شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تعيش كالميتة... لماذا يحرم المجتمع الأرملة من الحياة؟

تعيش كالميتة... لماذا يحرم المجتمع الأرملة من الحياة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الثلاثاء 9 مايو 202309:40 ص

اعتدت على رؤيتهن كل جمعة، يخرجن من منازلهن ويرسمن علامات الحزن على وجوههن. يردن أن يجتزن هذا الامتحان الصعب. تنتظر كل أرملة أن تسمع الناس يقولون: "انظري إلى فلانة، لقد مات زوجها منذ عامين ولكنها مازالت حزينة باقية على ذكراه، لم تدخل الفرحة قلبها منذ وفاته"، فباتت الفرحة تهمة تريد أن تنفيها عنها.

حياة شاقة تعيشها الأرملة بعد وفاة زوجها، ليس باختيارها في كل الحالات، ولكن بأمر المجتمع الذي يطلب منها أن تحفر قبراً بجوار قبر زوجها، لترقد فيه وتعيش دون حياة حقيقية. عادات وتقاليد بالية وظالمة لا تنتهي بمرور الزمن، ومازالت تمد جذورها في بعض مجتمعاتنا العربية وفي ريف وصعيد مصر، كشهادة وفاة مجازية للمرأة المتوفي زوجها، فهي على قيد الحياة، تتنفس، إلا أنها على الهامش دونما صوت أو بهجة.

هل مات زوجك؟ إذن عليك أن تتخلّي عن كل ما تحبينه. أن تتركي الملذات وألّا تفكري في ذاتك. هكذا يفكر الناس في مجتمعاتنا. يراقبون الأرملة من بعيد، يتصيدون لها أي موقف، تمشي سيرتها على كل لسان، ويزداد الأمر سوءاً لو كان لديها أولاد، عندها فقط تضيع كل فرصها بالسعادة، ومن ثم لا تفكر في نفسها أبداً.

حداد لا ينتهي

تعيش المرأة المتوفي زوجها فترة حداد محدّدة وفقاً لعقيدتها، إذن لماذا يصمّم الناس أن تمتد فترة حدادها إلى الأبد؟ في بلدتي الصغيرة أقسم أن هناك نساء توفى أزواجهن منذ ثلاثين عاماً ولم أرهن يوماً يلبسن غير الأسود. لم تجرؤ واحدة منهن أن تطلق زغرودة في منزلها حتى في زفاف ابنها. تعيش المرأة في حداد دائم لا نهاية له. لا تفكر في الزواج ثانية. أمر تفرضه عليها العادات والتقاليد ولا علاقة له بالشرع.

حياة شاقة تعيشها الأرملة بعد وفاة زوجها، ليس باختيارها في كل الحالات، ولكن بأمر المجتمع الذي يطلب منها أن تحفر قبراً بجوار قبر زوجها، لترقد فيه وتعيش دون حياة حقيقية

في صغري، كنت أرى الأرامل في بلدتنا بعد صلاة الجمعة، يخرجن من منازلهن للذهاب إلى المقابر. كل امرأة تجرّ وراءها طفلاً أو اثنين. هذه توفى زوجها العام الماضي، والثانية رحل زوجها منذ خمسة أعوام والثالثة مر على وفاة زوجها عقد كامل، كما يبدأن يوم العيد بالذهاب إلى المقابر، البكاء على رأس الزوج وتذكّر كل الماضي الأليم واستحضاره رغماً عنه، فكان صباح يوم العيد في قريتي مصبوغ باللون الأسود، وتعاد الكرة كل عيد دون ملل.

لماذا لا ترتدي الأرملة ملابس ملونة رغم مرور أعوام على وفاة زوجها؟"،

كنت في الجامعة عندما ترمّلت زميلة لي كان لديها طفل صغير. عمرها كان فقط 19 عاماً، ظننت أنها ستبدأ حياتها من جديد، ستبحث عن زوج آخر يناسبها بعد فترة. ربما ستنزل مجال العمل أو حتى تسافر لأي مكان حتى تتخلص من الماضي. قابلتها بعد عام في زفاف زميلة لنا. كانت متشحة بالسواد. دار بيننا حديث عن حياتها، وسألتها عن سبب لبسها للأسود فقالت: "أنا هلبس أسود على طول. عايزة الناس تفضحني".

لم تتزوج زميلتي حتى الآن، ولا يرى المجتمع أن عليها التفكير بالزواج، أو حتى تغيير طريقة حياتها، أو امتلاك فرصة أخرى للحياة، ففي رأيهم أنها اخذت فرصتها للسعادة، وبوفاة الزوج ينتهي كل شيء.

قدر ظالم

"لماذا لا ترتدي الأرملة ملابس ملونة رغم مرور أعوام على وفاة زوجها؟"، هذا هو السؤال الذي طرحته على شقيقتي الكبرى عندما رأيت الأرامل صغيرات السن يتمسّكن بالأسود لفترات طويلة، وقتها ردّت أمي وأخبرتني أن هذا سيكون فضيحة.

قصّت لي أمي حكاية الأرملة التي رآها الناس في البلدة في محل يبيع ملابس داخلية وقمصان نوم، فكانت حديث كل لسان وكأنها ارتكبت جريمة، وكان تساؤلهم: "هتشتري قميص نوم لمين؟".

قريبتي فقدت زوجها الذي ترك لها ثلاث فتيات، وكانت وقتها في أول الثلاثينات، ورغم ذلك أغلقت قلبها بحجر أسود وودّعت الحياة، وقررت أن تعيش فقط لتربي البنات، وشجّعها المقربون منها على ذلك وصفقوا لها. فماذا ستفعل الأرملة الأم إن لم تنسى نفسها وحياتها وتعيش فقط لأطفالها أو للذكرى؟

علينا أن ندرك تماماً كيف ننظر لذواتنا بأعيننا نحن، فلا قيمة لحياة يصنعها لنا الآخرون مدعين أنها الأفضل والأبقى

عبث حقيقي وظلم بيّن يقرّه هؤلاء الناس. لا قيمة عندهم لأي شيء آخر. يمتلكون قدرة غريبة على التسلل لعقل المرأة وإقناعها أن ما تفعله هو الصواب وأنه إيمان بالقضاء والقدر، وأن أي شيء آخر مرفوض وليس في مصلحتها.

تعيش المرأة المتوفي زوجها فترة حداد محدّدة وفقاً لعقيدتها، إذن لماذا يصمّم الناس أن تمتد فترة حدادها إلى الأبد؟

عندما سألت قريبتي لماذا لا تشتري ملابس جديدة لها، ولماذا لا ترتدي ملابس ملونة في الأفراح؟ اندهشت لسؤالي. ظننت وقتها أنني وجهت لها إهانة بطريقة ما، والحقيقة أن هذا ما أوصله لها الآخرون، فالمجتمع لديه هذه القوة التي تمرّر إليك الشعور بالذنب دون أن تقترف ذنباً. قالت وقتها: "أنا خلاص أخدت نصيبي من الدنيا وراضية بقضاء الله".

عن أي قضاء وقدر يتحدث هؤلاء الأشخاص! فالمرأة رضيت بقضاء الله بعد وفاة زوجها فهل ألزمها الله أن تموت هي الأخرى وراءه وألا يدخل الفرح في قلبها ما حيت وفاءً لهذا الزوج؟ هل يجب عليها أن ترضي الناس وتنسى نفسها تماماً لتكون في نظرهم تلك المرأة المضحية المتفانية التي تعرف الأصول ولا تسير وراء أهواء الشيطان. هل يريد الله من الأرملة أن تعيش كالميتة؟

وساوس وقذارات تعشش في أذهان الناس تجاه امرأة شاء الله أن تفقد زوجها. هذه القذارة تراها حولك في كل وقت. أناس يتحدثون عن امرأة فكّرت أن تصنع لنفسها حياة بعد وفاة زوجها. آخرون يتهمون أرملة تفكر في الزواج بأنها امرأة لها أغراض دنيوية ولا تفكر في دينها. تلوك ألسنتهم سيرتها عندما تفكر أن تعيش البهجة التي أحلها الله لها وتشتري لها الجديد أو تخرج في الأعياد والمناسبات، لسان حالهم يقول: "المرأة التي نسيت زوجها سريعاً"، والعجب أن الرجل مات منذ سنوات، فهل تحزن لبقية حياتها؟

أظن في بعض الأحيان أننا – نحن النساء- كسرنا الكثير من القيود وحققنا تطوراً حقيقياً، ثم يأتي شيء ليجعلني أصدق العكس تماماً. فمازال الطريق طويلاً. ليس فقط لنعلي أصواتنا مطالبين بحقوقنا، ولكن لنتخلص بشكل حقيقي من التقيّد بنظرة الآخر، فعلينا أن ندرك تماماً كيف ننظر لذواتنا بأعيننا نحن، فلا قيمة لحياة يصنعها لنا الآخرون مدعين أنها الأفضل والأبقى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard