شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
يهود أدمنوا الصوفية الإسلامية

يهود أدمنوا الصوفية الإسلامية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 25 مارس 202301:59 م

تضم الجنيزا القاهرية مجموعة متميزة من الوثائق التي تؤرخ لحياة اليهود في مصر، وتعكس أحوالهم الاجتماعية والدينية والاقتصادية، ومن تلك الوثائق القيمة التي تعد من أهم وأندر الوثائق التي توضح مدى تأثر اليهود بالتصوف الإسلامي، والافتتان به، بل وتحول بعض اليهود إلى الإسلام بسبب الجماعات الصوفية التي عاشت ونشطت بشكل كبير في مصر في تلك الفترة التاريخية أي في القرون الوسطى.

عُثر في الجنيزا القاهرية على أجزاء من الأدب الصوفي العربي، مثل: الفقرات عن حب الرب للحلاج في وثائق الجنيزا، وفقرات من السيرة الذاتية الروحية للغزالي من كتاب "المنقذ من الضلال"، والتي تم نسخها بالعبرية؛ لكي يسهل على القارئ اليهودي فهمها، وتحتوي مكتبة الفاتيكان على جزء عربي عن الروح وحب الرب مكتوب بالخط الحاخامي الإسباني، ونشر الأب "فرانز روزنتال" تحليلًا لأطروحة كتبها يهودي عاش في وقت متأخر من العصور الوسطى، تتخللها بالكامل مصطلحات صوفية، بما فيها نظرية "الإشراق" للسهروردي.

السير الذاتية للصوفيين المسلمين ويهود العصور الوسطى

من أهم الفلاسفة اليهود في العصر الإسلامي، موسى بن ميمون، واشتهر بكتابه "دلالة الحائرين" وهو من الكتب التي غيرت شكل اليهودية في تلك الفترة، والتي برز بها التأثر بالفكر الديني الإسلامي، وعقائده، ولم يتوقف التأثر عن هذا الحد، فبعد موسى بن ميمون خلفه ابنه "إبراهيم موسى بن ميمون" وأصبح مسئولًا عن الطائفة اليهودية في مصر (1204 – 1237)، وكتب كتاباً تحت اسم "المرشد الكامل لخدام الرب"، الاسم الذي يعبر عن دلالات صوفية، لم يخف الكاتب به تأثره بالصوفية الإسلامية. فأدخل بعض التجديدات في الطقوس اليهودية، مثل: السجود والوضوء، فهما ذات طابع إسلامي صرف، ورغم وجود قطاع من المعارضين له، إلا إنه خلق تيارًا خاصاً به.

تضم الجنيزا القاهرية مجموعة متميزة من الوثائق التي تؤرخ لحياة اليهود في مصر، وتعكس أحوالهم الاجتماعية والدينية والاقتصادية، ومن تلك الوثائق القيمة التي تعد من أهم وأندر الوثائق التي توضح مدى تأثر اليهود بالتصوف الإسلامي، والافتتان به

وتشير بعض السير الذاتية لمشايخ الصوفية مثل: "القُشيري" - وهو من أئمة الصوفية وصاحب "الرسالة القشيرية"- إلى حضور غير المسلمين لجلساتهم، مما أدى إلى اعتناق بعضهم للإسلام، بينما تفاخر "الشعراني" وهو فقيه صوفي عُرف باسم "القطب الرباني"، باعتناق العديد من اليهود الإسلام على يديه، و"ابن هود" وهو من السلالة الحاكمة في الأندلس، ثم عاش بعد ذلك في دمشق، وأسهم في شرح كتاب "دلالة الحائرين" لليهود، ولكن شكك العديد من معاصريه في عقيدته.

استغاثة امرأة يهودية

من ضمن الوثائق التي عُثر عليها في الجنيزا القاهرية ومحفوظة في مجموعة تايلور شيشتر بمكتبة كامبريدج في بريطانيا، والتي تعكس ذروة التأثير الصوفي على اليهود، فكان الخطاب من المرأة اليهودية لرئيس الطائفة في مصر، تستغيث فيه بأن ينقذ زوجها من المتصوفة.

ونرفق هنا ترجمة (من كاتب المقال) للخطاب من اللغة العربية اليهودية (اللغة العربية اليهودية، هى لغة عربية بحروف عبرية وبها بعض الكلمات العبرية) إلى اللغة العربية، وهو مشروع جامعة برنستون عن الجنيزا، هنا سنذكر جزء من الترجمة بعد تحريره؛ لكي يسهل فهمه:

"بسم الرحمن، إلى نجيدنا داود، زوجة بصير الجلاجلي تقبل الارض وتقول أن في رقبتها ثلاثة أطفال، وزوجها قد هوى الجبل عند الكوراني، مكان ليس فيه توراة، ولا صلاة ولا ذكر حقيقي للرب، بل هو يطلع الجبل ويخالط المتصوفين، وتخشى أن يخرجه إنسان سيّء من الدين هو والأطفال الثلاثة وقد هلكت المرأة من الوحدة وتطلب قوت الصغار وتريد المرأة أن يسير سيدنا خلفه ويرجعه عما يفعل". (لقراءة الترجمة الكاملة من هنا).

يهود أدمنوا الصوفية

يوضح البروفيسور "شولومو دوف جوتين" أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة العبرية في القدس، الذي اشتهر بأبحاثه في وثائق الجنيزا، في بحث له بعنوان "A Jewish Addict to Sufism"، والذي درس هذا الخطاب وأظهر تأثر اليهود بالصوفية، إلى حد إدمانها؛ فـ"البصير" صانع الأجراس زوج المرأة التي تستغيث برئيس الطائفة لنجدة زوجها من "الكُراني" (وهو أحد مشايخ الصوفية في ذلك الوقت) وخوفها عليه من ترك اليهودية واعتناق الصوفية الإسلامية، فقد فُتن بالصوفية وحياة الجبل وسط حشود الفقراء، وتخلى عن زوجته وأطفاله الثلاثة الصغار، ونوى بيع منزله، والذي كان بالطبع في حارة اليهود (وهو المكان الذي عاش به اليهود في مصر)، ليقيم بشكل دائم في الدير الصوفي، فكان المتصوفون يعيشون مع أُسرهم في مناطق نائية، وهذا ما كان ينوي أن يفعله.

لذلك أرسلت زوجته تلك الاستغاثة للنجيد داود، ليذهب خلف زوجها ويعود به ليقوم بواجباته الدينية والزوجية، والجدير بالإشارة بأن حديثها للرئيس كان عن الجانب الديني، وتحدثت عن جوع أطفالها ووحدتها في المرتبة الثانية. ومن المتعارف عليه في المجتمع اليهودي أن المرأة اليهودية هي ربة البيت، وتحرص على أن يدرس أولادها دراسة دينية على يد معلمين أكفاء، وترسل زوجها للكنيس (المعبد) في الصباح الباكر أو بعد الظهر بعد عودته من العمل، لذلك كانت معينة بأن يعود زوجها من حياة الجبل.

افترض البروفيسور "شولومو" أنها لا يمكن أن تكون هي من كتبت الرسالة، لأن في ذلك الوقت لم تكن النساء تتعلم، وأيضاً الخطاب مكتوب بخط يدوي أنيق، فربما شخص آخر هو من كتب الخطاب، وربما هذا الشخص أيضاً مقرب لرئيس الطائفة، ولديه إمكانية للوصول إلى النجيد "داود"، لأنها ذكرته بالدواء الخاص بابنها المصاب في أذنه، ومن الواضح أيضاً إنها مدركة بإن النجيد لا يفضل الدخول في نزاع مع الصوفيين، ومن ثم ذكرت أنه منذ أن أصبح مسئولاً عن منطقة بأكملها، لا يمكن أن يفشل في إعادة زوجها، إذا حاول.

أما أسلوب الكتابة، فاستخدمت المرأة الكلمات والجمل العبرية التي تعبر عن الشؤون الدينية، وكررت كلمتها أكثر من مرة، فالرسالة هي وثيقة إنسانية للغاية، وفي نفس الوقت لا تخلو من القيمة التاريخية التي تعكس وضع اليهود في مصر في تلك الفترة.

يوسف العجمي الكُراني

المعلم الصوفي المذكور في الخطاب هو العجمي الكُراني الذي توفي في القاهرة (1367م)، وبالتالي فإن النجيد داود الذي وجهت له الرسالة هو ديفيد الثاني بن موسى بن ميمون، وخلف والده كرئيس لطائفة اليهودية، فيوسف العجمي الكُراني من مشايخ التصوف في مصر، بين الفترة (1355– 1363)، وبناء على السيرة الذاتية التي كتبها "التُغري البردي" وهو مؤرخ مصري، فلقبه بإمام السالكين، وأشرف الكُراني على زوايا مختلفة يقصد بالزوايا تجمعات الدراويش الصوفيين، وكانت الزاوية الخاصة به في مكان يسمى بـ"القرافة" وتقع أسفل جبل المقطم في القاهرة، وكانت تعتبر مكان للرهبان والصوفيين آنذاك، وهو الجبل الذي ذُكر في الخطاب أكثر من مرة.

من ضمن الوثائق التي عُثر عليها في الجنيزا القاهرية ومحفوظة في مجموعة تايلور شيشتر بمكتبة كامبريدج في بريطانيا، والتي تعكس ذروة التأثير الصوفي على اليهود، فكان الخطاب من المرأة اليهودية لرئيس الطائفة في مصر، تستغيث فيه بأن ينقذ زوجها من المتصوفة

أحيا الكُراني النهج الصوفي "الجنيد" وهو نهج قائم على الالتزام بمبدأ الزهد والتقشف، وهو ما عبرت عنه "الفقر والفقراء" في الخطاب، وهي مرادفات تعبر عن المتصوفين المسلمين بشكل عام.

كتب عبد الوهاب أحمد الشعراني، العديد من القصص الغريبة عن الكُراني، منها: إنه ذات مرة عندما خرج من صومعته، كانت عيناه تحترق كالفحم، وكل من نظر إليه، تحول إلى مخلوق خارق!

ويَحكي لنا حكاية أخرى أكثر غرابة، ذات مرة عندما خرج من عزلته التي دامت أربعين يوم، نظر إلى كلب، فأصبح الكلب قديساً (علق عليه فماذا إذا نظر إلى رجل!)، وتوافد عليه كل الكلاب كأتباع له، حتى البشر زاروه من أجل تحقيق رغباتهم، بما له من بركات، وبعد موت الكلب دُفن من قبل أشخاص ملهمين من الله، وزار قبره أتباعه من الكلاب، تماماٌ كما يحدث لقبور القديسين البشر، وبالطبع لا أحد يعرف صحة هذه الروايات. كتب الكُراني كتاب عن بداية الطريق للاتباع الجدد، الذي ضم على الأقل سبع مخطوطات، ولكن لم يعثر عليها أحد.

لم يسمح الكُراني بفتح المكان للزوار، خاصة عندنا يجلبون الهدايا للزهاد، وعندما عرض عليه السلطان مكاناٌ ليعيش فيه هو وأتباعه، رفض لأن ذلك يتعارض مع تعاليمه التي تحث على التقشف والزهد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard