل، اكتظت مواقع السوشل ميديا في الولايات المتحدّة وبعض البلاد الغربية بـ"ديبتيكات" تظهر صور السلفي في شطر منها، واللوحة الفنية الشبيهة في الشطر الآخر.

لكن التفاعل مقلقٌ، حيث أنّه يلقي الضوء على عدّة أسئلة تتعلّق بحالة التكنولوجيا والفنّ والسيكولوجيا وعلاقة هذه الفضاءات ببعضها بعضاً.

يمكن التجول في قاعات غوغل الافتراضية التي تعرض أكثر من 45,000 عملاً فنياً، ولكن هل يعني ذلك أنّ الفن أصبح في متناول الجميع؟
ليكون الفن "ديمقراطياً" وفي متناول الجميع، يتم تغييب دور النقاد والجهات المختصة بتاريخ ودراسة الفن

"الأنا" التي تتوق لتكون مؤطرة في متاحف العالم 

كيف نستطيع أن نفسّر مدى شعبية ميزة السلفي لدى تطبيق غوغل للفن والثقافة؟ هل كان هدف مستكشفي ومستخدمي التطبيق التعرّف على لوحات فنيّة جديدة أم هل الدافع امتدادٌ لموجة الاهتمام بالمنظور الشخصي الذي تعززه شبكات التواصل الاجتماعي، والذي يجسّد فضولنا لمعرفة كيف تنظر إلينا البرمجية الرقمية وكيف تصنّف ملامح وجهنا؟

هل لدينا فضول لنعرف كيف تنظر إلينا البرمجية الرقمية وكيف تبدو ملامحنا في "عيونها"؟

ربما يكون الجواب مزيجاً من الحالتين، لكنْ من الجدير بالملاحظة أنّ السلفيات التي استخدمها أصحابها في هذا التطبيق، لم تكن متصنّعة؛ لم نرَ وجوهاً متبسمّة أو صوراً جميلة، مفعمة بالحياة، بل جاءت خالية من التعابير، وأحياناً مصورة من زوايا غير مناسبة، وكأنها معدّة خصيصاً لبرمجية غوغل. تقول العالمة والباحثة كيتي وارفيلد أنّ الـ"سلفي" بحد ذاتها ليست شكلاً من أشكال الفن الجديد، بل إنّها تكرار لأشكال من الماضي تجمع ما بين النوستالجيا والفن التقليدي وأغرض شخصية، كالصورة الذاتية في تاريخ الفن والصور العائلية في الألبومات. ولقد خلقت الديبتيكات (diptychs) التي أنتجها تطبيق غوغل للفن والثقافة نوعاً خاصّاً من "الفن" إذا جاز التعبير، موجّه لنوع خاص من المتاحف: "متحف" Instagram وTwitter الرقمي الذي يجمّله المستخدم ويعيد تنسيق "قطعه" على طريقته الخاصّة. 

هل يمكن أن يصبح الفن أكثر "ديمقراطية"؟

تنبّأ المفكر والناقد الفنّي جون برجر في كتابه الشهير "طرق الرؤية" أنّه من المحتمل أن تستبدل، مع الوقت، المتاحف التقليدية بمؤسسات أو طرق أكثر ديمقراطية لرؤية الفن، طرق لا تعتمد على هرميات ثقافية أو ونخبة من المختصّين. ولكن هل يسعى تطبيق غوغل الجديد وصور السلفي لتحقيق ما تصوره برجر؟ من جهة، يحاول التطبيق جعل الفن الراقي والمتحف، الذي يراه البعض كمؤسسة ثقافية لا يستطيع أغلبية الشعب التواصل معها وزيارتها أو الوصول إليها، إلى ساحة رقمية متاحة لكل من لديه هاتف خليوي وتجربة متفاعلة. هذه الفكرة كانت وراء رؤيا رئيس غوغل للفن والثقافة، أميت سود، الذي يسرد تجربته الخاصة، من شبابه في مومباي، حيث لم تكن زيارة المتاحف ممكنة لعامة الناس، بل كانت حكراً على الأثرياء. فإذ أردنا لشخصٍ مثله أن يتفاعل مع الفن، لا بدّ من إعطائه سبباً ومنصة وفرصة للتّفاعل، وهذا ما يقدّمه المشروع، على الأقل بحسب سود. نضيف إلى هذا، سبباً أعمق مرتبط بشكلٍ وثيق بالفضول البشري؛ فضول المرء لمعرفة نفسه أكثر، ومن ثم مشاركة تلك النتائج مع مجتمع رقمي يتعاطف معه ويقدره (وربما يعجب به، ويضع له "لايكات")، فلا تكتمل التجربة إذ كانت على الصعيد الشخصي دون جمهور. من المثير في هذه النقطة بالتحديد، أن شبيه المرء، أو "توأمه" الفنّي، قد لا يتوافق مع نظرة صاحب السلفي لنفسه ولا مع تصوره لاعتقاد الآخرين ونظرتهم له. فبعض ممن شاركوا في تجربة "السلفي" استاؤوا مما قدمته شركة غوغل عن أشكالهم، بينما شعر البعض الآخر بالإطراء. ومن الجدير بالذكر هنا، أنّ التطبيق يكشف، ولو دون قصد، مركزية غربية: فلن يجد المستخدمون من أصحاب الخلفيات العرقية المتنوعّة— غير الأوروبية—أنفسهم ممثلّين في هذا التطبيق. فبالرغم من اشتراك عددٍ هائلٍ من المتاحف في مشروع غوغل للفن، تبقى غالبيتها متمركزة في دول أوروبية وفي الولايات المتحدّة، حيث لاتتوفر بالضرورة "أطرٌ" تصويريّة لغير الأوروبيين، وإن وجدت، تبقى محكومة باعتبارات سياسية وإجتماعية.

هل من مستقبل دون خبراء ومختصين ونقّاد للفن ومدارسه وتواريخه؟

إنّ مهمّة التطبيق، كما يصرح عنها المشرفون على غوغل، هي أن تجعل الفن أكثر ديمقراطية، ولكن هذه الجملة التي تستخدم مفاهيم تروق لغالبية الناس، تخفي وراء فكرة "الديمقراطية" حقيقة مقلقة، لأنها تستبدل نقّاد الفن والمختصين والباحثين في مختلف المجالات المتعلقة بالفن، بشركة متعدّدة الجنسيات تسيطر ولو بشكل غير مباشر على ما نراه ونسمعه على شبكات التواصل الإجتماعي. نضيف إلى ذلك أنّنا لا نعلم ما الذي ستفعله شركة غوغل بهذا الكم الهائل من صور السلفي الشخصية. هل ستستخدمها لتطوير برمجية الذكاء الإصطناعي والتعرف على الوجه؟ أم هل ستعطي الصور لمجموعة أخرى، توظفها بدورها في مجالات جديدة لا سيطرة لنا عليها؟ يبقى هنالك خطورة متعلقة بـ"التجول" من خلال التطبيقات الرقمية، حتى إن كان ذلك في متحف افتراضي صنعته غوغل تحت راية جعل الفن متاحاً للجميع. تثير التداعيات الثقافية والسياسية والسيكولوجية لطبيق غوغل الجديد وميزة السلفي أسئلة متشعبة عن مخاطر العالم الرقمي والتغيرات المستقبلية التي يعيش بوادرها عالم الفن اليوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard