شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
البوكر... هل تستحق الرواية العربية جائزة عالمية؟

البوكر... هل تستحق الرواية العربية جائزة عالمية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 15 مارس 202311:15 ص

تعتبر الرواية الكلاسيكية أدباً قومياً بامتياز. فهي تتحرك داخل الزمن الجماعي، لا الزمن الشخصي للمؤلف، وتشتغل ضمن سردية الجماعة لا سردية الفرد، وأبطالها، كما يقول بنيدكت أندرسون: "كائنات سوسيولوجية" ذات وجود واقعي ثابت ومستقر، لذا فللرواية يعود جزء من الفضل في تكوين الجماعات القومية، على الأقل في أوروبا القرن الثامن عشر.

هذا الفضل للرواية تم بطريقتين: الأولى هي فهم جديد لمعنى الزمن، فقد كان الزمن قبل الرواية "يجمع الماضي والمستقبل في حاضر آني"، وأصبح بعدها مفهوماً كـ "تزامن" يتحرك فيه البطل بالموازاة مع أحداث أخرى تخص أبطالاً آخرين. أما الفضل الثاني فيخص القارئ الكليّ الذي يعرف وحده أن هذه الكائنات السوسيولوجية تتحرك معاً في نفس الوقت. هذا الفهم الجديد المستنبط من الرواية الكلاسيكية الأوروبية هو الذي سهّل فهم فكرة "الأمة" كجماعة تتحرك عبر التاريخ.

الرواية بالتالي تعتبر أدباً أوروبياً خالصاً، نشأ في أوروبا من رحم القصة والمسرحية، وتطوّر مع تطور أوروبا، وخرج إلى العالم مع الثورة الصناعية وتوسُّع الاستعمار. فإذا كان الشعر ديوان العرب، كما يقال، فالرواية مدوّنة الأوروبيين.

هذا لا يعني بالطبع تقسيماً جغرافياً للآداب وأنواعه، بقدر ما يُقصد به أن الرواية في العالم العربي تعتبر حديثة نسبياً، وليست من صميم أساليب الكتابة العربية. فبينما صدرت أول رواية في أوروبا، باللغة الفرنسية، عام 1534 وهي "حياة غارغانتوا" للكاتب والطبيب واللاهوتي فرانسوا رابليه، تأخر هذا الفن في العالم العربي حتى عام 1900، وهو العام الذي صدرت فيه أول رواية عربية بعنوان "حسن العواقب" لزينب فواز. خلال الأربعة قرون هذه، كانت الرواية الأوروبية قد نالت ما لا يمكن الإحاطة به من النقد والتجديد والتطور والقرّاء.

ولأن الرواية هي سردية الجماعة فهي بحاجة لشروط لا نعثر عليها في الكثير من "روايات" السوق، والتي نستطيع وضعها تحت مسمى القصة أو الخاطرة الطويلة أو النص المفتوح

كيف إذن نستطيع الحديث عن الرواية العربية، وكيف لنا أن نربطها بالعالمية؟ وما المقصود بمصطلح العالمية في عالمنا الحالي؟

يقول الروائي الروسي أندريه ماكين: "حتى يستطيع الكاتب أن يكون عالمياً، عليه أن يمتلك ثقافة غنية جداً، ثقافة محلية وطنية". لنغض الطرف عن كلمة ثقافة بمفهومها الواسع، ولنحاول الحديث عن الرواية العربية وما تعانيه في العقدين الأخيرين على الأقل. لماذا أحدّد العقدين الأخيرين؟ لأن الجوائز المالية ووسائل التواصل كانا عاملين مهمين، برأيي، في هذا الانفجار الروائي الذي شهدته دور النشر العربية، وخاصة عند جيل الشباب.

قلت في البداية إن الرواية سردية الجماعة لا سردية الفرد، على عكس القصة القصيرة أو الطويلة. ولأنها سردية الجماعة فهي بحاجة لشروط لا نعثر عليها في الكثير من "روايات" السوق، والتي نستطيع وضعها تحت مسمى القصة أو الخاطرة الطويلة أو النص المفتوح.

أول هذه الشروط هو المكان. المكان الذي تدور فيه الأحداث هو بطل مهم في الرواية لا يمكننا استبداله. لا يمكننا مثلاً أن نشطب كلمة إربد ونضع مكانها نيويورك دون أن يختل النص. لكن هذا يحصل في الكثير من المؤلفات المطبوع على غلافها كلمة رواية. المكان له شخصيته التي تقيم علاقاتها المتبادلة مع بقية شخوص الرواية، هو يتطور مثلهم، ويفاجئ القارئ مثلهم، ويدير التباساته ويفككها مثلهم. يقول أمبرتو إيكو: "ليلى والذئب أشهر قصة قصيرة عبر التاريخ، ولو أن كاتبها وصف الغابة لأصبحت رواية". إذن لا علاقة للمسمى بالطول أو بالقصر، بقدر ما هو بتحقيق الحد الأدنى من الشروط.

الشرط الثاني هو اللغة، وتحديداً لغة الحوار داخل الرواية. على هذه اللغة أن تكون ملائمة للناطقين بها، عليها أن تكون لغة الأبطال لا لغة الراوي، وعليها أيضاً أن تكون لغة سردية لا لغة شعرية، فالرواية تشترط، كما يقال، لغة صالحة لا لغة جميلة. واللغة الصالحة هي اللغة المقنعة للقارئ حين ينطق بها البطل. إذ ليس من المنطقي أن يكون أحد أبطال الرواية مهندساً في الثلاثين مثلاً، بينما أمه ربة منزل في الثمانين، ومع ذلك يستخدمان نفس اللغة ونفس التأويلات.

في غالبية روايات الجيل الجديد نلاحظ طغياناً للغة الراوي، والتي هي لغة متكلفة تحاول التشبه بالشعر، أو لنقل الشاعرية. لا فرق بين لغة بطل وآخر، فكل الأبطال يتمتعون بمستوى لائق من إتقان الفصحى الشاعرية، ويستخدمونها في حواراتهم داخل الرواية. سأضرب مثالاً للتوضيح: في رواية "ألعاب العمر المتقدم" للإسباني لويس لانديرو، وهي رواية من 700 صفحة، لكنها تقوم على حوار بين بطلين أساسيين؛ الأول غريغوريو، موظف في شركة تجارية، وكاتب للخواطر التي يعتقدها شعراً، وهو فوق ذلك يجيد الكذب. أما الثاني فيدعى خيل، وهو مندوب الشركة في الأرياف البعيدة، شخص ساذج وغير متعلم ومبهور بغريغوريو.

إذا قمت كقارئ بفتح الرواية بشكل اعتباطي على أية صفحة، وقرأت سطراً أو سطرين، ستعرف حالاً أن خيل هو المتحدث بسبب لغته الساذجة، أو أن غريغوريو هو من يتحدث، بسبب اللغة المراوغة والمتقنة. أما في معظم الروايات العربية فإنك ستقرأ لغة الراوي لا غير تقريباً، لغة واحدة على ألسنة متعددة.

الشرط الثالث هو أبطال الرواية والقدرة على بناء شخصياتهم، وتقديمهم للقارئ بسكيولوجياتهم وعواطفهم. وهذا بحد ذاته يعد عملية خلق لا يستطيعها ولا يجرؤ عليها إلا من امتلك ثقافة عالية وتجربة طويلة. ليس مطلوباً من شخوص الرواية أن يعكسوا الواقع ولا أن يسبحوا في الخيال، بقدر ما هو مطلوب منهم أن يمثلوا الحياة. أن يجيبوا عن سؤال الأنا كما يقول كونديرا.

إن وضع كلمة "رواية" على أغلفتها أساء للروائيين الجديين في العالم العربي، على قلتهم، وأصبحت المساواة بين الصالح والطالح تسحب من رصيدنا الأدبي والثقافي ومن حصتنا من ثقافة القرية الصغيرة المسماة "عالم"

ففي كل أشكال الرواية عبر تطورها التاريخي ظل هذا السؤال مركزياً وإن لم يظهر كسؤال، لكن محتوى الرواية على ألسنة أبطالها هو محاولة دائمة للإجابة. لا يكفي أن تقوم الرواية على تساؤلات أبطالها كما هو شائع في الرواية العربية، بل عليها أن تقدم للقارئ محاولتها للإجابة.

أقول محاولة ولا أقول إجابة قطعية شافية. ففي المحاولة تكمن الفلسفة، وفي الإجابة تتموضع الحكمة، وليس مطلوباً من الرواية أن تقدم لنا حكمة أو تشير نحو الصواب أو تنصر الخير على حساب الشر. بل أن تفتح للقارئ عالماً لم يكن يعلم بوجوده. لهذا السبب فإن جملة مثل "هذه الرواية كأنها تتحدث عني"، والتي يستخدمها بعض القراء للإشادة برواية ما، لا يمكنها في الحقيقة إلا أن تشير إلى سوء الرواية المقصودة وليس إلى جمالها. فالرواية الجيدة تتحدث إلينا لا عنا.

كل ما سبق لا يعني نزعاً للشرعية عن "الروايات" العربية التي تفتقر لهذه الشروط بوصفها أدباً، أو أنها غير جميلة ولا نستمتع بقرائتها. القصد هو أن هذه الكتب الأدبية يمكن تسميتها قصصاً، نثراً، نصوصاً طويلة، أو أي شيء آخر، ولكنها بالتأكيد ليست رويات. وباعتقادي المتواضع فإن وضع كلمة "رواية" على أغلفتها أساء للروائيين الجديين في العالم العربي، على قلتهم، وأصبحت المساواة بين الصالح والطالح تسحب من رصيدنا الأدبي والثقافي ومن حصتنا من ثقافة القرية الصغيرة المسماة "عالم".

هذه الحصة التي لا يتحمل الكاتب وحده مسؤولية ضآلتها. فكما هو القارئ ضحية لكاتب مخادع، الكاتب أيضاً ضحية لدور نشر لا يعنيها سوى التجارة. والجميع، بما فيهم الأدب نفسه، ضحية لمؤسسات ودول لم تستثمر في الثقافة، كما يجب، فلساً واحداً عبر عشرات العقود. والـ "كما يجب" أن تكون هذه، تعني ثقافة وطنية جمعية معيارية ومعممة من السلطات السياسية، ثقافة يمكنها أن تؤثر في العالم من أجل أن تكتسب صفة "العالمية" وتستحق جوائزها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard