شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ليس حواراً وليس وطنياً، ولكن... ملاحظات على

ليس حواراً وليس وطنياً، ولكن... ملاحظات على "الحوار الوطني" المصري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 5 مايو 202311:26 ص

الزمان: القاهرة، في الثالث من أيار/ مايو. الموضوع: يتصدّر رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور ورئيس النادي الأهلي محمود الخطيب صوراً مسربة من جلسة "الحوار الوطني" الافتتاحية. بشكل سوريالي، عاد الزمن إلى لحظة ما قبل يناير 2011، لكن بحضور أمني أكثر وطأة وفي ظل أزمة اقتصادية أكثر حدة.

الجلسة النقاشية الأولى تناولت أسلوب عمل وتشكيل المحاور واللجان وأهم القضايا التي ستناقش في الجلسات اللاحقة، وشارك فيها أيضاً الدكتور علي الدين هلال، مقرر المحور السياسي في "الحوار الوطني"، والدكتور خالد عبد العزيز، مقرر المحور الاجتماعي، وكل منهما عضو سابق في لجنة سياسات الحزب الوطني الحاكم سابقاً. وعلى الجانب الآخر، ظهر معارضون لمعوا أيضاً ضد الحزب الوطني ولجنة سياساته.

ليس حواراً

إذا ما صنعنا هيكل سفينة غير قابل للإبحار، فهي تفتقر حتماً لمسماها كسفينة، حتى لو ظهرت للمُشاهد على أنها تشبه السفن، فالمتشابهات لا تغني عن الأصل كما أن الظن لا يغني من الحق شيئاً.

نعاني من أزمة تسميات إذن. لا يبدو "حوارنا" حواراً، كما أنه لا يبدو "وطنياً". يبدو أمراً ما يشبه طبيعة السياسة في مصر. فلا يمكن تصور حضور رؤساء أندية رياضية للمشاركة في وضع رؤية في حوار سياسي/ اقتصادي، تماماً كما لا يمكن تصور مشاركة أحزاب سياسية في دوري لكرة القدم. ولكن في مصر يحدث الاثنان. تشارك الأندية الرياضية في الحوار السياسي، وتنافس الأحزاب السياسية على الدوري العام.

"حوارنا" لا يستوفي المعايير اللازمة لكي يحصل على صفة الحوار السياسي، وأبسطها القدرة على التأثير المتبادل بين الأطراف، ما يخلق رغبة في الاستماع والتنازل المشترك، وأيضاً القدرة على الاختلاف بوضوح وبعلانية مع الجهة الداعية للحوار، وهذا ما لا يحدث في مصر الحالية. فالمناخ العام في مصر غير قابل لذلك بسبب حالة توتر عام وضيق صدر شديد في التعامل مع أي معارضة. يعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن الاختلاف في الرأي لا يفسد "للوطن" قضية، في حين يؤكد الواقع أنه أفسد ألف قضية وقضية، وبعضها قضايا حُكم فيها بالسجن المطول على أشخاص.

بشكل عام، لا يقدّر الرئيس المصري كلام المعارضين كما لا يقدّر بشكل كافٍ أي مقترحات علنية قادمة من آخرين، أياً منَ كان هؤلاء الآخرون. في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، دعا السيسي إلى حوار مشابه في "المؤتمر الاقتصادي، مصر 2022"، وفي كلمته الختامية، قدّم وصفاً لما تقدّم به الحضور من مقترحات قائلاً: "كل الاقتراحات اللي اتقالت -أنا آسف إني أقولّكم- أي طالب في كلية السياسة والاقتصاد يتكلم بيها"، فصفق له الحضور، وأنصار الرئيس هم الغالبية الكاسحة في أي حوار يدعو إليه، وخلقوا حالة عدم تقدير لكل ما اقترحه المشاركون.

ثم خص السيسي معارضيه، في مداخلة تلفزيونية منفصلة، بالجزء الأكبر من انتقاده. في عالم يخلو من المفاجآت السعيدة، لا أظن أن ثمة مفاجأة تنتظر مقترحات هذا "الحوار الوطني" لتجعلها تلاقي مصيراً أفضل من مقترحات المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد قبل نحو ستة أشهر.

يحتاج أي حوار إلى آلية معلنة لتنفيذ المخرجات، الاتفاقات، التوصيات. مثلاً، ماذا لو اتفق المشاركون على توصية بإلغاء العقوبات السالبة للحرية في كل قضايا النشر، أو بتحديد سقف للحبس الاحتياطي لا يتجاوزه المتهم، أو آلية ما لتخفيض حجم ووتيرة الاقتراض؟ ما هي ضمانات التنفيذ أخذاً في الاعتبار الاختلال الواضح في قوة المتحاورين وأوزانهم وقدراتهم على الفعل والمحاسبة؟ لا توجد ندية كافية بين الأطراف لإقامه حوار صحي.

"هناك مجموعات لها قدرة على التأثير والفعل وافقت على السماح لمجموعات أخرى لا تملك القدرة والتأثير والفعل بأن تقدّم التماسات شفوية حول ما تراه من أزمات أو ما تطالب بتغييره أو تعديله أو محاولة تحسينه"

بالتبعية، تظهر إشكالية ثانية في "حوارنا الوطني" وهي كيف نخرج من أزمة الإغراق؟ فالحوار لا يُظهر تكافؤاً حتى في تمثيل المعارضة والموالاة. فقد أُغرق بمؤيدين لهم مصالح متشابكة مع النظام ولا يملكون رؤية متمايزة عن رؤيته.

لا يمكن أن نصف ما يحدث بأنه حوار بالمعنى الاصطلاحي. رغم كثرة الكلام فيه، ليس كل كلام حوار. نحن أقرب إلى شكل آخر من الكلام يحدث في شرق القاهرة، وهو شكل الالتماسات العلنية. فهناك مجموعات لها قدرة على التأثير والفعل وافقت على السماح لمجموعات أخرى لا تملك القدرة والتأثير والفعل بأن تقدّم التماسات شفوية حول ما تراه من أزمات أو ما تطالب بتغييره أو تعديله أو محاولة تحسينه. هذا الوصف لا يدين الفعل ولا يمدحه. هو فقط يحاول أن يضع له تعريفاً يحدد قدراته وإمكانياته وسقف طموحاته المنتظرة.

ليس وطنياً

في ما يتعلق بوصف "الحوار" بالوطني، تظهر أيضاً أزمة تعريف وتحديد وممارسة. فما المقصود بـ"الوطني" تحديداً؟ يبدو أن كلمة "وطني" هنا لا تصف غير المشاركين في الحوار بعدم الوطنية، لكنها تعبّر عن الشمول، أي أنه يمثل المصريين.

"الوطنية" هنا ليست مضادة لخيانة الوطن، ولكنها مضادة للجهوية أو المحلية. لذا، حين نتساءل عن صفة الحوار الوطنية، لا نشكك بالقطع في وطنية المشاركين، بل نتساءل عن درجة شموله ليشمل كل توجهات المصريين وليكتسب صفة الوطنية في مقابل الجهوية. ووفقاً لهذا التعريف، لا يمكن أن نصف الحدث بالوطني، لأنه ببساطة يفقر حتى الآن إلى صفة الشمول والتمثيل العادل.

"لاكتساب صفة ‘الوطني’ يجب أن يكون الحوار تمثيلياً، بمعنى مشاركة ممثلين عن شرائح متنوعة من المصريين بشكل متوازن، لكن الملاحظ أن الدعوة للمشاركة وُجّهت لأسماء، لا نشكك فيها، لكن لا يستطيع أي منها ادعاء أنه يمثل شريحة من المصريين"

لاكتساب صفة "الوطني" يجب أن يكون الحوار تمثيلياً، بمعنى مشاركة ممثلين عن شرائح متنوعة من المصريين بشكل متوازن، لكن الملاحظ أن الدعوة للمشاركة وُجّهت لأسماء، لا نشكك فيها، لكن لا يستطيع أي منها ادعاء أنه يمثل شريحة من المصريين.

أتت الدعوة وفقاً لعلاقات ومعارف شخصية، وأغلب المشاركين من سكان العاصمة. يبدو الحوار شديد المركزية على المستوى الجغرافي وشديد النخبوية على المستوى الفئوي. لا تمثيل واضحاً فيه للاتجاهات السياسية، ولا تمثيل واضحاً للانتماءات الإقليمية، ولا تمثيل واضحاً للمصالح الفئوية والمهنية. ولا مجهود مبذولاً لتحقيق هذا التمثيل. يغلب على المشاركين في الحوار مَن يمكن أن نسميهم بنخب العاصمة من معارضة وموالاة.

أدت هذه المركزية والنخبوية إلى افتقار الحوار لصفته الوطنية ليصير مجرّد لقاءات نخبوية قائمة على المعرفة المسبقة والشلل المغلقة، وفرصة لإعادة تدوير الوجوه السياسية القديمة وإعادة إنتاج الجدل القديم، لكن تحت إشراف حكومي مباشر.

خلاصة

بضدها تتميز الأشياء، وما يَظهر لنا من بعيد على أنه "حوار وطني" يكشف تقريب الصورة أنه ليس حواراً وليس وطنياً، فهو مجرّد التماس جماعي نخبوي بتحسين الحالة السياسية والاقتصادية.

ولا يعني هذا الوصف أي تجريد للفاعلية، ولكنه محاولة لتحديد سقف الطموحات والتوقعات... وأيضاً لا يُعَدّ هذا الوصف بأي حال وصماً للمشاركين الذين قبلوا الدعوة وشاركوا في الفاعلية، وكثيرون منهم فعلوا ذلك بهدف رفع قضية السجناء على خلفية قضايا سياسية وقضايا الرأي أو بهدف حلحلة في ملف الحريات أو حتى رفع أهداف مطلبية متعلقة بتحسين الحالة الاقتصادية.

"أدت المركزية والنخبوية إلى افتقار الحوار لصفته الوطنية ليصير مجرّد لقاءات نخبوية قائمة على المعرفة المسبقة والشلل المغلقة، وفرصة لإعادة تدوير الوجوه السياسية القديمة وإعادة إنتاج الجدل القديم، لكن تحت إشراف حكومي مباشر"

نحن إزاء تجربة أحدثت وستُحدث جدلاً يحرّك مياه السياسة المصرية الراكدة، تحت وطأة الحضور الأمني الطاغي على المشهد. وربما نشهد عودة الجدل الصحي المطلوب لأي حياة سياسية صحية. وربما تحدث مفاجأة غير متوقعة وتؤدي النوايا الطيبة لكثير من المشاركين إلى خلق ثقة متبادلة يمكن البناء عليها... لكن، في عالم يخلو من اليوتوبيا، ووضع عام يخلو من الثقة، على كل المتفائلين والمتشائمين أن ينظروا أولاً إلى الواقع ثم يبنوا استنتاجاتهم.

ملاحظة ختامية

بينما تنعقد جلسات الحوار الوطني، ألقت أجهزة الأمن القبض على عدد من أعضاء أسرة المرشح الرئاسي المحتمل أحمد طنطاوي وعدد من أنصاره في دائرته الانتخابية في كفر الشيخ، وذلك قبل يومين من الموعد الذي حدده لوصوله إلى مصر قادماً من لبنان، وبعد يوم واحد من كلمة السيسي التي قال فيها إن الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية.

مثل النبوءات المحقِّقة لذاتها، هناك أيضاً مفارقات مفسِّرة لذاتها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard