شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوان أم سجن؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تمر تونس بأسوأ فتراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهي تنزلق من عنق الزجاجة الذي تعودنا عليه مع الأنظمة السابقة إلى قعر الزجاجة هذه المرة. يبدو أننا سنقفز من حافة الإفلاس إلى قعره، إن لم يسعفنا صندوق النقد الدولي.

حتى المكاسب البسيطة التي تحصلنا عليها بعد انتفاضة 2011، كحرية الصحافة، النشر والحق في إبداء الرأي، تتبخر رويداً رويداً، كالمياه في سدودنا. تتضخّم سلطة الرئيس بينما يزداد التضخّم المالي والوضع المعيشي سوءاً، وتزداد الأسعار بالتوازي مع ازدياد نزعاته الرئاسوية. دستورنا جديد لكن تاريخنا حلقات متواصلة من التكرار المفرغ. لا يسعنا إذن إلا أن نتطرّق من جديد إلى تساؤل المدوّن المعارض لنظام بن علي، زهير اليحياوي: هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوان أم سجن؟

اقترح اليحياوي هذا الاستفتاء على موقعه سنة 2002، عندما نظّم بن علي استفتاء للحصول على ولاية رابعة. مرّ تقريباً 21 عاماً على حيرة المدوّن، ومن سخرية الأقدار تحول سؤاله الاستنكاري إلى أهم سؤال مباشر يجب الإجابة عنه بجدية تامة لنفهم سياق الأزمات المتتالية التي تمر بها البلاد.

أوّلاً، هل تونس جمهورية؟

الجمهورية هي نظام حكم يختار فيه الشعب ممثليه، ولا يكون الحاكم فيه وريثاً ولا تجتمع في يده السلطات، ومن المتعارف عليه أيضاً أن الدستور هو حجر الأساس للدولة. من الأساليب الديمقراطية لممارسة الفصل بين السلطات أن يقوم الشعب بانتخاب هيئة وطنية بهدف صياغة وثيقة الدستور، التي بمجرّد صدورها تصبح نافذة المفعول دون العودة إلى أي جهة أخرى، أو يمكن اعتماد استفتاء دستوري، حيث يمارس الشعب بطريقة مباشرة سلطته.

تمر تونس بأسوأ فتراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى المكاسب البسيطة التي تحصلنا عليها بعد انتفاضة 2011، كحرية الصحافة، النشر والحق في إبداء الرأي، تتبخر رويداً رويداً، كالمياه في سدودنا

إذا لم يتم صياغة الدستور من قبل هيئة وطنية منتخبة أو لم يحصل على أصوات أغلبية الشعب ورغم ذلك يقع إدخاله حيز التنفيذ، فإنه يعتبر دستوراً ممنوحاً، حيث يتم إنشاء الدستور بإرادة الحاكم أو الملك وحده باعتباره صاحب السيادة و مصدرها، ودون مشاركة من جانب الشعب أو ممثليه.

منذ التجأ الرئيس التونسي قيس سعيد إلى الفصل 80 لحلّ البرلمان، رغم عدم تكامل شروط تفعيله، وقع تسيير شؤون الدولة عبر المراسيم. وفقاً للأمر الرئاسي عدد 117 المؤرّخ في 22 أيلول/سبتمبر 2021، والمتعلّق بتدابير استثنائية في فصله الرابع من بابه الثاني، فإنه "يتم إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية في شكل مراسيم يختمها رئيس الجمهورية ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، وذلك بعد مداولة مجلس الوزراء. لا يجوز عند سنّ المراسيم النيل من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة بالمنظومة القانونية الوطنية والدولية. وفي فصله الثامن من بابه الثالث، فإنه "يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة".

أصبح إذن رئيس الجمهورية هو المشرّع والمنفذ في آن واحد. اقترح أيضاً الحاكم بأمره دستوراً جديداً يهدم دستور 2014، والذي تمت صياغته من قبل لجنة من المختصين في ظروف غامضة، ووقع عرض هذا الدستور على استفتاء شعبي.

مثّلت الإجابة بنعم 94.6% من الأصوات (2.8 مليون صوت)، وشارك في الاستفتاء حوالي 30.5% من إجمالي الناخبين الذين يناهز عددهم 9 ملايين. ولكن، رغم المشاركة الضعيفة بين صفوف الناخبين، ارتأى رئيس الجمهورية أن الأقلية التي تسانده تكفي لإعطاء الدستور شرعيته وإدخاله حيز التنفيذ.

يكفي فقط النظر بطريقة سطحية للدستور الجديد لكي نرتبك من محتواه. فصوله صيغت على قياس حاكمنا الجديد، وتوطئته التي تحدد الملامح الكبرى للدولة وانتماءاتها اكتسبت صبغة أدبية، وتحولت ضرورتها القانونية إلى ضرورة شعرية.

يمكن إسالة الحبر على امتداد صفحات حول الحساء القانوني الذي تغرق فيه البلاد ويطفو فيه الرئيس، لكن يمكننا أن نستنتج أن تونس ليست سوى شبح جمهورية مزعومة يتغذى معظمنا على طيفها لنبقي أملنا الأحمق على قيد الحياة.

ثانياً، هل تونس مملكة؟

في سياق أصبحت فيه كل السلطات تتركز جهراً في يد جهة واحدة، لا يسعنا إلا أن نتساءل عمّا إذا ما كانت تونس مملكة.

تونس ليست فقط مملكة تستنبط سياستها الخارجية من الطرائف الأسرية للرئيس، بل هي أيضاً مملكة مستقلة عن القارة التي تقبع فيها، فالتونسي ليس إفريقياً والإفريقي ليس تونسياً

نظراً لأن الدستور يضمن حصانة شبه مطلقة لفخامة الرئيس وحيث إنه ليس مسؤولاً أمام أية جهة من الجهات، و نظراً لشخصنة الدولة التي أصبحت تمتد سياستها الخارجية من معتقداته الشخصية، ثم نظراً للإقالات والتعيينات العشوائية و النزاع المتواصل بين السلطة التنفيذية مع القضاء، وعدم وضوح المشاريع السياسية والاقتصادية لهذه السلطة، واعتمادها على زيارات شعبوية وخطابات أدبية، فإنه من الجائز أن نجزم مبدئياً أن تونس مملكة.

منذ تقلّد قيس سعيد منصب رئاسة الجمهورية والمملكة التونسية تمر من مأزق دبلوماسي لآخر. المغرب، الجزائر، ليبيا، بقية الدول الإفريقية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، يقبعون ضمن قائمة العلاقات المتوترة نتيجة للتهور الدبلوماسي والتصابي السياسي الذي تشهده البلاد، و ككل المماليك، تونس لا تخلو من الأمثلة الهزلية، كأن يقوم سيف الدولة بخطاب يتحدّث فيه عن مؤامرة استبدال "العرق التونسي الآري" بـ "الأفارقة"، على حسب قوله، وعن تكاثر الجريمة بسبب المهاجرين غير الشرعيين.

وجّه بذلك الرئيس احتقان التونسيين المتولد عن وضع اقتصادي ومعيشي متردٍّ نحو الحلقة الأضعف في الدولة المتداعية، أي الأجانب ذوي البشرة السوداء والمهاجرين غير النظاميين الذين يتخذون تونس منطقة عبور نحو أوروبا.

في لقاء له مع رئيس غينيا بيساو، تبرّأ الرئيس من تهمة العنصرية وبرّأ الدولة من أي سياسة عنصرية. كيف؟ بذكر أن له أقارب متزوجين من "أفارقة".

تونس ليست فقط مملكة تستنبط سياستها الخارجية من الطرائف الأسرية للرئيس، بل هي أيضاً مملكة مستقلة عن القارة التي تقبع فيها، فالتونسي ليس إفريقياً والإفريقي ليس تونسياً.

السياسة الخارجية هزيلة و السياسة الداخلية أهزل. صدر في الرائد الرسمي للجمهورية ثلاثة مراسيم تتعلق بحل المجالس البلدية (350 بلدية) وتنقيح القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، وتنظيم انتخابات المجالس المحلية، وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. يضبط الفصل 204 من مجلة الجماعات المحلية شروط حلها في حالات محددة، تتعلق بالإخلال الخطير بالقانون أو بتعطيل واضح لمصالح المتساكنين. هذا القرار الذي لم يعر اهتماماً لهذه الشروط، يعتبر مسّاً واضحاً لنظام اللامركزية في البلاد، ودليلاً آخر على عدم تطبيق مبدأ التفريق بين السلطات.

لامجال للشك في ذلك ولا حاجة للتساؤل أصلاً. تونس حديقة حيوان بشرية يتنعّم فيها مجموعة من رجال الأعمال بدفء نظام الاقتصاد الريعي

يبدو أن البلاد تسير نحو اعتناق نظام هجين، رئاسوي، يعتمد على مبدأ الحكم المطلق والذي يذكرنا بمدح ابن هانئ الأندلسي لسيف الدولة: "ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ/فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ".

ثالثاً، هل تونس حديقة حيوان؟

لامجال للشك في ذلك ولا حاجة للتساؤل أصلاً. تونس حديقة حيوان بشرية يتنعّم فيها مجموعة من رجال الأعمال بدفء نظام الاقتصاد الريعي، مؤسساتها وإدارتها عالقة في خمسينيات القرن الماضي، بوليسها يدير عصابات صغيرة ومتوسطة الحجم، ويمارس "البلطجة" في الشوارع، سجونها تجاوزت طاقة الاستيعاب ومدارسها أقفرت. شعبها يئس وخذلها وخذل نفسه، وتحول إلى قطيع ضخم بين ضباع وخرفان.

الأزمة الاقتصادية قد تؤدي بالدولة إلى الإفلاس إذا لم تحصل على 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وإذا حصلت على هذا القرض فسيستوجب ذلك رفع الدعم عن المواد الأساسية.

قدرة المواطن الشرائية تبخّرت من التضخم المالي الحاد وارتفاع الأسعار. جفّت السدود من انحباس الأمطار وجفّت الصحف من حبس الصحفيين، ورُفعت الأقلام خوفاً من أن تنسب إليها تهمة التآمر بالحبر على أمن الدولة. في حديقة حيواننا البشرية، لا قمح سينبت، ولا زيتون سينتج، ولا حرية ستصمد، ولا كرامة ستبقى. فقد السكر والأرز والحليب من المتاجر، وأصبحت هذه المكونات البسيطة تباع كالأدوية، بكميات محدودة ووفق الحاجة، ولن يكون قط غريباً أن تجد مكانها على رفوف الصيدليات قريباً، فلا شيء مستبعد في حديقة الحيوان.

السياسيون الأوروبيون، من أمثال جوزيف بوريل، يحذرون من انهيار الاقتصاد وتوافد المهاجرين إلى بلدانهم. دقت أجراس الهلع بين صفوفهم، حتى تجنّدت رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية جورجيا مالوني، لتتوسط لتونس عند صندوق النقد الدولي عساه ينقذنا من الحطام الذي ينتظرنا، بينما ننتظر في ترقّب انمحاق دولتنا، ماذا يفعل قادتنا؟ هل لديهم خطة؟ إذا لم يحصلوا على القرض البنك الدولي فكيف سينعشون اقتصادنا المنهك؟ هل لديهم وعي بوخامة وضعنا، أم أنهم مشغولون بزجّ كل المعارضين والصحفيين والناقدين وراء القضبان، حتى يحبسوا كل المواطنين وينتقلوا بنا من حلم الجمهورية، إلى فوضى المملكة، إلى واقع حديقة الحيوان، ثم إلى كابوس السجن.

أخيراً، هل تونس سجن؟

ربما ، ولكن "إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ/ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتجِيبَ القدَر

ولا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي/ ولا بُدَّ للقيْدِ أَنْ يَنْكَسِر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard