شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
رسومي المتحركة هي بعض ماضٍ لم أحسم موقفي منه حتى اليوم...

رسومي المتحركة هي بعض ماضٍ لم أحسم موقفي منه حتى اليوم...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أبريل 202303:14 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.


لدى الكتابة عن طفولتي وعن الرسوم المتحركة وذاكرتي معها، أجد نفسي أشبه بسائحٍ يقف أمام متجرٍ لبيع التحف والمومياءات واللوحات المصورة والمقلّدة، في الوقت الذي تقيم فيه اللوحة الأصلية في متحف من متاحف الغرب. أنتقي منها ما يذكرني بأيام حافلة بالتناقضات المستمرة حتى اليوم، تاركاً لوحات ناصعة البياض أو كالحة السواد على الرف، أقلّه مؤقتاً.

ربما يفتقر هذا الكلام إلى النزاهة التي يفترض أن يتحلى بها الكاتب، لكن الانتقائية هنا مبررة. فالطفولة في بلدان العالم العربي ليست دائماً بتلك البساطة المتخيلة أو المشتهاة، وإن حاولت الرسوم المتحركة التي أدمنّا عليها في تسعينيات القرن الماضي.. إضفاء هذه عليها. طفولة جيلنا هي طفولة تتسع رقعتها لتشمل الإحساس بالأمان وبالتهديد في وقت واحد، بالأبيض والأسود معاً، بالفِطرة من جهة وبالتدجين والقوْلَبة من جهة ثانية، وهلمجراً...

تسعينيات القرية السعيدة

كان قضاء فصل الصيف في بيت جدي في القرية فرضَ عين علينا، ولم أكن مستاءً من ذلك بطبيعة الحال.

ارتبطت تلك القرية بحكايا وبقصصٍ وتفاصيل كثيرة ما زالت عالقة في ذاكرتي، ومنها الرسوم المتحركة، كما ارتبطت هذه الأخيرة بالعمل اليومي لجدي وعماتي وأعمامي في أرض زراعية كانت خصبة وكريمة عليهم وعلينا ذات فترة، وكان موعد بث الرسوم المتحركة يتزامن مع موعد ذهابهم إلى تلك "الأرض" عصرَ كل يوم.

لست كارهاً لمرحلة التسعینیات، ولكنني لست ممجداً لها في الآن عينه. أؤمن اليوم أن حياتنا أعقد من تصنيفها فقط ضمن اللونين، الأبيض والأسود. لكنني في المقابل لا أشتاق إلى كرتون تلك الأيام، طالما أنه في متناول يديّ اليوم وعبر يوتيوب...

في صيف عام 1994، عُرض مسلسل "الكابتن ماجد" في جزئه الثاني على ما أذكر، وكان نسخة محسَّنة ومطوَّرة من الجزء الأول. فالمباراة النهائية التي كانت تستغرق عشرة أيام في السابق، صارت تمتد لأكثر من ثلاثة أسابيع هذه المرة، والتسديدة السريعة التي كانت تحتاج إلى ثلاث دقائق كي تصل إلى المرمى، صارت تستغرق ضعف هذا الوقت. فإذا أضفنا إلى كل هذا.. زمن طيران الحارس في الهواء وقيامه ببعض حركات الكاراتيه التي يتقنها جيداً، باتت الحلقة عبارة عن تسديدتين لا أكثر.

كان ثمة مساحة مناسبة للعب كرة القدم على مقربة من البيت، ولمحاولة تطبيق حركات المسلسل الكرتوني الشهير من خلال التحليق الفاشل وضربة "المقص الهوائي". كنا أطفالاً كارهين للعِلم، ليس فقط لجهة عدم اكتراثنا كثيراً بالتحصيل العلمي في حينه، بل أيضاً لأن مسلسلاً كرتونياً مليئاً بالخيال كان ملهماً لنا فوق "ملعب" ترابي و"عارضة" غير موجودة.

كنا أيضاً أسماكاً تسبح في بحار ومحيطات من الخرافات. فقد استحوذ الدين على مساحة واسعة من طفولتنا، في انزياح واضح عن معجزات ماجد ورابح وغرندايزر، وباقتراب واندغام كبير مع "معجزات" من نوع مختلف.

أتذكر أن الدين كان جزءً من تكويني ووعيي في التسعينيات، ليس فقط إيماناً وقناعة وتقليداً لمن هم أكبر مني، بل وخوفاً مما قد يتهددني إن أنا اغضبت الله أو إمام الطائفة، بناء على مرويات كثيرة وأعاجيب وخوارق وتنكيل لحق بالبعض على يديه. كان هذا الإله أو الإمام قادراً على مد الكابتن ماجد والكابتن رابح بقدرات عجيبة ومدهشة لا يمدنا بها، لا بل إنه كان جاهزاً لمعاقبتنا، ولا بد أن ثمة حكمةً وراء كل هذا.

بعد عقد من الطفولة في القرية، أي في بيئتي الأهلية الأولى، جاء دور المدرسة. كان الحديث عن الرسوم المتحركة حديثاً يدور بيننا نحن الطلبة، ونادراً ما شاركَنا فيه مُدرّس أو مدرّسة، اللهم إلا مدرّس "التربية القومية الاشتراكية".

الأنظمة الاستبدادية كانت قادرة على "تسييس" كل شيء وعلى تسخيف كل ما هو وجداني وعلى إرسال العلاقات العاطفية والإنسانية إلى الهامش. 

كان ذلك الرجل "معروفاً" في أوساط مدرستنا بـ "ثقافته الواسعة"، طبعاً بالمقارنة مع أمين الفرقة الحزبية ورئيس الشعبة ومدرّس التربية الإسلامية، وكان يجمع بين "المعرفة" وبين "الإخلاص" للمهنة، سيما وأنه يدرّسنا مادة "حساسة" من وجهة نظره.

هكذا وجدناه يحدثنا، ذات يوم، عن حربَي كوريا وفيتنام وعن الثورة الفرنسية و"ليدي أوسكار"، مشجعاً إيانا على متابعة هذا المسلسل الكرتوني "المفيد لنا كطلبة" لأنه "يعطي لمحة وافية عن الثورة الفرنسية". كان منحازاً في كلامه إلى كوريا الشمالية، الاستبدادية والشمولية، في مواجهة تلك الجنوبية، وإلى الفيتناميين الذي قاوموا الامبريالية "الغاشمة". لكنّ ما يبدو ملفتاً لي اليوم، أن ليدي أوسكار كان مسلسلاً يتناول قصصاً شخصية وعاطفية واجتماعية، وسياسية بدرجة أقل، ولم تحضر فيه الثورة الفرنسية إلا لماماً وفي الحلقات الأخيرة منه.

وعليه، بات مشهد بكاء أوسكار على حبيبها أندريه بعد مقتله مشهداً عابراً وتفصيلاً لا يستحق الالتفات إليه، أمام حدث الثورة ذاتها. وغني عن القول إن أنظمة على شاكلة النظام الحاكم في سوريا الأسدية والبعثية، كانت قادرة على "تسييس" كل شيء وعلى تسخيف كل ما هو وجداني وعلى إرسال العلاقات العاطفية والإنسانية إلى الهامش، لصالح مركزية "الثورة" و"البطولات" و"النضالات"، وغير ذلك.

وسط كل تلك المناخات، رحت أنجذب أكثر فأكثر إلى الرسوم المتحركة وقصصها، ولأسباب كثيرة، ربما كان من بينها أن خيالات كرتونية متحركة تبقى محببة ولطيفة في تلك الأيام، إذا ما قارنّاها بخيالات الأولين والمعاصرين الثابتة.

وأستطيع القول اليوم وبعد كل تلك السنوات، إن الاستغراق في الرسوم المتحركة ومتابعتها فتح لي، ومن دون قصد مني، مدخلاً ونافذة: مدخلاً ألج من خلاله إلى عوالم الترفيه والتسلية الطبيعية والمطلوبة، ونافذة للهرب من خرافات وحكايا الدين، وهي خرافات وحكايا لا تقتصر على الطائفة التي انتميت لها سابقاً، بل تتشارك فيها كل الطوائف والأديان في سوريا والعالم العربي، وإن اختلفت المرويات. أضف أن الرسوم المتحركة أتاحت لي أيضاً كوّةً صغيرة للتنفس والقفز في الهواء بعيداً عن عالم البعث ومدارسه وعالم سوريا كلها، والذي يبدو لي اليوم عالماً توراتياً قديماً، قصصه تشبه قصص العهد القديم وانتقام الرب وعبور بني اسرائيل والزلازل والبراكين وكارثة سدوم وعمورة. اتسعت هذه الكوّة لاحقا ولأسباب غير كرتونية، بحكم التجربة والقراءات وتراكمها...

كرتون متخيّل لما بعد 2011

بعد ثورة عام 2011 والتحولات الرهيبة التي تبعتها، وصولاً إلى الحرب الأهلية والانهيار الذي رافقها على كافة المستويات، لم يكن هناك وقت ولا دافع، في البداية، للعودة إلى أرشيف يوتيوب رغم توفر الانترنت، خصوصاً أمام مشاهد أطفالٍ محاصرين ومنهكين داخل البلد، في ظروف اقتصادية بالغة القسوة، أو مشردين في العراء وتحت الخيام في بلدان الجوار، أو غارقين في البحر خلال محاولة ذويهم العبور من عالم إلى عالم، إلى جانب الحظوظ التي رافقت من وصلوا وأطفالهم إلى هذه القارة العجوز.

لا أعرف طبيعة وماهية الرسوم المتحركة التي يعرضها تلفزيون النظام في هذه الأيام، لكنني أفترض أنها لن تكون نسخة عنه، فلا شيء يشبه هذا النظام في النهاية. أما في مناطق سيطرة المعارضة، وهي أراض صارت حيزاً لقرون وسطى جديدة، فتغيب التلفزيونات التابعة للجهات المسيطرة هناك ولأسباب دينية طبعاً.

لا أعرف طبيعة وماهية الرسوم المتحركة التي يعرضها تلفزيون النظام في هذه الأيام، لكنني أفترض أنها لن تكون نسخة عنه، فلا شيء يشبه هذا النظام. أما في مناطق سيطرة المعارضة، وهي أراض صارت حيزاً لقرون وسطى جديدة، فتغيب التلفزيونات التابعة للجهات المسيطرة هناك ولأسباب دينية طبعاً

من الصعب أن يتوجه قادة الفصائل الإسلامية والإخوان المسلمون ومشايخ الشمال السوري وتابعوهم وأنصارهم نحو عالم الصورة والديجيتال. فليدي أوسكار "سافرة"، وهي تخرج إلى الأطفال من دون حجاب، وكذلك الطفلة هايدي. أما قبلة سنايكي لساسوكي فقد تؤدي إلى "ضياع" جيل "المناطق المحررة"، وإلى توجهه نحو "الضلال" والابتعاد عن نهج النقاب والحجاب وعن سياسة تلك الفصائل وأمرائها في القتل والحرق والإرهاب والسطو على ممتلكات وبيوت الناس وذكرياتهم و"جنى عمرهم".

لقد كانت رسوماً وبرامج تقدم لنا الحياة بسيطةً وبلغة أكثر بساطة، قبل أن نكتشف تعقيداتها وعقدها، وكانت الأرض فيها مليئة بالورود، يحرسها أبطال يدافعون عنها في مواجهة غزو الكواكب الأخرى. مستوية ومسطحة بطريقة محببة ولطيفة، وبشكل مختلف عن تسطيحها واستوائها في عقول وممارسات رواد العصور الوسطى اليوم في تلك البلاد، سوريا.

لست كارهاً لمرحلة التسعینیات، ولكنني لست ممجداً لها في الآن عينه. أؤمن اليوم أن حياتنا أعقد من تصنيفها فقط ضمن اللونين، الأبيض والأسود. أشتاق إلى أيامٍ عشتها في ذلك العقد الملتبس والإشكالي من حياتي، إلى بعض الذكريات في تلك القرية وتلك المنطقة. إلى جدي الذي رحل من دون أن تتاح لي فرصة وداعه، وإلى زوايا وتفاصيل في طفولة تعج بالتناقضات.

لكنني في المقابل لا أشتاق إلى كرتون تلك الأيام، طالما أنه في متناول يديّ اليوم وعبر يوتيوب...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard