شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن خوف ورثته عن أمي وآخر أورثته لابنتيّ

عن خوف ورثته عن أمي وآخر أورثته لابنتيّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 25 مايو 202310:34 ص

كانت لأمي نبرة صوت حادة، مرتفعة، شاذة عن صوتها الرصين المعتاد، وكنا نسمعها في مناسبة واحدة فقط: عندما تعترضها فأرة في المطبخ.

رغم كون وجود الفئران في المطبخ فكرة مقزّزة، إلا أنها لم تكن غريبة بالنسبة لبيت قروي بطابق أرضي وحيد، يترك أطفاله باب مطبخه المطلّ على الحديقة مفتوحاً دائماً، متجاهلين كل التهديدات والتنبيهات، ولم يكن ليُستغرب، بالنسبة لربة المنزل القروية، تسلّل فأر بحثاً عن الدفء أو الأكل، فهذا من مشكلات البيوت الريفية الشائعة، إلا أن حالة الخوف الهستيري التي كانت تسيطر على أمي عند رؤية هذا المخلوق، الذي لا يتعدّى حجمه حجم البيضة، كانت غريبة جداً، خوف يدفعها لمناداة أبي باسمه بدون أي بروتوكولات كان تقيّد نفسها بها أمام أي شخص لا يقطن منزلنا، مهما كانت صفة قرابته. لا أنكر أنني كنت أنتظر صراخها الحاد لأضحك وتغمرني سعادة ساذجة، وأتيقّن مرة أخرى في سرّي أن أمي الحازمة دوماً كائن بشري هشّ، لديه مخاوف كالجميع ونقاط ضعف.

وراثة الخوف

يجزم المختصون أن لا وجود لجينات مسؤولة عن نقل الخوف من الآباء إلى الأبناء، وأن الخوف شعور مكتسب بفعل الأسباب النفسية والاجتماعية والبيولوجية، ويبدو أنني بفعل الأسباب آنفة الذكر ورثت عن أمي خوفها من الفئران وجميع الحيوانات، وورثت عنها الخوف من أقاويل الناس وتعييبهم والحاجة لهم، ومن قول "لا" ولو كلفني الأمر راحتي وجهدي، وأخذت عنها محاولة إرضاء الجميع دون استثناء على حساب نفسي، والتبرّع بكل شيء حتى لو كان آخر ما أملك.

ورثت عن أمي خوفها من الفئران وجميع الحيوانات، وورثت عنها الخوف من أقاويل الناس، ومن قول "لا" ولو كلفني الأمر راحتي وجهدي، وأخذت عنها محاولة إرضاء الجميع على حساب نفسي، والتبرّع بكل شيء حتى لو كان آخر ما أملك

إنه لمن المخيف أن يظنّك الآخرون شيئاً يشبه أفكارهم لا حقيقتك، كما ورثت أيضاً خوفها من مصادفة قبلة على التلفزيون، وكان من المفترض أن أرث عنها الرعب من أن يلحظ ضيوفي غباراً تحت سجادتي، أو أن يرى الجيران أرضية منزلي مفروشة بالدمى المحشوة والألعاب المكسورة والملابس المتخشّبة على منشر الغسيل، دون أن يشفع لي وجود أطفال يستكشفون وجبل من الواجبات المهنية، كان يجب أن أرث الخوف من رؤية جسدي وتجنب النظر إليه في المرآة، أو ارتداء أي شيء يظهر تفاصيله حتى في زنزانة منفردة، لكن تباشير الوعي واللامبالاة داهمتني مبكّراً.

الخوف موجود دائماً لكنه غير مرئي

كان غريباً جداً أن تخاف امرأة تدخل غرف العمليات ـــ تمسح الدماء وتعطي الحقن وتنظّف الجروح وتخيطها وتفكّ القطب، وتشاهد بأم عينها الأمعاء والأرحام والمرارات والكلى والبروستات ــ من فأرة! امرأة من بين نساء كثر يواجهن سباب المُبنّجين ونزق القلقين واتهام المهملين وتحرّش اليائسين في ليالي المناوبات الطويلة. كيف تخاف أمي وهي المتنقلة أبداً على ألسنة الريف الثرثار والمدينة البعيدة، المتجوّلة عزلاء في أسواق الخضار الشعبية المزدحمة، المترجّلة بكيلوغرامات كثيرة من وإلى مواصلات النقل العام، المتكتّمة على أسرار العالم والعمل ومخاوفه ومصائبه ومشاكله التي لا تنفصل عنه.

من المخيف أن يظنّك الآخرون شيئاً يشبه أفكارهم لا حقيقتك

الخوف بداخلها كان موجوداً حقاً وكبيراً، يضيق على صدرها أن تتحمله، مارد في القمقم ينتظر يداً ما تحكّه بغتة، خوف يتجمّع على هيئة خفافيش في بئر سحيقة مظلمة، تسند ظهرها إلى جداره وحيدة واضعة رأسها على ركبتيها المضمومتين ويديها على عينيها المشدودتين، إلى أن تمرّ الفأرة، فتحكّ المصباح وتسقط غطاء الجبّ لتخرج الخفافيش صارخة بفعل الضوء الذي دخل فجأة.

الأمومة لحظة تعرّ أمام الحقيقة

"الخوف ينتقل من الآباء والأمهات إلى الأبناء عن طريق الإيحاء والمشاركة الوجدانية". وضعت قول الدكتور صموئيل حبيب في كتابه "الخوف" نصب عيني وأنا أحاول أن أكون نسخة محسّنة عن أمي، لذا تعرّيت أمام نفسي، ووضعت إصبعي في عين نقاط ضعفي، وجرّبت في كثير من الأحيان ما يدعوه علماء النفس "العلاج بالتعرّض"، مارست الاقتراب من الحيوانات وملاطفة الكلاب والقطط حتى أحببتها حقاً، قتلت بواسطة مكنسة فأرين في منزل أمي، وتفاخرت بذلك أمام أطفالي.

أنا امرأة تريد أن تضع حجراً كبيراً على هوّة الخوف تلك، أم لا تريد أن تخاف ولا أن يجد الخوف طريقاً إلى قلوب أطفالها، لا أريد أن يجلسوا بجوار أمهم وجدتهم في البئر اللعينة تلك، لذلك كنت أرى أعظم انتصاراتي حين تلاطف ابنة السنوات الست كلباً أو تمسّد ريش دجاجة، أو أن تقول لوالدها: "لا أرغب أن تعانقني الآن"، دون أن تكون فكرة الخوف مما سيحدث هي الفكرة الافتراضية التي تسعفها بها البديهة في مواجهة أي كائن، تعلّمتُ وعلمتهما الفرق بين الخوف والحدود والتقزّز، وأعمل حتى اليوم على استقصاء خوفهما من الظلمة وحله.

أنا امرأة تريد أن تضع حجراً كبيراً على هوّة الخوف تلك، أمّ لا تريد أن تخاف ولا أن يجد الخوف طريقاً إلى قلوب أطفالها، لا أريد أن يجلسوا بجوار أمهم وجدتهم في بئر الخوف اللعينة تلك

العودة إلى حضيض النقطة صفر

في فجر 6 شباط 2023 استيقظت على ارتجاج منزلي كما الجميع، لم تسعفني البديهة أن ما يحدث يسمى زلزالاً، لذا تسمّرت في سريري متوسّطة طفلتيّ، أردّد البسملة وما أحفظه من المعوذات، وأنادي زوجي لنفهم ما حدث، استيقظت الفتاتان قبل لحظة الإدراك فطمأنتهما وعادتا للنوم، أما أنا ومنذ تلك اللحظة فقد أغلقت عليّ بئر الخوف إلى الأبد.

أخذت نفساً عميقاً ووضعت سيناريوهات عديدة للزلازل الوشيكة المقبلة، كان يريحني توسّط النوم بين طفلتيّ لنواجه المصير ذاته معاً، إلا أن أكثر ما كان يثير قلقي ــــ أكثر من موتنا دهساً بحائط اسمنتي ـــــ هو نجاتنا خالي الوفاض، بأرواحنا فقط وبثيابنا التي نرتدي وبما يملأ معداتنا من طعام.

رأيت في حاسبي المحمول خلاصنا، لذا صرت أحرص على وضعه بعد انتهاء الاستخدام تحت السرير، في الليل أو في النهار، موصولاً إلى التغذية الكهربائية، وفي مخيلتي أستحضر صورتي في مأوى ما مزدحم، جالسة على سجادة مساعدات رقيقة، واضعة إياه على ركبتيّ مستكملة عملي _المرتبط بجهة بعيدة عن كل هذا الخراب_ كما أفعل دائماً، متلمسة في جيبي بطاقة الهوية الشخصية _جل ما أحتاجه في مكتب الحوالات_ لأستلم أجوري التي تغنيني وعائلتي عن السؤال.

في الروضة، حدثوا الأطفال مراراً عن الزلازل وعن إجراءات مواجهة الكارثة، وفي المنزل أخفيت ببراعة الأمهات نوبات الهلع التي كانت تنتابني مع كل هزة، وحرصت على الهمس بمشاعري ليلتها في المجالس كيلا تسمعاني، وأخيراً استشعرت بفخر عظيم نجاحي في تجاوز الكارثة وتجنيب ابنتيّ وراثة مخاوف جديدة، حتى اللحظة التي رأيتهما فيها تضعان ألعابهما ولوحة المفاتيح المكسورة التي تكتبان بها "الشغل" إلى جانب حاسبي المحمول تحت السرير، حينها تيقّنت أن فكرة حياة فارغة تماماً من الخوف فكرة مستحيلة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard