شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تقع مكة في السعودية... ولكن لبعض المستشرقين رأي آخر

تقع مكة في السعودية... ولكن لبعض المستشرقين رأي آخر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 26 مايو 202309:52 ص

في النصف الثاني من القرن الماضي، ظهر جدال غير مسبوق، لا يزال حيّاً إلى الآن، بعد ادّعاء بعض المستشرقين أن الإسلام  لم يظهر في مكة الحالية، في السعودية، بل في مكان آخر، حددوه بأنه الشام أو البتراء في الأردن.

وتبنت هذا الرأي جماعة من المؤرخين الغربيين على رأسهم الدنماركية باتريشيا كرون (1945- 2015)، في كتابها المشترك مع المؤرخ البريطاني مايكل كوك (1940- ...)، بعنوان "الهاجريون... صناعة العالم الإسلامي" الصادر في العام 1977.

جغرافيا الإسلام الأصلية

يفترض المؤرخان كرون وكوك أن النصوص الإسلامية الواردة في القرآن تُظهر أن جغرافيا المسلمين الأوائل لم تكن في منطقة مكة القاحلة، وأن بيئة الإسلام الأولى هي بيئة حضرية وفيها ماء وزرع.

ويقولان إن التاريخ الإسلامي المنقول يشير إلى ذلك، عندما يذكر أن بناء الكعبة أتى متأخراً، وبفعل صراعات سياسية في العصر الأموي بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير.

وبرأيهما، تعرّضت الذاكرة الإسلامية للتحريف والتشويه خلال الأعوام الـ150 الأولى، بسبب النقل الشفهي الذي كان محصوراً في اقتباسات وأقوال معزولة وقصص قصيرة، بدلاً من القصص المُطوّلة والمتماسكة، ما صنع إشكالاً في الذاكرة العربية التي سمتها كرون بـ"الهاجرية"، جعل النقل الشفهي أكثر عُرضة للتغيير.

وفي كتابه "قراءة آرامية سريانية للقرآن"، يطرح المؤرخ الألماني كريستوف لوكسنبرغ نظرية لغوية جديدة حول جغرافيا مكة مفادها أنها كانت متأثرة بالبيئة المسيحية السريانية التي لا يمكن توفرها وقت ظهور الإسلام في مكة المعروفة، وبالتالي فإن مكة الأصلية التي هي أصل الإسلام تقع في منطقة مختلفة.

وافترض المؤرخ الأمريكي جون وانسبرو (1928- 2002) في كتابه عن الدراسات القرآنية أن النظرية الإسلامية ظهرت في "الهلال الخصيب"، أي في العراق، مختلفاً بذلك مع تيار استشراقي حدّد مكان الكعبة بين الشام والبتراء.

بطبيعة الحال، لم تمرّ هذه الآراء مرور الكرام بل أثارت ضجة في العالم الإسلامي، ما دفع آمنة الجبلاوي إلى كتابة مؤلفها "الإسلام ‘المبكر’: الاستشراق الأنغلوسكسوني الجديد (باتريسيا كرون ومايكل كوك أنموذجاً)". كما كتب الباحث المغربي في الفلسفة السياسية والدراسات الاستشراقية نبيل فازيو دراسة نُشرت على حلقتين (الأولى بعنوان "قرآننا واستشراقهم… كتاب ‘قرآن المؤرخين’ ومشكلة المرجعية!" والثانية بعنوان "قرآننا واستشراقهم… عن حالة المُستشرقَيْن كوك وكرون!")، وكتب أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة المنصورة وائل طعيمة كتاباً بعنوان "تاريخ الإسلام المبكر في الاستشراق الإنجليزي: بين رؤى الاستشراق الكلاسيكي وأطروحات الاستشراق الجديد"، وكتب الباحث الجزائري المتخصص في مقارنة الأديان كمال شكاط مؤلفاً بعنوان "حقائق وأباطيل: ردود علمية على دعاوى استشراقية"، كما ألقى المفكر الإسلامي الفلسطيني عدنان إبراهيم محاضرة بعنوان "دان غيسبون وضياع الكعبة"، عام 2018، وألقى المفكر الأردني نزار الطرشان محاضرة أيضاً نشرها على يوتيوب عام 2020.

يعارض الباحث المصري أحمد سعد زايد أطروحة باتريشيا كرون ومايكل كوك والباحث الكندي دان غيبسون الذي ذهب إلى ما ذهبا إليه أيضاً، مستنداً إلى أن أول المساجد لم تكن موجّهة صوب مكة، وغيرهم، ويقول لرصيف22 إن "هذه الآراء بعيدة كل البُعد عن الحقيقة لأن عليها إشكالات تاريخية ومنطقية، منها أن صراع المسلمين الأوائل والقتل المتبادل يجعل من فكرة اجتماع هؤلاء على نسيان ماضيهم أو تحريف تراثهم أمراً مستحيلاً، والفرضية المقترحة في نظريات دان غيبسون وكرون وغيرهما لا يمكن أن تكون صحيحة، بالخصوص إذا علمنا أن مكة لم تكن مجرد مدينة بل كانت مقصداً للحج بين جميع العرب، حتى قبل الإسلام، وهي الاتجاه الذي يصلّي إليه المسلمون منذ نشأتهم، فقصة تحويل هذا الأمر برمته من مكة إلى منطقة أخرى مستحيلة، ولو حدثت فهي إعجاز".

ويضيف أن "هناك رؤى غير منطقية في التراث الإسلامي وثغرات يمكن أن نسلّم بها، لكن أن تكون هذه الثغرات سبباً أو حجة كافية لتغيير موقع مكة الجغرافي جذرياً فهذا لا يُعقَل".

الشام لا مكة

في كتابه "تاريخ الإسلام المبكر" الصادر عام 2014، يقول محمد آل عيسى إن "الدين المحمدي" نشأ في الشام، ولذلك كانت الشام مقر حكم الأمويين، وبعد ذلك انتشر الإسلام من الشام إلى الحجاز.

لكن الكاتب العراقي علاء اللامي رد عليه في مجلة الآداب، بمقال عنوانه "العبث النقدي بتاريخ الأديان: محمد آل عيسى نموذجاً"، هو خلاصة مركّزة لدراسة مطوّلة نُشرت لاحقاً في كتابه "موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربي الإسلامي". وصف اللامي كتاب آل عيسى بأنه "تكرارٌ سمجٌ لأقاويل بعض صغار المستشرقين العابثين بتاريخ الإسلام، ويكاد يتحول في بعض صفحاته إلى نص هجائي سطحي للإسلام، ديناً وتراثاً ورموزاً"، مضيفاً أن "مكة لم تكن في صدر الإسلام مدينةً بل قرية كبيرة، ولذا جاء اسمُها القرآنيّ ‘أمّ القرى’. وكانت تقع في وادٍ أجرد، أو بات كذلك بعد انقطاع السيول من الجبال المحيطة به. وهذا ما جعلها غير ذات أهمية أنثروبولوجية ولا تحتضن الكثير من البقايا الأركيولوجية، أما إنكار وجودها مطلقاً قبل الإسلام، أو إنكار كونها موطناً لقبيلة كبيرة معروفة هي قريش، فأمرٌ لا يمكن القبول به علمياً".

يقول بعض المستشرقين إن آيات القرآن تُظهر أن بيئة الإسلام الأولى هي بيئة حضرية وفيها ماء وزرع، وبالتالي فإن مكة لا يمكن أن تكون في السعودية بل هي في مكان آخر

ويؤيد هذه الرؤية الكاتب والباحث الفلسطيني تيسير خلف، ويسجل ذلك في كتابه "الرواية السريانية للفتوحات الإسلامية". يقول إن دولة العرب المسلمين في بدأت في يثرب بعد أن هاجر إليها محمد الذي كان منتمياً إلى قبيلة قريش من مكة، ويعتمد في رؤيته هذه على تاريخ كنسي أعده مؤرخون ورجال دين سريان: تاريخ ميخائيل الكبير، تاريخ الرهاوي المجهول، تاريخ ابن العبري، وتاريخ الزوقنيني المنحول لديونيسوس التلمحري.

ويؤيد ذلك المؤرخ الأمريكي والتر كيغي (1937- 2022)، في كتابه "بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة"، إذ يعرض غزوات العرب للشام بين عاميّ 632- 634، بنقل نصوص يونانية قديمة عن أن "نبياً كاذباً ظهر بين العرب"، وأخبار عن أتباعه الذين يقومون بالغزوات ضد أهل الشام، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى أن أصل الإسلام لم يكن في الشام بل خارجها.

إشكالية مكان القبلة

في كتابه "القبلة الإسلامية المبكرة"، استعرض دان غيبسون اتجاهات القبلة الأولى لمساجد المسلمين القديمة من العام الأول للهجرة حتى العام 263 هـ، وأشار إلى أن المساجد الإسلامية القديمة لم تكن قبلتها موجهة إلى مكة بشكل مقصود، لأن اتجاهات القبلة نحو شمال الجزيرة العربية كانت أقرب إلى مدينة البتراء، بما يدل على أن المسلمين الأوائل كانت قبلتهم إلى البتراء فعلاً.

وأجرى غيبسون مسحاً لاتجاهات القبلة في أقدم مساجد العراق ومصر فوجد أن القبلة تتجه نحو شمال الجزيرة العربية وليس نحو جنوبها أو وسطها، وهو ما أكدته كرون ومايكل كوك في كتابهما "الهاجريون"، وقالوا إن منطقة الشمال الغربي للجزيرة العربية كانت مقدسة عند الهاجريين (يقصدون المسلمين والعرب الأوائل).

درس دان غيبسون اتجاهات القبلة الأولى لمساجد المسلمين القديمة من العام الأول للهجرة حتى العام 263 هـ، ووجد أن المساجد الإسلامية القديمة لم تكن قبلتها موجهة إلى مكة، بل كانت أقرب إلى مدينة البتراء...

ويلفت غيبسون إلى أن البتراء كانت مقدسة عند العرب، وفي آثارها الأركيولوجية كتابات قديمة للحجاج العرب، ويقول إن قصة تحويل القبلة من القدس إلى مكة مختلقة في العصر العباسي، وإن الكعبة الأولى كانت في البتراء لكنها هُدمت في الحرب الأهلية الثالثة بين المسلمين والمعروفة "بفتنة ابن الزبير"، فبعد تسع سنوات من سيطرة عبد الله بن الزبير على الكعبة، هزمه الأمويون وقتلوه وصاحب تلك الأحداث هدم الكعبة مرتين، الأولى أعقبتها هجرة ابن الزبير إلى مكة ثم بناء الكعبة مرة أخرى بعد سيطرة الأمويين على البتراء. وبرأيه، حُذفت قصة انتقال الكعبة من البتراء إلى مكة من التاريخ الإسلامي للتغطية على ما حدث من دمار للكعبة على أيدي الأمويين.

نظرية غيبسون استدرجت ردوداً من مفكرين ومؤرخين عدة، منهم المؤرخ الأمريكي ديفيد كينغ الذي وضع كتاباً بعنوان "خرائط العالم لإيجاد الاتجاه والمسافة إلى مكة" خلص فيه أن غيبسون كان سطحياً، واستعرض قصة تطور علم الرياضيات في التاريخ الإسلامي، والذي يثبت أن المسلمين الأوائل لم يكونوا متقدمين رياضياً وبالتالي رسموا قبلة مساجدهم الأولى بشكل خاطئ. لكنه لم يتطرق إلى حجج غيبسون في تصوير فتنة ابن الزبير على أنها السبب في الانتقال من البتراء.

وفي خطبته "دان غيبسون وضياع الكعبة"، عرض عدنان إبراهيم آراء العديد من المؤرخين والعلماء الذين ردوا على غيبسون، ومن بينهم المستشرق الإسكتلندي ويليام موير والمستشرقة الألمانية أنجليكا نويفرت، وغيرهما، إضافة إلى قراءات المؤرخين القدماء كبطليموس الإسكندراني (ت. 170) الذي وصف مكة بـMacoraba وكذلك المؤرخ اليوناني ديودورس الصقلي (ت. 30م) الذي أشار في كتابه "التاريخ العالمي" إلى منطقة مكة باعتبارها مقدسة، وإنْ لم يذكرها باسمها فإنه قال إن "هناك معبداً يقدسه العرب يوجد بالقرب من خليج مائي"، ويرجح إبراهيم أن اسم مكة حينها لم يكن معروفاً لدى الرومان واليونان، لكن الصفات المذكورة تنطبق على جغرافيا مكة القريبة من البحر بمسافة 70 كيلومتراً تقريباً.

ورجح المؤرخ البريطاني إدوارد غيبون Edward Gibbon (ت. 1794)، في موسوعته "تاريخ اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية"، أن الصقلي كان يقصد كعبة مكة. وسمّى هذا المؤرخ اليوناني شعوب تلك المنطقة بـ"البانيزومين" Banizomenes. وبحسب السيميولوجي النرويجي يان ريتسو، في كتابه "العرب في عصورهم القديمة... تاريخهم من الآشوريين إلى الأمويين"، فإن "البانيزومين" هو الاسم اليوناني لأحفاد "زمران"، أحد أبناء النبي إبراهيم، مرجحاً أن "زمران" هو تسمية أعجمية للنبي إسماعيل و"البانيزومين" هم قبائل العرب.

وفي نفس السياق، يتحدث أحمد سعد زايد، ويقول لرصيف22 إن رسم القبلة عند المسلمين الأوائل كان "بالجهة" وليس "بالدقة الرياضية"، مشيراً إلى أن غيبسون كان يفترض في ذهنه أن الدقة الرياضية يلزمها خط مستقيم من أي مسجد إلى الكعبة، وهو ما لم يكن ممكناً حدوثه في ذلك العصر، وينتقد مَن يقولون إن انحراف القبلة ناحية شمال مكة هو حجة بأن الكعبة كانت في البتراء "لأن الرياضيات تثبت أن الانحراف لو حدث أولاً بمقدار سنتيمتر واحد، سوف يؤدي ذلك إلى اتجاه الخط بعيداً أكثر من 200 كيلومتر، وهو ما لم ينتبه إليه دان غيسبون وأصر على إثبات انحراف القبلة بالمساجد دون فهم التأثير الرياضي على مُجمَل أعماله".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard