شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حين خلعت الحجاب كأني سلّمت بيدي مفتاح الجنّة للشيطان

حين خلعت الحجاب كأني سلّمت بيدي مفتاح الجنّة للشيطان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 30 مارس 202311:50 ص

كنت أصعد فوق سقف منزلنا كل مساء، أنتظر عودة الشمس إلى ديارها، حتى تمرّ أسهم أشعتها فوق شعري وأرى ضفائري تلمع كسنابل القمح، فتبتسم روحي من الداخل، وأشعر أنني حقاً فتاة جميلة، بهذه الطريقة أريد أن يراني المارة في الشارع الذي أسكن، والزميلات في المدرسة، وعم حسن بائع حلوى "غزل البنات"، ويغني لي أحدهم موال: "شعرك ضفاير دهب، دمك كمان خفّة"، لكنني لا أستحق.

لن يغرق في حبي الشاب الوسيم الذي أتمنى، لن يرمي لي زهرة أو يكتب لي قصيدة غزل، لن يعبّر لي أحدهم عن إعجابه بي، لأني لست جميلة، لن أعجب أحداً بالأساس، ماذا يمكن أن تفعل فتاة بائسة مثلي، ترى الحجاب الذي ترتديه يزيدها قبحاً وترغب أن ترى نفسها جميلة؟

شعور مقيت بالقبح لازمني منذ طفولتي، يتناثر على وجهي النمش، ومدرس التربية الدينية بالمدرسة أجبرني وباقي زميلاتي الصغيرات على ارتداء الحجاب، وإذ نسيت إحدانا وجاءت للمدرسة بدون "الحجاب" عاقبها المدرس ضرباً بعصاه "عزيزة" الغليظة، ومنعها من حضور الدرس وقراءة القرآن، حيث يرى أن الحجاب يجعلنا طاهرات، رغم أن الزملاء الذكور لا يغطون رؤوسهم، فهل يعني هذا أهم غير طاهرين؟

كان يعاقب الفتيات اللواتي لا يرتدين الحجاب حتى خارج المدرسة. نبكي، نتألم، لا يهمه، لا تؤلمه صرخاتنا ولا تحرك قلبه دموعنا العاجزة. وأنا لدي مشكلة أشد: لقد جعل الحجاب النمش في وجهي أكثر وضوحاً، وكل من يراني يقول لي بدون أدب: "النمش يعيبك".

ظننت أنني سأودع القبح والتنمّر والضرب  عندما ألتحق بالمدرسة الإعدادية، حيث لن أرى وجه البُعبُع هناك، لكن هيهات، وجدت هناك بعبعاً معجوناً بالعنصرية، إذ إن ارتداء الحجاب هناك شرط أساسي يُفرض على الطالبات المسلمات، لكن الطالبات المسيحيات مسموح لهن القدوم إلى المدرسة بدون غطاء للرأس.

لن يغرق في حبي الشاب الوسيم الذي أتمنى، لن يرمي لي زهرة أو يكتب لي قصيدة غزل، ماذا يمكن أن تفعل فتاة بائسة مثلي، ترى الحجاب الذي ترتديه يزيدها قبحاً؟

كنت أغار منهن، كن جميلات ويضعن التيجان البيضاء فوق رؤوسهن، ويتمتعن بضوء الشمس وهو يسبح بين خصلاتهن، دوناً عنا، وكانت شكوتي دوماً: لماذا لم تخلقني مسيحية يا رب؟

كمحاولة لفرض الانتباه إلي بالقوة، كنت أتعمّد مقابلة ضيوفنا بالمنزل بدون حجاب، وأخرج إلى ناصية الشارع بدونه، وعندما أطل من الشرفة أو النافذة.

انتقلت إلى المدرسة الثانوية وزاد التشديد على ارتداء الحجاب، حيث كان مدير المدرسة سلفياً متشدداً، يخيفنا بلحيته كل صباح في طابور المدرسة، ويبحث بين الطالبات عن أي خصلة شعر متمرّدة خارج القماش، ليخرجها من الطابور أمام الطلاب والمدرسين ويوجه الإهانات القاسية لها كأنها سلّمت بيدها مفاتيح الجنة للشيطان نفسه.

نصف قطرة من الحرية كانت تنتظرني على بوابة الجامعة، وبها استطعت أن أضع فوق رأسي نصف حجاب، أي قطعة قماش في نصف رأسي، وكوني فتاة محجبة آنذاك كان ذلك لا يشجعني على ترتيب مظهري الذي لا أقبله. نعم أريد تغييره لكن أخاف من موزعي صكوك الرحمة في قرية الجهاديين التي أعيش فيها والذين يمكن أن يصدروا قراراً بقطع عنقي. 

بات قرار خلع الحجاب لا يفارق رأسي، لكن كيف أنفّذ هذا القرار، أين المفر من هذا الفخّ؟

كنت أغار منهن، كن يتمتعن بضوء الشمس وهو يسبح بين خصلاتهن، وكانت شكوتي دوماً: لماذا لم تخلقني مسيحية يا رب؟

انتظرت حتى انهيت دراستي الجامعية وسافرت إلى القاهرة. لم أنتظر الوصول. بل داخل عربة القطار خلعت الحجاب. قلت في نفسي: لن أضع قدمي في المحروسة إلا وأنا "حرة".

خلعت غطاء الرأس وألقيت به من نافذة القطار "إلى الجحيم أذهب ولا تعد"، رغم أن شعري لم يكن مؤهلاً حينها للظهور للعامة، لكنه كان يختنق ويحتاج للهواء. حينها جلست أستمتع بالهواء وهو يتسلل لخصلات شعري، كما لو أن الهواء يدخل روحي نفسها، يحيي الأجزاء التي ماتت من شدة الاختناق.

ألتفت حولي لأجد الركاب الجالسين في العربة يتبادلون نظرات الدهشة، لكن ذلك لم يحجب عني شعور الراحة الذي كاد يأخذني إلى كابينة القطار ويقود بدلاً من السائق. كسرت حاجز الخوف والرهبة من المجتمع وأريد أن أحلق كالعصفورة حبيسة القفص.  

عندما وضعت قدمي على رصيف محطة رمسيس، كان قلبي يرقص برشاقة كما لو كنت سامية جمال في عزّ مجدها. مشيت في شوارع القاهرة مبتهجة كأنني خرجت من السجن بعد نصف "تأبيدة"، وفي صباح اليوم الثاني، ذهبت إلى الصحيفة التي كنت أعمل بها في شارع مراد بمدينة الجيزة، وقد هيأت من نفسي كامرأة لأول مرة منذ سنوات طويلة، امرأة حقيقية لها جمالها الخاص وطلّتها المتفردة، وجلست على مكتبي في أُبهة اجتماعية، أوزّع الابتسامات حولي لكل من هب ودب وكأنني شربت برميلاً من الويسكي.

لم أخبر أحد بما فعلت، لا أمي ولا أبي، لم أستشر أحد بالأساس لا صديقة ولا قريبة، كل ما كان يهمني أن أكون جميلة، أن أظهر جمالي للحياة وأستمتع بلون شعري الأحمر اللامع، أن أدع نفسي للحياة وأطلق لشعري العنان كي يشم نسيم الحرية ولوكان مشبعاً بدخان السيارات. أن يتبلل بالمطر في أيام الشتاء، ويجف مع الشمس المشرقة. لم أفعل ذلك كي ألتقط "عريساً" أو لألفت أنظار الرجال المتعطشين، لكن السبب هو نفسي التي أرادت أن تكون "حلوة" مثل أي نافذة مشرعة للريح والضوء.

مرت أربع سنوات على حريتي، عشت فيهم امرأة حقيقية، أذهب إلى الصالون النسائي لأصفف شعري، أخرج وأنا أرتدي فستاناً قصيراً يليق بأنوثتي التي ولدت من رحم القهر، وأدق الأرض بحذائي كأنني نجمة سينما فاتنة

كان مظهري الجديد يمنحني الثقة، ويفرحني وكأنني أعيد الاستمتاع بأيامي التي عشت فيها حبيسة القماش. كنت أمشي في شوارع شبرا ليلاً والهواء يداعب شعري فيغمرني شعور بالفرحة لم أعرفه من قبل. لا أصدق نفسي أنني أمشي بدون حجاب بين الناس، ولا يمنعني أحد ولا يسلبني حريتي أحد. ها قد ولدت من جديد، كأنني شجرة صغيرة تمد أغصانها خارج الأسلاك الشائكة. 

وضعت صورة لي على واتس أب برفقة زميلة بالجريدة من دون الحجاب، وما إن رآها زملاء وزميلات الجامعة حتى انهمر السباب على رأسي كالحجارة. كسبت نفسي وخسرت الجميع. لم أنشغل بمن قاطعتني ومن هجرني ومن طعن في شرفي، كنت قد خرجت من الصندوق ولا شيء سيوقفني بعد الآن.

نصحني زميل بالعودة إلى الحجاب من جديد لأحمي نفسي من غضب الإله، وكان سؤالي: هل يترك الإله كل هذا العالم بما فيه من كوارث ويصبّ غضبه فوق رأسي لأنني خلعت الحجاب؟ ثم رشّح لي غطاء قصيراً للرأس، رغم أني لم أطلب رأيه بالأساس، أما زميل آخر فأخذ يشتمني ويطلب من الله أن تدهسني سيارة وأن أصاب بالسرطان أو أي فاجعة، عقاباً على فعلتي، ولا أعرف بالأساس لماذا يضع بعض الذكور أنفسهم مراقبين على أفعال النساء؟

في منطقة فيصل بالهرم، كان معظم السكان يظنون أنني مسيحية لأنني أخرج إلى الشارع من دون حجاب. مرة تجولت في ليلة عيد الميلاد لشراء بعض المستلزمات النسائية. قدم البائع لي التحية بمناسبة قدوم العيد وسألني: "انتي مبتجيش الكنيسة ليه؟"، وأخرى عند الجزار سألتني: "أنتي فاطرة ليه؟"، وكان وقتها صيام العذراء. قلت لها: "صيام ايه دلوقتي؟"، قالت لي: "الصيام بتاعكم"، وفي شهر رمضان كنت أتجول في أحد أسواق منطقة المطرية، ووجدت بائعة الخضار تقول لي من دون سابق معرفة: "أول مرة صيامنا وصيامكم ييجوا مع بعض". يسعدني أن يعتبرني من حولي مسيحية، أفضل من أن يكتشفون أنني مسلمة من دون حجاب فيكرهونني كأنني أفسدت ملابسهم الداخلية.

تخلصت من كل صوري القديمة التي توثق ذكريات ليال الحجاب الحزينة، أحرقتها كلها كي أنسى أني في يوم ما كنت أرتدي القماشة. كنت أضع كمية من المساحيق على وجهي كما لو أنني كنت أطلي جدار منزل متهالك، وكل هذا من أجل أن يصبح مظهري جميلاً، لكن ليس بعد الآن.

لقد مرت أربع سنوات على حريتي، أربع سنوات عشت فيهم امرأة حقيقية، أفعل الأشياء التي لطالما تمنيت أن أفعلها في يوم من الأيام، أذهب إلى الصالون النسائي لأصفف شعري أو أفرده بالمكواة الحرارية، أخرج وأنا أرتدي فستاناً قصيراً يليق بأنوثتي التي ولدت من رحم القهر، وأدق الأرض بحذائي كأنني نجمة سينما فاتنة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard