شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
غرفة وسام وفاطمة، خوف نتشاركه

غرفة وسام وفاطمة، خوف نتشاركه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الخميس 26 يناير 202305:45 م


عادة، وفي الحالات الطبيعية، تكون منازل آبائنا هي ملاجئنا التي تمنحنا الأمان والقوّة في أوقات خوفنا، ولكن عندما تتحوّل إلى سجون وفيها أصوات الخوف والعنف تهبّ وترعد، تصبح ندوباً من الصعب التئامها، بل وأحياناً يستحيل الشفاء منها.

جميعنا نحلم بمنزل يأوينا، يكون لنا مساحة آمنة نهرب إليها عندما يشتدّ هذا العالم قسوةً ورعباً، حتّى أنّنا كثيراً ما نختار غرف نومنا مساحة خاصة لنا، لتكون ملجأنا في أوقات الحزن أو التعب، ولكن ماذا لو تحوّل هذا الملجأ إلى مساحة يستحيل فيها الشعور بالأمان، أو مساحة مليئة بالصدمات النفسيّة، بالعنف والخوف والرعب؟

ماذا لو بتنا مرغمين على محاولة النجاة منها أو الهرب من صدماتها، من الخوف أو ربما الموت الذي يلاحقنا؟ وربما التساؤل الأكبر، ماذا لو كان الخوف والعنف اللذان يلاحقاننا مصدرهما يشكل صدمة بحد ذاته؟ ماذا لو كان آباؤنا هم المسؤولون الأول عن صدماتنا وندوبنا النفسية التي نحاول الخلاص منها؟!

الكثير من الـ "ماذا" و"لو" كرّرتها على نفسي، أو الكثير من محاولات التعمّق بالصدمات النفسيّة الناجمة عن الآباء التي حاولت تتبّعها في الأيام الماضية. ما أعلمه أنّ جميع محاولاتنا للالتئام من ندوب آبائنا هي محاولات للنجاة والبحث عن منزل تسكنه الطمأنينة لمعالجة وقع تلك الصدمات علينا، هي كمحاولات فاطمة ووسام المتكرّرة بأن نشقّ طريقنا بحثاً عن حياة تضمّد تلك الآثار النفسيّة، ولكنّنا في أغلب الأحيان نعود إلى تلك الغرفة بكل وحشيّتها مراراً وتكراراً، لنقاوم خوفنا منها وهي تغلق على أنفاسنا لعلّها تردع عنّا كل لحظات الرعب التي تطأ أجسادنا بوحشيّة.

أكتب هذه السطور وأنا أشعر بثقل سجن وسام وفاطمة، كما لو أنّ شخصاً يغرق وكل الأيادي اكتفت بالتلويح له من بعيد، وكأنّ القوارب جميعها سلكت مساراً آخر وتركت نجاته في كفّة القدر

 أكتب هذه السطور بينما وسام وفاطمة تتشاركان مع العديد منّا ثقل صدماتنا وذاكرتنا وآلام العديد من النساء. أكتب هذه السطور وأنا أشعر بثقل سجن وسام وفاطمة، كما لو أنّ شخصاً يغرق وكل الأيادي اكتفت بالتلويح له من بعيد، وكأنّ القوارب جميعها سلكت مساراً آخر وتركت نجاته في كفّة القدر.

لقد مرّ أكثر من أسبوعين على احتجاز وسام وفاطمة في منزل والدهما، جملةً كانت لتكون مليئة بالطمأنينة والأمان بدون صفة الاحتجاز، لو أنّ عماد العاصي لم يجعل من منزله زنزانةً يمارس فيها شتى أنواع الجرم والتعذيب ضدّ ابنتيه، بغطاء مستمد من سلطة غزةّ الحكومية وغير الحكومية والمجتمع الأبوي المتآمر على حيوات النساء والفتيات.

منذ أسابيع وأنا أتابع قضية وسام وفاطمة، أبحث عن خبر لعلّني أشبع رغبتي في نهاية سعيدة تطمئن ندوبنا بأنّنا سنكون يوماً ما بخير، أو ربما نهاية تجعل لجراحنا القدرة على التنفّس وسط مجتمعات تتشابه في حماية أمثال والدهما، وتغضّ النظر عن جرمه تحت مسمّى "الأبوّة" و"المؤتمن على بناته"، أو بأنّ "الأهل أدرى بمصلحة أولادهم"، وليس هذا المفهوم سوى مفهوم أبوي بحت، لا يستخدم إلا كتبرير في الكثير من الأحيان لتكبيل حريّتنا وهويّتنا.

منذ أسابيع وأنا أتابع قضية وسام وفاطمة، أبحث عن خبر لعلّني أشبع رغبتي في نهاية سعيدة تطمئن ندوبنا بأنّنا سنكون يوماً ما بخير.

سمعت الكثير من القصص عن فتيات ونساء واجهن العنف من إخوتهن وآبائهن، ولكنهن فضّلن عدم الإفصاح أو الإبلاغ عن هذا العنف أو اللجوء إلى جهات قانونيّة لحمايتهن، خشية مواجهة المجتمع ووصمة العار التي قد تلاحقهن، أو حتى بسبب عقدة الذنب التي تمّ تعزيزها من قبل مجتمعاتنا الأبويّة، فقد يكون موتنا على يد آبائنا أسهل من أن تلاحقنا أفواه المجتمع لنصرة السلطة الأبوية.

كلما حاولت الغوص في قصّة وسام وفاطمة  أشعر بالخوف الذي يغزو جسدي، أتخيّل الغرفة التي تحوّلت بمثابة سجن لهما بدون أيّة نافذة، أتساءل إذا ما كانتا قادرتين على الحلم حتى الآن، أو على تخيّل ما يحدث خارج سجنهما، أو إذا ما عرفتا بالنساء اللواتي يحاولن دعمهن.

أودّ لو أعلم كلّ هذا، لعلّنا نطمئن بأنكما لا زلتما قادرتين على النضال لأجل أحلامكما وأمانيكما. أتصفّح حساب عماد العاصي فأشعر برغبة شديدة بشتم ذاك المجرم على صفحته وكل من يدعمه، فمجرّد الدخول إلى صفحته كفيل بأن يشعرنا بذبذباته الوحشيّة وقوّته الجرميّة التي يستمدّها من نظامٍ ومجتمع أبوي يدعمانه.

وما لفتني أكثر من بين المنشورات الذكورية الأبوية المنتشرة على صفحته، هو منشور كان قد وضعه أحد أصدقائه وتمّت الإشارة إليه عن مقابلة مع المغني اللبناني ملحم زين، حيث أن الأخير يجاهر بسلطته الأبوية على أولاده، وبشكل خاص على ابنته، بعدما أثارت مقابلته مع الإعلامي وسام بريدي الكثير من الانتقاد، بحيث فضّل إرسال ابنته الى المستشفى على أن تطلق أغنية، وليس هذا إلّا دليل آخر على منظومة فكريّة أبويّة تساند وتدعم بعضها البعض بطريقةٍ أو بأخرى، لتعزّز التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي.

ماذا لو كان الخوف والعنف اللذان يلاحقاننا مصدرهما يشكل صدمة بحد ذاته؟ ماذا لو كان آباؤنا هم المسؤولون الأول عن صدماتنا وندوبنا النفسية التي نحاول الخلاص منها؟!

أمّا في منشورات أخرى فتهنئات وتبريكات لعودة بنات المجرم عماد العاصي، ليس إلى أحضانه، بل إلى ولايته عليهن بدون أي قيد أو شرط، ما يغذّي السلوك الأبويّ لدى العاصي، والمرعب أكثر هي تلك التهديدات بقتل وسام وفاطمة التي نشرت علناً على مواقع التواصل الاجتماعي بلا أي حسيب أو رقيب، وبدون أن يتم ردعه أو توقيفه من قبل السلطات الحكومية الفلسطينية.

فاطمة ووسام اللتان هربتا من منزل والدهما المعنِّف والمصاب بالذهان هربتا رفضاً للموت، لأجل الحياة، ولكن ما لبثتا أن وجدتا نفسيهما محاصرتين، ليس من قبل الاحتلال وحده بل من قبل المجتمع الأبوي أجمع، يطاردهما محيطهما والكون بأسره. حتّى تلك المراكز المنوطة حمايتهما، استسلمت لمشيئة الأب الإلهية، بحجّة أنه وحده الجدير بحمايتهما وتربيتهما بالطريقة التي يشاء، فبالرغم من كل أشكال العنف، بما في ذلك الضرب والاستجواب تحت تهديد السلاح وتحريضهما على الانتحار، أجبرت الأخيرتان على العودة إلى عهدة والدهما من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية في قطاع غزة، بدون أي متابعة لوضعهما وغياب أي خبر عنهما.

لقد مرّ أكثر من أسبوعين ولا تزال أخبار وسام وفاطمة، ابنتي العشرين ربيعاً، مقطوعة حتى اللحظة، ولم تبق سوى رسالة أخيرة يعتريها الرعب، أرسلتها إحدى الأختين لمنظمة العفو الدوليّة في الساعة 12:45 من صباح 6 كانون الثاني/ يناير 2023: "إحنا في بيت الوالد. كمان شوي ه يودينا ع السادس. احنا انتهينا". وبالرغم من كل هذا لا تزال الحملات الداعمة لقضيتهما من قبل المجتمع المدني والدولي خجولة، فربما تنتظر مقتلهما حتى تبدأ بالاستنكار الفارغ عبر بيانات تتكرّر بعد كل جريمة قتل تكون ضحيتها امرأة، فماذا لو أنكم/ن تتركون/ن استنكاراتكم/ن مخبّأة في جواريركم/ن وتتحركون/ن قبل فوات الأوان؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard