شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
رياضة ويوغا وركوب درّاجات... محاولات نساء غزّة

رياضة ويوغا وركوب درّاجات... محاولات نساء غزّة "للتنفس بعمق"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الاثنين 6 فبراير 202310:14 ص

غامَرَت سحر مرةً. اختارت غرفة صغيرة في بيت أسرتها. ارتدت ملابسها الرياضية. لملمت شعرها كذيل فرس. وعلى إيقاع لاتيني، بدأت تتحرك يمنى ويسرى، وزاد حماسها وتسارعت خطواتها وكذلك دقات قلبها، ما دفعها إلى التفكير في تحويل الغرفة إلى نوع من نادٍ رياضي متواضع خاص بها، قبل أن يكتشف شقيقها الأمر ويحذّرها من تكرار فعلتها واصفاً إياها بالـ"مجنونة".

انتهت قصة غرفة "الزومبا" السرية، وكادت السنوات تدفن حلم سحر بالرقص بحرية. فكرة التدريب في مكانٍ مغلق وممارسة شغفها وحريتها في وسطٍ لا يعرفها ولا تعرفه، كانت بحد ذاتها ضرباً من ضروب الخيال بالنسبة إلى الفتاة العشرينية، فلم يكن معهوداً في قطاع غزة انتشار النوادي الرياضية الخاصة بالنساء ولا الإقبال عليها.

ولكن الأمور انقلبت بعد أن تسلل إليها نبأ افتتاح نادٍ رياضي قريبٍ من منزلها في مخيم الشاطئ للاجئين، غرب مدينة غزة. افتتاح النادي عنى لسحر وأُخريات تغييراً كبيراً في نظرة سكان المنطقة إلى فكرة وجود مكانٍ مخصصٍ للنساء يمارسن فيه أنشطةً رياضية.

وخلافاً للانطباع السائد بأن النساء اللواتي يذهبن إلى الأندية الرياضية يرغبن في التخلص من كيلوغرامات زائدة، فإن سحر تتمتع بجسد رشيق، لكنها تؤمن بأن للرياضة أثراً صحياً ونفسياً عظيماً، كما قالت لرصيف22، فهي تساعدها على التحرر من الضغوط المتولدة من الظروف القاسية التي تعيشها الشابات في القطاع المحاصر.

ليس بعيداً عن قصة سحر، لجأت السيدة رانيا (42 عاماً) إلى أحد النوادي لممارسة الرياضة، بعد معاناة مستمرة مع آلام في أسفل الظهر، وأوجاع في الركبة والعضلات، متأملة إنهاء مشكلتها الصحية بهذه النشاطات. خلال رحلتها، استطاعت الوصول إلى الوزن المثالي، وتعزو ذلك إلى التمارين الرياضية وتناول الطعام الصحي.

تصف رانيا لرصيف22 كيف تحوّل "الجيم" (النادي الرياضي) من مكانٍ للتداوي إلى بيتها الثاني الذي منحها عائلة تجمع بين أفرادها الحاجة إلى التعافي من الندوب والاهتمام بالذات، وتطوير الصحة النفسية، والتنفيس عمّا تواجهه كل واحدة منهن في حياتها اليومية ولا تستطيع مشاركته مع أهلها.

تستذكر السيدة الأربعينية كيف كانت تنتظر انتهاء موجات التصعيد الإسرائيلي المتكررة على غزة لتعود إلى النادي وتفرغ كل ما راكمته من مشاعر خوف وحزن، اضطرت هي وكثيرات إلى إخفائها كي لا تتسلل إلى نفوس أطفالهن وعائلاتهن. كان النادي دائماً ملاذها الآمن. فيه تستطيع تفريغ مشاعرها السلبية من خلال التمارين وجلسات الاسترخاء.

لا تجد رانيا أيّة مشكلة في انتقاد الأشخاص والمجتمع لها، بل ترى في نقدهم حافزاً للمضي قدماً في ممارسة الرياضة "طالما لا تؤثر في أنوثتي".

تفريغ للطاقة السلبية

تدير أماني زهد نادياً رياضياً للنساء غرب قطاع غزة، فيه تتدرّب رانيا. تُخبر رصيف22 أن "إقبال النساء في غزة على صالات الرياضة كبير، وكبير جداً"، لافتةً إلى إلمام الغزّيات بأسماء التمارين الرياضية، فـ"من النادر جداً أن تجدي مشاركة لا تمتلك معرفة عن النظام الرياضي العام".

عن تأسيسها مركزاً رياضياً، تروي أن "القرار كان نتيجة للظلم الذي تعرّضتُ له من استغلال لحقوقي واستنزاف لقدراتي، واستطعت إنشاء مشروعي المتواضع، مع العلم بأنني أحاول تطويره باستمرار من حيث المعدات وغيرها". وكانت أبرز العقبات التي واجهتها هي عدم وجود الدعم المادي الكافي للتطوير، أما أهم العوامل التي ساعدتها على المضي قدماً فهي اشتراك النساء اللواتي دربتهنَّ في السابق وكسبت ثقتهن بناديها.

وتشير "الكابتن زهد" إلى أن الصالة الرياضية، إلى جانب كونها مكاناً لمعالجة مشاكل السمنة وآلام الجسم وتقوية العضلات، تُعَدّ أيضاً من أهم الأماكن "للتفريغ النفسي والتخلص من الطاقة السلبية الموجودة في مجتمعنا الغزّي" الذي تتعرّض فيه النساء لضغط نفسي شديد بسبب معايشتهن حروباً ومعاناتهنّ من الفقر والبطالة وانعدام خيارات الترفيه، وذلك من خلال تمارين مثل: الكارديو، ورقص الزومبا، والدبكة الشعبية، ورفع الأوزان المتناسبة مع القدرات، إلى جانب توظيف تمارين القتال مثل "الكيك بوكسينغ" لمساعدتهن في الدفاع عن أنفسهن والتغلب على شعورهنّ بالضعف.

وتشرح زهد كيف تتفاعل السيدات بحماسة حينما تطلب منهن أن يتخيّلن أنفسهن يقاتلن مَن ينغّص عليهن عيشتهن، أو يشكل وجوده في حياتهنّ عقبة، وأن يستحضرن قواهنّ الذهنية والجسدية للتخلص من كل الكبت العالق داخلهن.

بين الماضي والحاضر

بالعودة إلى الماضي قليلاً، لم تكن النوادي الرياضية الخاصة بالنساء منتشرة في قطاع غزة مثل اليوم، بل كان يقتصر وجودها على نادٍ أو اثنين ترتاده السيدات من العائلات المقتدرة مادياً في مناطق ساحل غزة الغربي القريب من حي الرمال، أكثر الأحياء الراقية بالقطاع، برسومٍ شهرية تتجاوز الـ60 دولاراً.

وفي بحث عن الرياضة النسائية في غزة، أجرته الصحافية الرياضية نيللي المصري، نقلت عن أحد أعمدة الرياضة في القطاع، الحاج سالم الشرفا، أن الفترة الممتدة بين عاميْ 1959 و1967 شهدت انفتاحاً على الرياضة النسائية، "حيث كانت تنضم الفتيات إلى الأندية الرياضية ويواظبن على ممارسة التمارين أكثر من الذكور". كما أن الأهالي كانوا يتقبلون فكرة ممارسة الفتيات للرياضة ويساعدنهن على الانخراط في الأنشطة الرياضية، فضلاً عن السماح لهن بالمشاركة في بطولات خارجية تقام في الصين أو السويد أو دول عربية.

ولكن الرياضة النسائية مرّت بمراحل اضطراب، وفقاً للحالة السياسية، فتراجعت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بفعل اندلاع أحداث انتفاضة الحجارة، ثم استعادت نشاطها النسبي بعد توقيع اتفاق أوسلو (1994- 2000)، ثم تراجع نشاطها مرة أخرى مع اندلاع انتفاضة الأقصى وما تبعها من أحداث داخلية استمر انعكاسها إلى ما بعد العام 2010، لتعود وتتحسّن من جديد في السنوات القليلة الماضية. وحالياً، تشهد إقبالاً متزايداً من قبل الغزّيات، من جميع أنحاء القطاع، بما فيها المخيمات والمدن وبعض القرى.

وتلفت المصري إلى عدم وجود نادٍ رياضي متكامل للنساء في الوقت الحالي، ويقتصر الأمر على مراكز يطلق عليها تسمية "الجيم"، وهي مساحة صغيرة فيها بعض الأجهزة الرياضية. وتُرجع الصحافية الرياضية انتشار هذه المراكز إلى انفتاح النساء في غزة وهوس نسبة كبيرة منهن بالجمال والرشاقة، بالإضافة إلى سعر الانتساب الذي يتناسب مع قدرات الجميع.

تتفاعل السيدات بحماسة حينما تطلب منهن مدرّبة الرياضة أن يتخيّلن أنفسهن يقاتلن مَن ينغّص عليهن عيشتهن، أو يشكل وجوده في حياتهنّ عقبة، وأن يستحضرن قواهنّ الذهنية والجسدية للتخلص من كل الكبت العالق داخلهن

من جانب آخر، يمكن القول إن فكرة المراكز المغلقة لاقت قبولاً من المجتمع الغزّي المحافظ، طالما أن النساء يمارسن الرياضة بعيداً عن أعين الرجال. والدليل على ذلك أن هاويات "اليوغا" وركوب الدراجات الهوائية اللواتي يمارسنَ هوايتهن على شاطئ البحر أو في الهواء الطلق لا زلن يصطدمن بموجات من السخرية من المجتمع الذكوري على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن هناك مَن وجدنَ أنّ الحياة خارج القيود الاجتماعية المجحفة تستحقّ المحاولة. الرياضية العشرينية إيمان المغير إحدى هؤلاء. كانت تمارس جلسات اليوغا فوق سطح منزلها، إلى حين افتتاحها مركزاً في مدينة رفح، جنوب غزة، تجتمع فيه الشابات حول بعضهن البعض كحلقة على فرشات إسفنجية زاهية، ويطلقن أطرافهن ويشرعن في التأمل والاسترخاء والتنفس بعمق.

تعلّمت المغير هذه الرياضة بمجهود ذاتي من خلال دراستها للتدريب الرياضي والبحث المستمر عبر مواقع متخصصة وقراءة بعض الكتب الرياضية، بالإضافة إلى مشاركتها في دورات تدريب دولية عبر الإنترنت.

تقول إن رياضة اليوغا هي المتنفّس لكثيرات من النساء، في ظل العادات والتقاليد الصارمة التي تقضي بالحد من ممارسة المرأة للرياضة في الأماكن العامة، إذ تتمكن السيدات من ممارستها في صالات رياضية خاصة بكل أريحية بعيداً عن أي شكل من أشكال الاختلاط بالرجال.

وعلى الرغم من ذلك، هناك عدد قليل من الأماكن الترفيهية المفتوحة التي يرى السكان فيها متنفساً للخروج من الواقع المعيشي الصعب، أبرزها ملاعب التدرب على ركوب الدراجات الهوائية التي تستقبل النساء أثناء دوام يومي مخصص لهنّ، وتجد الشابات، الصغيرات بشكل خاص، فيها مكانهن الترفيهي المفضل، خلال فصل الربيع والعطلات الصيفية.

لأجل دقائق من السعادة

قبل أن تستيقظ المدينة، ويكتظ شارع الكورنيش المطل على البحر بالناس، تستقلّ الشابة صابرين خالد (19 عاماً) دراجتها الهوائية وتلتقي بعشرات الفتيات والسيدات، ويبدأن رحلة "التنفس بعمق" عبر قطع مسافات طويلة.

تقول لرصيف22 إن ركوب الدراجة الهوائية "حلمي وهوايتي منذ صغري، ولم يكن مسموحاً لنا باعتباره هواية ذكورية. اليوم انتظر عطلة نهاية الأسبوع، والإجازات السنوية، للانضمام إلى المسابقات والألعاب باستخدام الـ‘بسكاليت’ (الدراجة الهوائية) في مكان واسع يمنحني الراحة والترفيه، خاصة مع قلة خيارات الأماكن الترفيهية الخاصة بنا كشابات".

للمرأة الفلسطينية، وخاصة الغزاوية، خصوصية من ناحية نوعية الضغوطات التي تواجهها، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ظل كونها الوجهة الأولى لتلقي جميع الضربات، باعتبارها "جبل المحامل"

"الانتقادات كانت كثيرة. تهامس الناس بتعليقات سلبية نسمعه دائماً ونتغاضى لأجل دقائق من السعادة، إلا أنها تبقى تجربة جميلة قوّتني جداً، وساعدتني في التحرر من بعض القيود والقوالب المجتمعية المفروضة عليّ كأنثى، وأتمنى لو باستطاعتنا التنقل بـ‘البسكاليت’ في الأوقات والمناطق التي نريدها نحن"، تقول صابرين.

"جبل المحامل"

ورغم النشاط الملحوظ للرياضة النسائية، إلا أنه لا تتوافر أرقام دقيقة عن أعداد النساء اللواتي انخرطن في الأنشطة الرياضية في غزة. ولكن يبدو السؤال الأكثر إلحاحاً: هل أصبح القطاع أكثر انفتاحاً، أم أن النساء استطعن فرض رغبتهنّ على المجتمع؟

تقول الأخصائية النفسية والاجتماعية علا الدويك لرصيف22 إن للمرأة الفلسطينية، وخاصة الغزاوية، خصوصية من ناحية نوعية الضغوطات التي تواجهها، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ظل كونها الوجهة الأولى لتلقي جميع الضربات، باعتبارها "جبل المحامل"، وفق تعبيرها.

تتعرض النساء في غزة لأشكال كثيرة من العنف النفسي والجسدي والاجتماعي، ويتجسّد هذا العنف في انتشار ثقافة سلبية تجاههن وعادات مجحفة بحقهن، وأي ضغوط يعاني منها الزوج أو الأب أو الابن تنعكس على المرأة، كونها تُعَدّ الملجأ والدعم والسند داخل الأسرة. ويُضاف إلى ذلك الضغوطات التي تعاني منها الأرامل والمطلقات في ظل ثقافة وعادات وتقاليد وقوانين تشعرهنّ بالنقص والدونية. وتلخّص الدويك كل هذا بقولها إن "الضغوطات الاجتماعية على المرأة مصدرها الأسرة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام".

وتلفت إلى أن أهم أساليب الرعاية الذاتية للسيدات تكمن في التفريغ النفسي، عبر الكتابة والتعبير عن هذه الضغوطات، والتحدث إلى شخص موثوق، وتمارين الاسترخاء بشتى أنواعها، والمشي مع التنفس بعمق، وممارسة التمارين الرياضية، سواء داخل المنزل أو في مراكز خاصة، لما لهذه التمارين من أهمية من ناحية جسدية ونفسية على صحة المرأة.

وتضيف الدويك أن "من حسن الحظ أن ظهور مراكز رياضية خاصة للسيدات في قطاع غزة أتاح لهنّ الفرصة لممارسة كافة الأنشطة الرياضية بحرية"، معتبرةً أن التطور التكنولوجي والانفتاح على مواقع التواصل الاجتماعي عاملان أساسيان في زيادة انفتاح المجتمع الغزي على بعض عادات وثقافات العالم الخارجي، وفي التفكير خارج الصندوق.

"أصبحت السيدات واحدة تشجع الأخرى نتيجة مقالة قرأتها أو فيديو شاهدته على مواقع التواصل الاجتماعي أو محاضرة سمعتها عن كيفية التخلص من الضغوط النفسية"، تتابع الدويك، و"ساعد هذا في تخفيف وصمة خروج المرأة وممارستها لكثير من الأنشطة الرياضية وغيرها، كما أن انفتاح الرجال على شبكات التواصل ساهم في تقبلهم لخروج زوجاتهم".

لا تكلّ النساء في غزة عن محاولات خلق مساحات تتيح لهنّ قضاء أوقاتٍ تليق بإنسانيتهن، بعيداً عن موانع القوة الطاغية في المجتمع التي تطل برأسها عند كل محاولة لهن للتنفس والتعافي من الأوجاع، ولكنهنّ لا زلن في منتصف الطريق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard