شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"نجوم الإعلام" في تونس... رداءة وتهريج في بلاط صاحبة الجلالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 23 يناير 202303:35 م

على الرغم من أن حرية الصحافة والتعبير في تونس هي الثمرة الوحيدة للثورة، ومن أبرز مقومات الانتقال الديمقراطي الذي قُوّضت أركانه مؤخراً، عبر سياسة الرئيس التونسي، فإن العشرية الأخيرة تُعدّ الأسوأ على قطاع الإعلام الذي اكتسحه "الدخلاء" ورسخوا فيه ثقافة "الرداءة" والابتذال"، ليفقد القطاع بذلك ثقة المواطنين ويتحمل أبناؤه من الصحافيين أوزار الانحرافات المهنية التي طالته.

سيادة الرداءة

تعاني "صاحبة الجلالة" في السنوات الأخيرة من انتشار ثقافة البحث عن الإثارة والمحتويات المنفلتة التي لا تمتّ إلى الصحافة المهنية بصلة، كما تحولت "مهنة المتاعب" إلى تعب للصحافيين المتشبثين بأخلاقيات المهنة وحدهم، فيما أضحت مصدر مرح ومتعة للدخلاء الوافدين من مواقع التواصل الاجتماعي وأبرزهم وصلوا إليها من إنستغرام وتيك توك.

الإشكالي في الأمر هو تعمّد العديد من وسائل الإعلام السمعية البصرية الاستغناء عن الصحافيين المحترفين وتعويضهم بـ"مؤثرين" على مواقع التواصل الاجتماعي يحظون بالتكريم والتبجيل ويمنحون حق تنشيط البرامج أو الحضور كمعلقين على قضايا من شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكأن من يُسمّون بـ"الكرونيكور" (المعلقين على الأحداث)، علامة على عصرهم ولهم معرفة وتخصص في كل القطاعات.

احتراف "التهريج" و"الإثارة" أضحى الوسيلة الناجعة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الإعلانات بما يخدم مصالح أصحاب المؤسسات الإعلامية، لكنه رسّخ صورةً نمطيةً عن الإعلام المحلي، وخلق قطيعةً مع القيمة المعرفية والأخلاقية لهذا القطاع. كما ألحق الضرر بالصحافيين، إذ تعمد مؤسسات إعلامية إلى تبجيل "ضيوفها"، وتمنحهم تعويضات محترمةً، فيما ترصد مستحقات هزيلةً للصحافيين.

تحول سلبي

ترى الأستاذة الجامعية سلوى الشرفي، أن ظاهرة اكتساح نجوم تطبيقات التواصل الاجتماعي لشاشات التلفزيون والإذاعات هي ظاهرة اجتماعية ككل الظواهر، لها تأثير على مجال الإعلام ووجب تناولها والبحث فيها وتفسيرها، وليس دعمها واستغلالها وإيلاء مشاهير المواقع الاجتماعية مكانة المفكرين والباحثين، لأن ذلك يُعدّ نوعاً من أنواع تبييض صورة أشخاص عاديين يروّجون لما تصفه "بالقبح وثقافة الرداءة".

تضيف الشرفي في حديثها إلى رصيف22، أن "الخطير في هذه الظاهرة هو الجشع المالي وثقافة "البوز" التي تحقق أموالاً إضافيةً وتستقطب الإعلانات بما يخدم مصلحة أصحاب المؤسسات الإعلامية"، مشيرةً إلى أن "الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة هو أنهم يكرسون برنامجاً مرةً واحدة في الأسبوع يأتون فيه بكل الفظائع التي لا نتجرأ عليها، لكن بقية الأسبوع يقدّمون برامج ثقافيةً تربويةً على مستوى عال جداً، في حين أن الرداءة أصبحت الخبز اليومي للدول العربية".

أضحت وسائل الإعلام التونسية مصدر مرح ومتعة للدخلاء الوافدين من مواقع التواصل الاجتماعي وأبرزهم وصلوا إليها من إنستغرام وتيك توك

ترى المتحدثة أن الموجع في الموضوع هو الخلط المتعمد بين نجوم مواقع التواصل الاجتماعي والإعلاميين، فالإعلاميون المتخصصون حتى إن لم يكونوا خريجي معهد الصحافة، فهم خريجو جامعات ومتخصصون في الإعلام، ولا شأن لهم بمثل هذه "التفاهات". مع ذلك، تؤكد المتحدثة، أن الشارع "يخلط بين مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي الذين يظهرون على شاشات التلفاز والإعلاميين، إذ أصبحوا مرجعاً إعلامياً عوضاً عن الصحافي".

لفتت الأستاذة الجامعية إلى أن المحتوى الإعلامي في أغلبه متدنٍّ جداً، لأن نجوم وسائل التواصل الاجتماعي غير مدرّبين على تقنيات الإعلام، وهم أبناء الشعب العادي ينبهرون بالأضواء فيتحدثون ببساطة ويرمون الأحكام المسبقة ويبثون خطاب الكراهية، عكس الإعلامي الذي يحترم ضوابط معيّنةً، وله حدوده ودراية بالقوانين وأخلاقيات مهنية يلتزم بها، وله سلطة نقابية تراقبه ورسالة اجتماعية يقدمها.

تقول الشرفي، إن "مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي من أسباب تردّي المحتوى الإعلامي، لكن السبب الأساسي هو طمع أصحاب المؤسسات الإعلامية الذين يتصرفون كتاجر يبيع بضاعةً، في حين أن الوسيلة الإعلامية لديها مجالها الخاص وهو تبليغ المعلومة وإفادة الرأي العام، والتربية والتعليم. الحديث بالعربية والحديث عن الأخلاق وغيرهما أمور مقلقة بالنسبة إلى أصحاب المؤسسات. إن تحدثت معهم حول المحتويات الإعلامية الرديئة يقولون إن هذا ما يطلبه الجمهور وأقول لهم لا تتهموا الجمهور بما تخلقونه. أنتم تخلقون الذائقة السلبية. يمكن أن نخلق في الإنسان الذائقة الجميلة الرائقة ومع مرور الوقت يتعود على ذلك ويطالب به".

"مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي من أسباب تردّي المحتوى الإعلامي التونسي، لكن السبب الأساسي هو طمع أصحاب المؤسسات الإعلامية الذين يتصرفون كتاجر يبيع بضاعةً"

وشددت المتحدثة على أنه يُفترض على كل المؤسسات الرقابية، ومن بينها "الهايكا" (هيئة حكومية)، ونقابة الصحافيين التي تضم قسماً لأخلاقيات المهنة، أن تتكلم من منطلق "نضالي"، مضيفةً: "لا أريد الحث على العقاب لكن وصلنا إلى درجة لم يبقَ أمامنا فيها إلا الكيّ. على القانون أن يتحرك. من الواضح وجود أشياء غير أخلاقية لا يمكن السماح بها وتجب معاقبة مرتكبيها. لا أدعو إلى عقوبات سجنية فهناك عقوبات أخرى كالغرامات ومنع بث البرامج".

ليست بدعةً تونسيةً

يُلقى خيار بث المضامين السطحية الرديئة على عاتق الجمهور، وذلك استناداً إلى نسب المشاهدة المرتفعة التي تحققها هذه البرامج. لكن بالنظر والتمعن في ردود أفعال المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، تجد أن أغلبها مناهضة لمحتويات مثل هذه البرامج ومقاطعة لمشاهدتها نهائياً في شاشات التلفاز ما عدا بعض مقاطع الفيديو التي تثير الجدل وتنشرها عمداً وسائل الإعلام على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، لكسب أكبر عدد ممكن من المشاهدة والتفاعل.

سبق أن حذّرت نقابة الصحافيين التونسيين في أكثر من مناسبة من "خطورة استفحال العديد من الظواهر التي تهدد بالمزيد من تعميق أزمات القطاع وتهميش نخبه لصالح المحتالين والدخلاء"، منبهةً في بيان لها إلى ارتفاع حالات "الطرد التعسفي" للصحافيين، مقابل تفاقم ظاهرة استقطاب "الدخلاء من محترفي الرداءة".

يرى نقيب الصحافيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي، أن وجود نجوم إنستغرام وبقية المنصات الاجتماعية الأخرى ليس بدعةً تونسيةً، بل هي ظاهرة منتشرة في دول أخرى، لكن من يطلَق عليهم "مؤثرون" كانوا يقدّمون إضافات من خلال معرفة اكتسبوها في مجال معيّن، وحتى عندما تكون طريقة طرح الموضوع ساخرةً يكون الكوميدي هادفاً عكس ما نراه اليوم في وسائل الإعلام التونسية التي يقدَّم فيها محتوى إعلامي "تافه وسطحي لا يضيف إلى الإعلام بل يزيده ابتذالاً وتفاهةً".

حضور نجوم الشبكات الاجتماعية في وسائل الإعلام التونسية ليس بدعة تونسية بل موجود في بقية دول العالم 

لاحظ نقيب الصحافيين في تصريحه لرصيف22، أن وسائل الإعلام أصبحت تستغني عن الصحافيين وصانعي المضامين المحترفين وتعوّضهم بمن لا علاقة لهم بالمهنة ولا قدرة لهم على صناعة مضامين إعلامية جيدة ولا بأخلاقيات المهنة، وهي الموضوعية والمهنية واحترام الحرمة الجسدية وكرامة البشر والحقوق والحريات"، مشيراً إلى أن "المهنة لا تحددها فقط الموضوعية والتوازن وحياد الصحافي في مضامينه الإعلامية، بل يجب أن تحترم أساسيات معيّنةً من بينها الدفاع عن كرامة الإنسان والحقوق والحريات".

كما أشار إلى أن "هؤلاء الوافدين على الإعلام من وسائل التواصل الاجتماعي لا يلتزمون بالضوابط المذكورة لذلك نرى خطاباً تافهاً عنيفاً، وخطاب كراهية تمييزياً ضد المرأة، كما يتساهل مع العديد من الظواهر مثل التعذيب ولا يتقدم بالمجتمع"، عادّاً أن "خطاباً مماثلاً يمكن قبوله في مقهى، لكن ليس في وسيلة إعلامية تدخل إلى منازل العائلات".

وفق محمد ياسين الجلاصي، فإن نقابة الصحافيين التونسيين "تطرقت إلى هذا الموضوع في العديد من المناسبات، خاصةً في علاقة تأثير هذه الظاهرة على استبدال الصحافيين بمشاهير إنستغرام كما سبق أن نبهت من تأثير ذلك على تركيبة المؤسسات الإعلامية وعلى مكانة الصحافيين والإعلاميين داخلها".

وأشار إلى أن النقابة طالبت باحترام القانون في تشغيل الصحافيين خريجي معهد الصحافة بنسبة لا تقل عن 50 في المئة. ولفت إلى أن النقابة راسلت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، لتفرض احترام تطبيق قانون تشغيل الصحافيين على وسائل الإعلام، لأنها المسؤولة عن تقديم الرخص لهم، كما بيّن أنه تطرق إلى موضوع "الدخلاء في القطاع في العديد من المنابر الإعلامية والملتقيات والندوات، لكن موجة الشعبوية الصاعدة مكّنت الجميع من الحديث في وسائل الإعلام على الرغم من افتقارهم إلى الحد الأدنى من الأهلية والمعرفة ومن الالتزام بأخلاقيات المهنة".

وختم بأن هؤلاء شوّهوا المهنة، وأصبحت صورة وسائل الإعلام لدى الرأي العام سيئةً، فصوّروا المرأة على أنها سلعة وتحاملوا على الاحتجاجات الاجتماعية، وبالإضافة إلى مشاهير المنصات الاجتماعية التحق العديد من الأشخاص من اختصاصات أخرى، حتى الأمنية منها، بوسائل الإعلام للدفاع على سياسات السلطة، مشيراً إلى أن المسألة "أعمق من وجود المؤثرين في الإعلام بل المسألة هيكلية بنيوية تتعلق بهيكلة وسائل الإعلام واحترام الحقوق والحريات".

"الإعلام ليس حكراً على الصحافيين"

في الوقت الذي تتجه فيه أصابع الاتهام في تردي الواقع الإعلامي في تونس إلى من يوصفون بـ"الدخلاء" من الذين اكتسبوا نجوميةً على مواقع التواصل الاجتماعي وتمكّنوا عبرها من اكتساح بلاتوهات التلفزيون والبرامج الإذاعية، يدافع هؤلاء عن شرعية تواجدهم في وسائل الإعلام على اعتبار أنها وسيلة لتناول جميع القضايا في المجتمع والحديث عن كل الشرائح المجتمعية من دون تمييز.

وبرغم أننا حاولنا التواصل مع أكثر من شخص من هؤلاء، فقد رفضوا الحديث إلينا، وبعد إلحاح قبلت إحدى "نجمات" إنستغرام بالحديث، شريطة عدم الكشف عن هويتها.

تقول المتحدثة إن وسائل الإعلام ليست حكراً على الصحافيين أو المفكرين فقط، خاصةً في ظل الانفتاح العالمي الذي يشهده هذا القطاع، عادّةً أن رفض حضور مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي في شاشات التلفاز نتاج تفكير تونسي بامتياز، لأن العالم بأسره طبَّع مع هذه الظاهرة وتأقلم معها.

تضيف في حديثها إلى رصيف22، أن ما يروج حول افتقاد نجوم مواقع التواصل الاجتماعي المؤهلات العلمية مجانب للصواب، لأن قدرتهم على التأثير في شريحة كبيرة من التونسيين هو نتاج لإلمامهم بطرق التواصل مع المتابع، كما أن "مهنتهم" تحتّم عليهم اكتساب خبرة في جميع المجالات.

من جانبه، يرى الصحافي عيسى زيادية، أن الإعلام يطلب أكبر عدد ممكن من المشاهدات والمتابعين، ومن الطبيعي أن رواج برامج "التراندينغ" يسلط الضوء على مثل هذه الظواهر، وتالياً هذه الشريحة لم تفرض نفسها على الإعلام، بل الإعلام هو من يرغب في الاستفادة منها على اعتبار أن متابعي نجوم الشبكات الاجتماعية بالآلاف.

يضيف زيادية في حديثه إلى رصيف22، أن مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي لديهم شبكة واسعة من المتابعين وسواء تم تقديمهم في الإعلام أم لا فهم يصلون إلى متابعيهم عبر مواقع التواصل، مشدداً على أن لكل شخص الحق في الظهور في وسائل الإعلام، لكن قبول ذلك يخضع لبعض المعايير من بينها كيفية التحاور معه وتقديمه للجمهور.

كما لاحظ أن مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي لا يقدّمون أنفسهم على أنهم مهندسون أو دكاترة، بل هم أشخاص يطرحون رؤاهم الشخصية حول بعض المجالات كالطبخ والتجميل، وهم يقدّمون فائدةً للشريحة التي تتابعهم، وعليه لا داعي لإلغائهم ومنعهم من الظهور في وسائل الإعلام، فحتى إن وقع ذلك فمواقع التواصل كفيلة بإتاحة الفرصة لهم للوصول إلى متابعيهم بشكل أفضل من وسائل الإعلام التقليدية.

أما عن ظاهرة تقديم هذه الشريحة كمعلّقين أو ناشطين، فيرى عيسى زيادية أن النقد في هذه الحالة يوجَّه إلى القائمين على وسائل الإعلام الذين يأتون بأشخاص آراؤهم عادية ويقدّمونها على أنها أفكار وتحليل، فيما هي فقيرة في الأفكار، بل هي مجرد انطباعات، وقد تكون أحياناً أفكاراً خطيرةً فيها جهل وعنصرية أو سطحية ومغالطات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard