شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أدركت فجأة أني متمسكة بالحياة تحت سقف أمانٍ مستعار

أدركت فجأة أني متمسكة بالحياة تحت سقف أمانٍ مستعار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 16 مارس 202311:04 ص


اعتقدت أنّي وصلت أخيراً إلى الفصل الأخير، الفصل القصير جداً الذي يُنهيه الراوي بجملته الشهيرة: "وعاشوا بعدها بسعادة إلى الأبد "، ثم يصمت، لكن يبدو أن الواقع غير ذلك، وأنّي وملايين من السوريين نتشارك القصة ذاتها بأسماء مختلفة فقط، وجميعنا عالقون في حكاية مأساوية لا يعرف كاتبها بعد كيف ينهيها، لكنها بالتأكيد ليست من ذلك النوع الذي ينتهي بأن يعيش الأبطال بسعادة إلى الأبد.

صوت الراوي الذي ننتظره جميعاً لإعلان انتهاء الحكاية ليس إلا سراباً، لا نكاد نسمعه حتى يختفي.

 اثنا عشر عاماً ونحن نكذّب الأضواء ونصدّق العتمة، نحمل جثثنا فوق ظهورنا كل صباح ونمضي إلى المجهول، كل يوم جديد كان بالنسبة لنا مشروع كارثة.

مأساتي الشخصية مع الزلزال

لم يكن قد مضى أسبوع على إعلان نتائج جائزه الشارقة الإبداع العربي، ولم أكن قد تكيّفت بعد مع الشعور بالسعادة بسبب حصولي على المركز الأول. كنت ما زلت في مرحلة محاولة تصديق أن الأشياء الجميلة من الممكن أن تحصل، وخاصةً بعد أن تحولت حياتي لأكثر من 11 سنة لعملية مطاردة يومية لأسباب بسيطة للسعادة، مطاردة تنتهي دائماً بخسارتي.

اثنا عشر عاماً من الحرب علمتنا نحن السوريين جيداً كيف نخاف الفرح أكثر من الحزن بكثير، وكيف نخبّئ وجوهنا إذا ما باغتتنا ابتسامة مفاجئة أو نجاح عابر، اثنا عشر عاماً ونحن خائفون من النظر إلى السماء، خائفون من الشمس التي لم تتوقف عن معاندة بؤسنا والشروق كل يوم، اثنا عشر عاماً ونحن نكذّب الأضواء ونصدّق العتمة، نحمل جثثنا فوق ظهورنا كل صباح ونمضي إلى المجهول، كل يوم جديد كان بالنسبة لنا مشروع كارثة.

لذلك وضعت آمالي في صندوق حديدي وأقفلته جيداً، خوفاً من أي تفاؤل صغير قد يتسرب ويعكر عليّ صفو تأقلمي مع المأساة، لكن لم أتخيل لحظة واحدة أن يكون غريمي هذه المرة الطبيعة، وأنّ الشعور بالأمان ليس أكثر من خدعة أستعيرها من الأوهام لأنجو يومياً.

الفرح ليس بهذه البساطة، الفرح على الصعيد الشخصي شعور معقد جداً عندما يترافق مع كارثة جماعية، لم أعرف كيف أتعامل معه، لدرجة أن أمضيت ليالي طويلة أعاقب نفسي بجرعات مكثفة من مآسي الآخرين لأتوازن قليلاً من الداخل: كنت أبحث عن الألم لأشعر أني أستحق قليلاً من السعادة.

الفرح ليس بهذه البساطة، الفرح على الصعيد الشخصي شعور معقد جداً عندما يترافق مع كارثة جماعية، لم أعرف كيف أتعامل معه

الخوف بعد الزلزال

بعد سنوات طويلة من الظلم، وبعد ما نختبره يومياً كسوريين من تكيّف كلاسيكي مع الخوف، وبعد ما أصبحنا أرانب وفئران وجرذان وفيلة، لم أعتقد أن هناك مشاعر أخرى لم أختبرها. لكني بعد الزلزال عرفت معنى جديداً للخوف، الخوف هذه المرة كان من عجزي الإنساني، ومن حقيقة أني لست أكثر من كائن صغير بائس وهشّ وضعيف جداً، متروك لوحده يتصارع مع أكوام من الأسئلة دون إجابات.

عادت لي فجأة كل تلك الأسئلة التي كنت قد وضعتها جانباً لزمن طويل لأرتاح فقط من عبء التفكير والبحث، تلك الأسئلة التي تفضح عجزك كإنسان ولذلك تتحاشها، ذاتها أسئلة الطفولة الأولى: من نحن؟ ماذا نفعل هنا؟ أين الله؟ كيف بدأنا؟ ماذا يحدث بعد الموت؟ هذا السؤال الذي كان دائماً الأكثر تعقيداً، والأسوأ على الإطلاق، السؤال الذي يحشر الجميع في الزاوية، العلماء مع الفلاسفة مع الشعراء مع المشايخ مع الناس العاديين، جميعهم لا يعرفون، أو جميعهم يحاولون ويفشلون.

حتى أنّ كثيرين من علماء النفس والفلاسفة يعتبرون أن أي خوف أو قلق يمر به الإنسان مرده إلى الخوف من الموت.

ما متنا بس شفنا اللي ماتوا

"أي أمّ أنا"، هذه الجملة أول ما يخطر في بالي عندما أتذكر الليلة المشؤومة، ليلة 6 شباط/ فبراير عام 2023 استيقظت وطفلي على أصوات سقوط أواني المطبخ وهز عنيف للسرير، تسألني طفلتي: ماذا يحدث، لأجيبها بكل بساطة: زلزال، عودي للنوم. حضنتها وأخاها بقوّة، ولم أفكر لحظة واحدة بمغادرة السرير.

الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثين يوم على الكارثة، أفكر بسلوكي بجدية أكثر: لماذا لم تدفعني حلاوة الروح لمغادرة السرير؟ خوفي على أطفالي على أقل تقدير لماذا لم يمدني وقتها بالطاقة التي كنت أحتاجها؟ ماذا لو كنت جغرافياً أقرب بقليل، بقليل فقط لكانت هذه المبالاة التي علمتنا إياها سنوات الحرب الطويلة قد كلفتني حياتي وحياة طفليّ وحياة أمي النائمة في الغرفة الأخرى جواري.

بعد سنوات طويلة من الظلم، وبعد ما نختبره يومياً كسوريين من تكيّف كلاسيكي مع الخوف، وبعد ما أصبحنا أرانب وفئران وجرذان وفيلة، لم أعتقد أن هناك مشاعر أخرى لم أختبرها

اكتشفت بعد أن سألت الكثيرين عن سلوكهم عندما شعروا بالزلزال يوم 6 شباط/ فبراير أنهم تعاملوا مع الأمر بطريقتي ذاتها، وأني والكثيرين بدأنا نشعر بالخوف بعد رؤيتنا لما أحدثه الزلزال من دمار في أماكن أخرى، وهذا ما ترجمناه على شكل ردات فعل مبالغ بها بعد سماعنا عن خبر لأي زلزال محتمل أن يقع مجدداً أو بعد شعورنا بأي هزة مهما كانت بسيطة.

والواقع أن إحساسنا بالعجز كبشر زاد من مشاعر الخوف والقلق التي نحسها، "الخوف من الزلزال كان مختلفاً، لا يشبه الخوف الذي كنا نحسه وقت الحرب"، سمعت هذه العبارة من غالبية من عاشوا الكارثة وعاشوا الحرب.

لنتخيل معاً أننا في عصر آخر، وأن أخبار الدمار لم تصلنا، هل كان الخوف سيتمكن من قلوبنا بهذه الطريقة؟

الإجابة ببساطة: لا، رغم أن الحدث ذاته والكارثة ذاتها والدمار ذاته لم نكن لنخاف لأننا لم نرى الموت.

لنتخيل معاً أننا في عصر آخر، وأن أخبار الدمار لم تصلنا، هل كان الخوف سيتمكن من قلوبنا بهذه الطريقة؟

الزلزال بعينه لم يكن محفزاً للخوف ولا حتى الموت كفعل، ربما الخوف كان نتيجة إدراكنا للحقيقة الواضحة نحن لا نعرف كيف نموت، وماذا سيحدث بعد أن نموت، الزلزال فجر الخوف من الموت الذي يعيش داخلنا، الخوف الذي نتحايل عليه بأن نعيش متناسين حقيقة أننا في النهاية سنموت، وإن كنا سنموت لماذا نحيا من الأساس؟

كتب شيشرون الفيلسوف الروماني "التفلسف هو تعلم الموت". ربما هذا ما نحتاجه أن نتعلم كيف نموت، كيف نتقبل أننا في النهاية وبعد أن نحب، ونكره، ونحقد ونكتئب، وننجح، ونفشل، وننجب، ونقبل، ونرفض، ونبني، ونهدم، ونتصارع سنموت. سنختفي كلياً وبعد سنوات حتى أسماؤنا لن يبقى لها أي قيمة.

أشعر أني بعد تلك الليلة المشؤومة دفنت امرأة وصرت امرأة أخرى، وكأن الكارثة أظهرت ذاتاً جديدة لم أكن لتلك اللحظة قد عرفتها أو تعاملت معها، أو ربما أنها لم تكن موجودة من الأساس، أدركت فجأة أني متمسكة بالحياة وأن اعتقادي لسنوات طويلة بأن الموت رفاهية ليس أكثر من شعور بالإحباط، ما زلت أحتاج الكثير من الوقت لأتعلم كيف أحيا، وكيف أموت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard