شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل ستسترجع سوريا شيئاً من آثارها المفقودة؟

هل ستسترجع سوريا شيئاً من آثارها المفقودة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 25 ديسمبر 201708:06 م

لطالما كانت سورية "مأوى لكل الشعوب التي مرّت بها"، من الحضارة الكلاسيكية الهلنستية إلى الحضارة الإسلامية، كما يقول الدكتور ناصر ربّاط، رئيس برنامج الآغا خان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والسوريّ "عالميٌّ" لأنه "يتعامل مع الحضارات التي اختلطت على أرضه، تعامل الندّ للندّ وتعامل المحتوي لها". دمشق القديمة، والمسجد الأموي في حلب، وقلعة الفرسان وصلاح الدين في حمص، ومدينة تدمر الأثرية، وبصرى القديمة جنوب البلاد، وقرى ريف حلب الشمالي، مار مارون تحديداً، جميعها مناطق أثرية سورية، أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث المادي العالمي، فماذا بقي منها فعلاً؟

أكثر من 4500 موقع أثري اكتشف في سوريا حتى نهاية القرن الماضي، على أرضها التي احتضنت أقدم حضارات العالم. لعلّ أشهر مواقع آثارها هو مملكة أوغاريت الساحلية، التي ازدهرت بين عامي 1200 و1450 قبل الميلاد، وقدمت أول أبجدية عالمية، قبل أن تقدم أول نوتة موسيقية وأول مسرح وخزف وصناعة. لاحقاً تتالت على أرض سورية الحضارات الفينيقية والآشورية وإيبلا وماري في عصور التاريخ القديم، أما عن فترة ما قبل التاريخ، فبعض الدراسات تشير إلى وجود تجمعات بشرية على شكل استيطانات كانت في العصر الحجري قبل الفخاري. منذ بداية الحرب في سورية، قبل نحو ستة أعوام وبضع، امتدت المعارك لتسكن معظم الجغرافية السورية، بين مدن وأرياف، حتى أنّ المناطق الأثرية شهدت معارك لا تقل شدة عن تلك التي شهدتها جبهات أخرى، وبرز إلى الواجهة الحديث عن مناطق بعينها، أهمها نمرود ونينوى والحضر العراقية، وتدمر السورية وقلعة الحصن الشهيرة، كلها مناطق كانت هدفاً للتنظيمات المسلحة ومنها تنظيم داعش خلال الأعوام الماضية، وإن كان التنظيم قد تفوق على سواه في مستوى إهانة القيمة الأثرية والسعي إلى محوها، بحجة محاربة " الوثنية والصنمية "، بحسب ما أكده التنظيم مراراً، فلم يدخر جهداً في تحطيم كل ما وصل إليه، موثقاً كل تلك الأعمال بالفيديو. تحدث الباحث في شؤون الآثار، الدكتور يوسف كنجو مع رصيف22، عن مسألة التدمير في ظلّ التنديد المتواصل من اليونسكو ووقوف الحكومات شبه عاجزة عن حماية التراث، كنجو يرى أن التنظيمات المتطرفة تعمل وبقوة في سبيل تحقيق هدفها واليونسكو ليس لديها الوسائل أو الدوافع القوية في سبيل حماية الهوية التاريخية. ويؤكد أن المعني الرئيسي في الحفاظ على الهوية هو المجتمع قبل أي جهة أو نظام فهو بالدرجة الأول من يملك الحق والواجب لحماية هويته أمام كل هذا التدمير.

كنجو، صاحب مشروع "تاريخ سوريا في مئة موقع أثري"، وكتاب بنفس العنوان، ألفه برفقة باحثين متعددي الجنسيات، والذي شمل دراسة فترة تمتد على مليون و800 ألف عام وصولاً إلى العصر الإسلامي، يرى أن هناك أنواعاً للمباني والأماكن المدمرة ما بين الأثري والتاريخي يصعب ترميمها. ومن وجهة نظره أنّ حالة حلب القديمة تختلف تماماً عن مدينة تدمر، وباعتقاده أنه في حالة حلب يمكن أن ترمم المدينة لكن في حالة تدمر فسيكون من الصعب جداً إعادتها إلى ما كانت عليه نظراً لطبيعة التدمير والمباني الأثرية ونقص الخبرات والتمويل.

سورية التي كانت "مأوى لكل الشعوب التي مرّت بها"، ماذا سيبقى بعد دمار الحرب من آثار تاريخها الغني؟
بدون تاريخ يوحّد ذاكرتنا الجمعية، ستتحول المنطقة إلى قبائل وطوائف وشعوب متنافرة تدمر بعضها

الآثار السورية: مادية وحيّة

تختلف التقييمات بين منطقة وأخرى، تبعاً لضراوة المعارك التي شهدتها مناطق من البلاد مقارنةً بأخرى، فدمشق القديمة مثلاً لم تشهد أي حراك مسلح، ما جعل الوضع فيها جيداً مقارنة بمعظم المواقع الأثرية في سوريا، وتحديداً في "لؤلؤة الشرق"، وهو الاسم القديم لمدينة تدمر، المدينة التي شهدت معارك ضارية في أواسط شهر أيار/مايو 2015، انتهت تلك المعارك بسيطرة تنظيم داعش على المنطقة، قبل أن يستعيدها الجيش في آذار مارس 2016، ثم معركة لاحقة سيطر خلالها التنظيم على تدمر مجدداً في شهر تشرين الثاني نوفمبر 2016، ولكن سرعان ما استعادها الجيش السوري. كل تلك المعارك جعلت من أثار تدمر عرضةً للفتك المباشر، ناهيك عن عمليات السرقة الممنهجة للآثار السورية هناك، وهو ما تحدثت عنه الأمم المتحدة وحذرت منه معيدةً عمليات السطو إلى جماعات متطرفة امتهنت التنقيب غير الشرعي، وأردفت أن تلك الجماعات مسلحة. وكان داعش خلال سيطرته الثانية على تدمر قد عمد إلى تفخيخ وتدمير معابد بل شمين بالإضافة لأقواس النصر والمدرج الروماني الكبير، الذي يرجع تاريخه للنصف الأول من القرن الثاني الميلادي، بعد أن كان التنظيم قد بث فيديو لإعدامه عشرين جندياً سوريا على المسرح، نفذ حينذاك ما يسمى بجنود الخلافة عملية الإعدام، في مظهر كان السواد سيده برايات انتشرت على امتداد المدرجات، وفي هذا الإطار يقول الدكتور محمد موسى، الخبير في شؤون التربية، أنّ داعش أراد من اختياره أهم الصروح الأثرية في الشرق، التدليل المضاف أنّ الآثار لا تعني له شيئاً، وأنها ستظل هدفاً له، وهو ما تأكد بعد تفجيره المدرج لاحقاً. فضلاً عن ذلك، فقد كان التنظيم عمد إلى اعتقال العالم الأثري السوري البارز خالد الأسعد، ثم قتله لاحقاً، العالم الذي كان له دور مهم في الكشف عن العديد من اللقى الأثرية علاوةً عن مؤلفاته المتعددة، وبمقتل الأسعد شهد تاريخ التوثيق تسجيل ندبة قاسية حملها الوسط المعني بالشأن الحضاري، وباعتقاد كنجو، أن مقتل الأسعد هو وصمة عار في تاريخ البشرية، لكن في نفس الوقت فإن الأسعد ترك جيلاً من الأثريين القادرين على القيام في التوثيق الآثار خاصة في تدمر. ويضيف كنجو، أنّ قسماً من الأثريين السوريين بقي في البلاد وقسم آخر قد فضل الهجرة، أما الباقون فيعملون على تدوين التاريخ بقديمه وحديثه.

سرقة الآثار السورية

بحسب الأمم المتحدة، فإنّ سوريا اليوم، كما العراق قبل نحو 13 عام، تشهد الكمّ الأعلى من نسبة سرقة الآثار الأصيلة، فضلاً عن عمليات التنقيب غير المشروع، التي لا زالت ترتفع وتيرتها باضطراد، خاصة في تلك المناطق التي لا تشهد سيطرة رسمية للحكومة السورية، فعمليات السرقة شملت المناطق الأثرية والمتاحف في آن معاً، إلا ما تم إنقاذه في مواقيت سابقة عبر نقله إلى متحف العاصمة السورية، دمشق، ليبقى الهاجس الأكبر هو إمكانية استعادة تلك الآثار بعد أن تضع الحرب وزرها، وهذا لا يعني سهولة الأمر، فهو يخضع لقوانين دولية معقدة جداً، وتختلف من بلد لآخر. ولا يعتبر هذا الأمر طارئاً في تاريخ سوريا، فقد سرق سابقاً الكثير من أثارها في فترتي الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، ولكن في الحالة الراهنة يرى كنجو  أنه من الصعب استعادة كل الآثار لكن حتماً سيعاد قسم منها وقد يكون قليلاً وبسيطاً، وذلك نظراً لوجود قطع أثرية لن تظهر في المستقبل القريب إلى العلن، وستبقى مخبئة كممتلكات خاصة، كما أنّ الأمر يتطلب تشكيل جهة خاصة من خبراء في القانون الدولي والأثري وبعض العلماء. وبدوره يعتبر الباحث التاريخي أحمد داوود، في حديث لرصيف22، أننا أوشكنا على خسارة ماهيتنا الذاتية، فيعتقد أن الحرب على سوريا كما هي على العراق، تهدف النيل من القيمة التاريخية والأثرية، وخاصة في ظل الكم المسروق وتدمير الآخر، ويربط "داود" عملية سرقة الآثار بأهداف سياسية مباشرة، يقول أنها حاضرة وواضحة للعيان، وأنّ تدمير أوابدنا الحضارية هو جزء من عمليات تدمير وجودنا: تاريخياً وراهناً، فهي بالتالي سوية من سويات إلغائنا العامّ، لتحويل المنطقة إلى قبائل وشعوب متنافرة تناوش بعضها دون حاجة لتدخل الجهات الخارجية. وكما يذكرنا داوود، إن التراث ليس قائماً على الحجارة وحدها بل هو حاضر كحالة من التأثير الدائم والتراث الحيّ، وليس بإمكان أية حرب مهما دمرت أن تلغي الإبداع التاريخي الحضاري في سوريا. وهو ما نحفظه ولازلنا نعيشه بأشكال عدة، وهذا منظور هامّ في جهود إعادة البناء وحماية التراث. 

هل دخلت سوريا في عصر تاريخي جديد ينسف ما سبق؟

أجاب كنجو  عن هذا السؤال في ختام مؤلفه، بأن هذه مرحلة مفصلية، تتطلب مراجعة الأبحاث القديمة مع ضرورة إعادة النظر في هيكلة متاحف سوريا، في رؤية مختلفة عما قبل، وألا تقتصر مهمتها على عرض اللقى الأثرية، إنما تتعداها لعرض المعرفة السورية القديمة وأن يكون ذلك منطلقاً لعصر جديد يتناسب مع التطور الحضاري الحديث وفي نفس الوقت يبرز العمق التاريخي لمنطقة الشرق الأوسط وما قدمته هذه المنطقة من معرفة إلى العالم ليس خلال فترة محددة وإنما خلال جميع مراحل تاريخ الإنسانية. في حين يرى داوود، أنّ هذه الحرب مقبلة على نهاية تثبت هوية حضارية راسخة ولسائر المنطقة العربية. وسيكون الإقليم الشرق الأوسطي كله مضطراً لسلوك نهج مشابهٍ بحكم معطيات ما سيتقرر على الأرض السورية من اتفاقات ناظمة لعلاقات دولية جديدة. ويضيف بأنّ ما دمر فيها من أوابد يمكن ترميمه كما يمكن استرداد بعضه من السوق الدولية، ولكن ما يخيف داوود بحسب تعبيره هو ما قد يكون أصاب ثقافة الشباب من نكوص نحو العدمية وعدم الاكتراث بالتاريخ. ويرى بأنّ هناك اليوم من شعب سورية من هم مؤمنون بحضارتها ومن يتبقى من هؤلاء سيكون قادراً على انتشال الكثير من الحطام الحضاري السوري إن أعطوا بعضاً من الفرص لذلك.

ماذا ستحفظ الذاكرة الجمعية السورية عن تاريخ البلد؟

لا شك أن الحرب الدائرة ستفرز رؤى جديدة قد تختلف أو تتفق في بعض النواحي عما تكون سابقاً، لكن الاختلاف يعتمد عمّ سيقدمه السوريون في الجيل الحالي أو على ما سيتفق عليه والذي سيشكل قاعدة جديدة لتكوين ذاكرة الجيل القادم. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الحضارة القديمة لن تتغير وستبقى جزءاً أساسياً من الهوية التي تشكل حتماً جزءاً من الذاكرة الجماعية السورية، بحسب كنجو.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard