شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا تختلف صورة المقدس في الأديان الإبراهيمية؟

لماذا تختلف صورة المقدس في الأديان الإبراهيمية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 أغسطس 201710:17 ص
رغم حالة التماهي والتداخل الشائعتين بين دلالة مصطلحي "المعبود" و"المقدس"، ومقصدهما، فإنه من المؤكد أن عند الرجوع للتعريف الأصلي لكل منهما فإننا سوف نجد تمايزاً وتبايناً واضحاً يفض حالة الاشتباك القائمة فيما بينهما. المعبود، هو الإله الذي يقوم المؤمنون به بعبادته، والانصياع لأوامره وأحكامه وشرائعه، أما المقدس فهو شيء مرتبط بالمعبود بشكل من الأشكال أو بصورة من الصور، فقداسته لا تنبع من نفسه، كما هو الحال مع المعبود، بل إن منشأ القداسة والاحترام والتنزيه تتأتى له من كونه تابعاً للمعبود. وإذا كانت معظم الأديان والعقائد قد آمنت أن معبوداتها ذات شكل خفي غير ظاهر ولا يمكن تجسيده ولا تمثيله، فإنها في الوقت ذاته قد عملت على تصوير عدد من المقدسات المرتبطة به، وهو الأمر الذي لا تستثنى منه الأديان السماوية الثلاثة نفسها، حيث مرت في مراحل تطورها بعدد من الأطوار الفكرية التي عملت فيها على تجسيد مقدساتها بأشكال مختلفة.

في اليهودية: نحشتان والعجل والكروبيم

منذ البدايات الأولى للدين اليهودي، عملت النصوص العبرانية على تأكيد سمة الوحدانية والبعد عن المعبودات المجسدة، حيث ورد في سفر الخروج "لا تَصْنعْ لك تمثَالاً منحُوتاً، ولا صورة ما ممَّا في السَّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأَرض". وجرى تأكيد ذلك الأمر مرة أخرى في سفر التثنية، وهو ما يبين الحرص الشديد على عدم الانسياق خلف العادات الوثنية التي كان اليهود قد تأثروا بها من جراء تعاملهم الطويل مع المصريين ذوي المعبودات المجسدة المتعددة. وتوافقاً مع ذلك الاتجاه، تمّ تحريم تصوير إله اليهود (يهوه)، ولكن رغم ذلك، فإن هناك عدداً من المقدسات التي تم تصويرها في بدايات التاريخ اليهودي. ومن ذلك، أن اليهود بعد أن خرجوا من مصر، وأثناء تلقي موسى الوصايا العشر من يهوه، فإن قطاع كبير منهم قد جمعوا ما لديهم من ذهب وحُلي، وصنعوا منها عجل، واعتقدوا أن ذلك العجل هو رمز للإله يهوه، فلما قدم موسى غضب غضباً شديداً ودمر ذلك العجل. ومن الصور الأخرى للمقدسات اليهودية المبكرة، ما عُرف باسم الحية نحشتان، فعندما هاجمت الأفاعي العبرانيين بعد خروجهم من مصر، فإن يهوه أمر النبي موسى بصناعة تمثال لحية من النحاس، وأن ينظر لها كل من تم لدغه، حتى يُشفى من مرضه. ورغم أن تمثال الحية، لم يكن مقدساً في البداية، إلا أنه ومع مرور الوقت قد نال مكانة عالية وسط اليهود، حيث أصبح الكثير من اليهود يعبدونه، وهو ما دعا النبي حزقيال لتدمير هذا التمثال تماماً. من المقدسات الأخرى التي تم تصويرها في اليهودية، ما يُعرف باسم الكروبييم، وهو نوع معين من أنواع الملائكة الذين ذُكروا كثيراً في العهد القديم. ورد في العديد من الأسفار مثل أخبار الأيام الأول والملوك الأول، أن الهيكل المقدس الذي أقامه الملك سليمان كان به العديد من صور الكروبيم التي تم طلاؤها بالذهب، وقد كانت الكروبيم تشبه تماثيل أبي الهول المجنحة في مصر وفينيقيا والثيران المجنحة في بابل وأشور. INSIDE_SouratElMoqaddas1INSIDE_SouratElMoqaddas1 ومن المهم أن نلاحظ أنه وبحسب المصادر اليهودية، فإن فترة الملك سليمان تحديداً، قد شهدت ميل اليهود للتعرف على المعبودات الكنعانية والفينيقية والمصرية، وذلك بسبب زواجه من الكثير من الأميرات الأجنبيات، التي قدمت كل واحدة منهن إلى فلسطين، حاملة تماثيل وصور للمعبودات والمقدسات المنتشرة في أوطانهن.

في المسيحية: تقديس الأقانيم

الاعتقاد السائد في المسيحية هو أن الأقنوم الأول (الآب)، لا يتم تصويره أو تجسيده، في الوقت الذي يتم فيه تصوير الأقنومين الأخرين (الابن والروح القدس)، وكذلك بعض الشخصيات المؤثرة في الدين المسيحي، مثل العذراء مريم، والرسل والقديسين والرهبان والشهداء. 
الجدل المسيحي حول صورة المقدس أخذ الشكل الجسدي الصوري، أما نظيره الإسلامي أخذ منحى لغوياً
لماذا نرى صورة المسيح مختلفة في كل منطقة، تارة أزرق العينين أو أسود البشرة، أو سلافي الهيئة؟
ومن غير المعروف كيف كانت البداية الحقيقية لتصوير السيد المسيح، ومتى تم ذلك للمرة الأولى على وجه التحديد، وأغلب الظن أن ذلك الأمر قد وقع خلال الحقبة البيزنطية في القرن الرابع الميلادي، حيث كان هناك اتجاهٌ سائدٌ يعمل على تصوير الشخصيات المهمة والمؤثرة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل كانت صورة المسيح التي رسمت في تلك الحقبة، صورة حقيقية فعلاً أم أنها كانت مجرد صورة رمزية فحسب؟ الرأي الذي يميل له أكثر العلماء والمحققين في تلك المسألة، هو أن صور المسيح المنتشرة، ما هي إلا صور رمزية، ويستدلون على ذلك بإن المسيح في تلك الصور يظهر بشكل مختلف بحسب طبيعة وثقافة البلد المصور فيها، فهو في أوروبا الغربية وأميركا أبيض البشرة أزرق العينين، بينما بعض صوره في أثيوبيا وأفريقيا تُظهره أسود البشرة، كما أن صوره في روسيا وأوروبا الشرقية تقربه من الشكل السلافي الذي تمتاز به الشعوب التي تسكن في هذه المنطقة من العالم. معنى ذلك أن الثقافات المختلفة قد طورت صورة المسيح بحسب ما أرادته هي، وليس بحسب الحقيقة المجردة. [caption id="attachment_119075" align="alignnone" width="700"]INSIDE_SouratElMoqaddas2INSIDE_SouratElMoqaddas2 من القرن الثامن عشر في أثيوبيا[/caption] الكثير من رجال الدين المسيحي، يقفون على الجانب الأخر من تلك المسألة، فهم يؤكدون أن صور المسيح المنتشرة حالياً ما هي إلا نسخ عن صورته الحقيقية، ويستشهدون على ذلك بقصة القديسة فيرونيكا. فبحسب الاعتقاد المسيحي، فإن فيرونيكا كانت تسكن أورشليم زمن المسيح، وأنه عندما تم اقتياد المسيح لصلبه، شاهدته فيرونيكا ووجه ملطخ بالدماء، فأحضرت منديلها الأبيض ومسحت به وجهه، فلما نظرت فيما بعد للمنديل وجدت وجه السيد المسيح وقد انطبع عليه. وبحسب الاعتقاد الكاثوليكي، فإن فيرونيكا بعد ذلك قد سافرت إلى روما حيث شفت الإمبراطور طيبيريوس بقوة المنديل، ثم تنقل هذا المنديل المقدس فيما بعد بين عدة أيدي حتى استقر في النهاية في خزائن البابوية في روما. ومن المهم ملاحظة أن صور وتماثيل المسيح والعذراء قد انتشرت في أنحاء كثيرة لم تشهد تواجداً قوياً للدين المسيحي، فبحسب ما أورده الأزرقي في كتابه أخبار مكة، فإن باطن الكعبة قبل الإسلام قد شهد تواجد صور عدد من الأنبياء، مثل إبراهيم وعيسى بن مريم. ومن الجدير بالذكر، أن مسألة التصوير والأيقونات، قد شهدت أحياناً، معارضة ورفض من داخل الصف المسيحي نفسه. فعلى سبيل المثال، أعلن الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الإيسوري، في عام 726م، عن تحريم توقير الأيقونات، مما أدى لاشتعال ثورات عارمة، واستمرت الأوضاع مضطربة داخل الإمبراطورية حتى عام 787م، عندما تم عقد المجمع المسكوني السابع، وتم مناقشة هذه المسألة، وجرى الاتفاق على إعادة تقديس الأيقونات، وعدم تعارض ذلك مع روح التوحيد في المسيحية، وهو ما عبر عنه يوحنا الدمشقي بقوله: "لا يمكن رسم الله الذي لا يدرك، وغير المحدود، أما الآن وقد ظهر الله بالجسد وعاش بين البشر، فأنا أرسم الله الذي تراه العين، فأنا لا أعبد المادة بل خالق المادة الذي استحال مادة لأجلي".

في الإسلام: تقديس اللغة بدلاً من الصورة

منذ بداية الرسالة المحمدية، جرى التأكيد على ضرورة البعد عن تصوير كل ما فيه روح، سواء كان للإنسان أو لسائر الحيوانات، وسواء كانت الصور مجسمة أم رسوماً على ورق أو قماش أو جدران. وقد وردت في ذلك المعنى، الكثير من الأحاديث النبوية، منها على سبيل المثال، ما أخرجه كلُّ من البخاري ومسلم "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون". كثرة النهي عن التصوير والرسم، بالإضافة إلى العداء الواضح للتماثيل والأصنام والأوثان لما لها من علاقة أكيدة بالشرك والكفر، جعلت العرب المسلمين يبتعدون بشكل تلقائي عن فكرة الأقانيم والصور، ولو أنّ دراسة أعمق لهذا الميل لا تزال ضرورية في هذا المجال، خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار انتشار الرسم في أطر غير دينية، كفنّ المنمنمات، على سبيل المثال. الحال تغير قليلاً مع توسع العالم الإسلامي، وانضمام العديد من الشعوب إلى ثقافته واسهامهم بتطورها بعد ذلك، بدأ رسم صور المقدسات الإسلامية بحسب تقاليد الشعوب الإسلامية وعاداتها وموروثاتها الفكرية والفنية. فعلى سبيل المثال عمل الفرس والأتراك والهنود على تصوير الرسول، فرُسمت عدد من الصور الفنية التي تبين بعض المواقف المهمة من السيرة النبوية، مثل وقت مولد الرسول ومعجزة الإسراء والمعراج وبعض الغزوات المختلفة. [caption id="attachment_119076" align="alignnone" width="700"]INSIDE_SouratElMoqaddas3INSIDE_SouratElMoqaddas3 معركة بدر[/caption] ولكن رغم تلك المحاولات المتعددة، إلا أنها لم تشهد تطوراً حقيقياً في التاريخ الإسلامي، فقد ظل الاتجاه التقليدي المعادي لتصوير الرسول هو المسيطر والغالب على عموم المسلمين.  هذا الرأي يمكن تدعيمه ببساطة من خلال النظر لأي مسجد أثري قديم ومقارنته بكنيسة مسيحية تعود لنفس الفترة تقريباً، فبينما نجد أن الكنيسة قد امتلأت في كل أركانها وزواياها بالأقانيم والصور والرسومات، فإننا سنجد في المقابل، أن المسجد قد احتوى على كميات ضخمة من الكلمات والجمل والعبارات الدينية المقتبسة من القرآن والحديث الشريف. ومن هنا، فإن المفكر المصري يوسف زيدان، قد طرح في كتابه اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، وجهة نظر ترى بأن الجدل الفكري الأكبر والأهم في تاريخ المسلمين، والذي يتمثل في مسألة خلق القرآن، كان في حقيقته، إعادة تجلي للجدلية المسيحية الخاصة بطبيعة المسيح وماهيته، ولكن في صيغة لغوية. INSIDE_SouratElMoqaddas4INSIDE_SouratElMoqaddas4 وعلى أي حال، إنْ كان الجدل المسيحي قد أخذ الشكل الجسدي الصوري، فإن نظيره الإسلامي قد صيغ في صورة لغوية كتابية. المصادر: صحيح البخاري؛ صحيح مسلم؛ أخبار مكة للأزرقي؛ اللاهوت العربي وأصول العنف الديني ليوسف زيدان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard