شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لو لم تحدث النكبة

لو لم تحدث النكبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الاثنين 15 مايو 202309:56 ص
Read in English:

What if.... Palestinian Nakba never happened

تندرج هذه المادة ضمن ملف "75 عاماً من النكبة... الحلم وسط المأساة"

لا أريد أن أكتب عن النكبة. أريد أن أكتب عن الناس الذين خرجوا من منازلهم وعادوا بعد أسبوعين ليمسحوا الغبار عن الأثاث، ليسقوا النباتات المنزلية العطشى، ليتفقدوا طعام القطة، وأريد أن أكتب عن عجوز عاد بعد أسبوعين سعيداً لأنه "لحّق آخر موسم اللوز".

لو لم تحدث النكبة، أو لو حدثت وانتهت، كان أول ما سيفعله الناس هو رفع الملابس الشتوية التي نزحوا بها، وإنزال الملابس الصيفية لتناسب شهر أيّار، والرفع والتنزيل هو فعل فلسطيني يحدث مرتين في العام، الأول بين نيسان/ أبريل وأيار/ مايو في مدخل الصيف، والثاني بين التشرينين في نهاية العام، ويشمل إلى جانب الملابس، البطانيات والشراشف والملابس التي صغرت على الأطفال، وسيرتديها إخوتهم الذين لم يولدوا بعد، وكل ما هو بلا أهمية وزاد وزنه وخف ثمنه.

للأسف، لم يتمكن الفلسطينيون بعد من إنزال صيف 1948 من "سدّة" التاريخ.

للأسف، لم يتمكن الفلسطينيون بعد من إنزال صيف 1948 من "سدّة" التاريخ.

لا أريد أن أكتب عن النكبة؛ أريد أن أكتب عن مشهد الزهور التي نثرتها صبايا فلسطين على موكب الجيوش العربية المنتصرة، وهي تعبر المدن مرفوعة الرأس في العام 1948.

عن الشهداء الذين أسمينا شوارعاً بأسمائهم، في عكا والقدس ونابلس، عن امتداد عائلات الجنود العراقيين والمصريين والسوريين والأردنيين الذين تزوجوا في فلسطين واستقروا فيها.

لكلمة النكبة وقع مختلف في جينات الفلسطيني، حتى وإن تجاوزها التاريخ، لكن هذه كذبة، لا يوجد فلسطيني تجاوز التاريخ، لأن التاريخ لا يتركنا وشأننا، ويلاحقنا في مصائر أطفالنا، وفي أوراقنا وجوازات سفرنا، ويشدنا من قمصاننا في المطارات ليمنعنا من دخول البلاد، وينادينا لنرتاح على "الكرسي اللي على اليمين" في المعابر الحدودية البرّية.

في كأس العالم الماضي، كنت أريد أن أكتب بتبجّح عن تأهّل منتخب فلسطين للمونديال، وأن حظنا وضعنا في "مجموعة صعبة"، لكننا نثق تمام الثقة باللاعبين إنما ليس بالمدرّب، فمدرّب المنتخب الفلسطيني كان ليكون –في حال لم تحدث النكبة- "حماراً"، وعلى الرغم من كونه فلاحاً لكنه يختار دائماً شباب القدس ونابلس ويافا في التشكيلة الرئيسية، ويُجلس أبناء الفلاحين على كرسي الاحتياط، وهذا لأن "نسايبه" من عائلة النشاشيبي وعنده عقدة نقص.

هذا ليس من وحي الخيال، فكل الفلسطينيين يعرفون هذا الأمر عن المدرّب المتخيّل لمنتخبنا في نهائيات كأس العالم 2022.

لم أكتب سابقاً عن السقف الجميل الذي كان سيزين دار الأوبرا في غزة لو لم تحدث النكبة، وكيف كان سيذهلني وجود كل هذا الجمال في مكان واحد، لم أتبجّح بمقال عن فرقة الباليه المائي من الغزاويات والحيفاويات والعكاويات الرشيقات، وأنها مثّلت فلسطين في الأولمبيات، رغم الأصوات الغبية التي ظلت تنادي بارتداء الشورتات بدلاً من المايوه.

لم أتبجّح بمقال عن فرقة الباليه المائي من الغزاويات والحيفاويات والعكاويات الرشيقات، وأنها مثّلت فلسطين في الأولمبيات، رغم الأصوات الغبية التي ظلت تنادي بارتداء الشورتات بدلاً من المايوه

لو لم تحدث النكبة، كنت لأكتب عن الشواطئ التي تنافس أجمل شواطئ العالم في استقطاب السياح، لأن طقسنا أجمل، وبيرتنا أبرد، وصيفنا أطول، ونبيذنا مقدّس، ولأن المطاعم التي تقدّم الفتة الغزاوية إلى جانب البيرة تنافس أشهى المطاعم في نابولي، على الجانب الآخر من المتوسط.

ولو لم تحدث النكبة، كنا لننشر صورنا على فيسبوك في مهرجانات الزيتون والنبيذ والمشمش، قد نشاهد بعض الكاريكاتيرات التي تسخر من أصحاب الفنادق في قرى القدس؛ والذين يقومون بإخفاء النبيذ في موسم "تقديس الحجة" وإخراجه في موسم الحج المسيحي.

وإذا استحضرت قليلاً من النكد، سأكتب عن تأخر دولة فلسطين في إنجاز مشروع الطاقة البديلة على امتداد الشاطئ، وعن تلكّك الحكومة في تنفيذ برنامجها الاقتصادي الذي انتخبناها على أساسه، وعن عدم بيع شاليهات طبرية بأسعار تفضيلية للفلسطينيين.

لم أكتب عن طبرية، رأيتها مرة من مرتفعات "أم قيس" في الأردن، وكانت جميلة ووادعة كما تخيلتها في طفولتي. كلمة "بحيرة" لها وقع ثابت أيضاً في ذهن الطفل، البحيرة التي دائماً ما تؤدي إلى كوخ صغير محاط بالأزهار، وطريق قصير فيه ذئب يمر عبر الغابة، وطريق طويل يؤدي إلى بيت الجدة.

لو لم تحدث النكبة، كنت لأكتب عن الشواطئ التي تنافس أجمل شواطئ العالم في استقطاب السياح، لأن طقسنا أجمل، وبيرتنا أبرد، وصيفنا أطول، ونبيذنا مقدّس

قبل النكبة -التي لا أريد أن أكتب عنها- كان لدينا وطن، وكان فيه بحر وبحيرة ونهر والكثير من الينابيع، تماماً كما في قصص الأطفال، ثم جاء الذئب، وأخذ البحيرة والبحر، وقتل الصياد، وابتلع الجدّة، ونظراً لأن الصياد قد قُتل، لم تنتهِ حكايتنا بأية عبرة جميلة يمكن تمريرها للأجيال القادمة، من المهم في قصص الأطفال أن يكون هناك نهاية جميلة، وأن يكون هناك عبرة من استنزاف المشاعر والتشويق، وإلا فلن يناموا، وسيستمرّون في طرح الأسئلة.

هل نجرؤ على سرد قصتنا لأطفالنا؟ نحن الجيل الثالث من الفلسطينيين، هل لنا أن نشرح المعنى الحقيقي للنكبة للأطفال ونحن لا نملك نهاية لائقة، مثل أن يهرب الذئب ونستعيد البحيرة؟

لكن فلسطين ليست جزيرة، وحدودها ليست مائية حصراً، إذا غاليت في الواقعية التي كنت سأعيشها لو لم تحدث النكبة، كنت سأغضب لأن الجندي اللبناني طلب جواز سفري إلى جانب "هويتي الشخصية" قبل أن يسمح لي بالعبور، وأن هذا حدث بعد أن وقّعت كل بلاد الشام والعراق ومصر اتفاقية "تسهيل مرور" من المعابر البرية، فلو لم تحدث النكبة لما كنّا نكبنا كل من حولنا معنا، ولكانت علاقة الجوار لتكون عادية وتنافسية، ضمن النسب المرَضيّة المعقولة.

قليل من الاعتيادي فقط كان ليرضينا لو لم تحدث النكبة، كأن نتذمّر من الاحتفالات المبالغ بها نظراً للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، هل هناك من داعٍ لكل هذه الإضاءة في الشوارع، وكل هذه الحفلات والأغنيات و"المصاريف الزايدة" للاحتفال بالاستقلال؟ 

صحيح أنني لا أريد أن أكتب عن النكبة ولا عن الهزيمة، لكنني لا أريد أن أكتب عن النصر أيضاً، ولا عن البطولات، لا الحقيقية ولا المتخيلة. أريد أن أكتب عن شعب عاش بكرامة عادية في بلده، وعانى من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العادية، وليس من ضمنها أن يعجز شعب كامل عن إنزال ملابس الصيف عن "السدّة".

قليل من الاعتيادي فقط كان ليرضينا لو لم تحدث النكبة، كأن نتذمّر من الاحتفالات المبالغ بها نظراً للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، هل هناك من داعٍ لكل هذه الإضاءة في الشوارع، وكل هذه الحفلات والأغنيات و"المصاريف الزايدة" للاحتفال بالاستقلال؟ الاستقلال أمر بديهي ولا يستدعي كل هذه البهرجة.

هذه أيضاّ كذبة، لو لم تحدث النكبة لم نكن لنتذمّر من الموازنة الضخمة للاحتفال بالاستقلال، وكنا لنحتفل به كل يوم في العام، وليس في الخامس عشر من أيار حصراً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard