شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أحلامي التي لم يقتلها رصاص الحرب وتشييع الشهداء والاحتفالات

أحلامي التي لم يقتلها رصاص الحرب وتشييع الشهداء والاحتفالات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 23 يناير 202301:17 م


يقول شكسبير: "إننا مصنوعون من مادة الأحلام نفسها".

منذ طفولتي وحتى عمر الـ28 تقريباً، كان لدي الكثير من الأحلام والطموحات والأهداف الكبيرة، وكنت أتوهّم أن لدي معرفةً عميقةً بخصوص ما أريده من هذه الحياة. لكنني بعد العديد من التجارب وتراكم الخبرات، اكتشفت أن معرفتي لم تكن سوى أحد أشكال المراهقة، وصرتُ أفكر أكثر في الأشياء التي لا أريدها من الحياة وأبتعد عنها. لم يكن هذا بالأمر الهيّن، إذ استغرق مني سنوات طويلة، قبل أن أصل إلى آلية تفكير جعلتني قادراً على تحديد معظم الأشياء التي لا أريدها في حياتي.

اكتشفت أيضاً أنّ الحياة جميلة ولكنها قصيرة جداً، لذا من المريح أن تكون لديّ أحلام وطموحات وأهداف قليلة، لا تحتاج إلى بذل مجهود جسدي ونفسي كبير، وإلى سنوات عدة من أجل تحقيقها على حساب حياتي اليومية، وراحتي النفسية والجسدية.

أحلامي والحرب

بماذا يحلم الإنسان الذي يعيش في ظل الحرب؟ أكاد أجزم بأنّ أهم ما يحلم به هي النجاة من الموت. هل بمقدور الرصاص أن يقتل الأحلام؟ بالنسبة إليّ يمكنه أن يقتل حتى حلم النجاة من الموت.

هل استطعت أن أنجو من الحرب في بلدي سوريا؟ يمكنني القول إنني نجوت من أن يُدفن جسدي تحت التراب، ولكن هذا ليس إلا أحد أشكال الموت الذي نجوت منه، أما الأشكال الأخرى فلم أنجُ منها؛ لأن هناك أشياء عديدةً ماتت في داخلي على الصعيد النفسي والاجتماعي والعاطفي والجمالي وما شابه.

هل استطاع الرصاص أن يقتل كل أحلامي؟ لقد قتل الكثير منها وأحياناً منعني من أن أحلم. لكنه لم يقتلها كلها، ولن يستطيع أن يفعل إلا في حالة واحدة: أن تستقر رصاصة في قلبي وأموت.

بماذا يحلم الإنسان الذي يعيش في ظل الحرب؟ أكاد أجزم بأنّ أهم ما يحلم به هي النجاة من الموت. هل بمقدور الرصاص أن يقتل الأحلام؟ بالنسبة إليّ يمكنه أن يقتل حتى حلم النجاة من الموت.

أحلامي التي نجت من الرصاص

كل الرصاص الذي أطلقه السوريون في الحرب وفي تشييع الشهداء، واحتفالاً بليلة رأس السنة وفوز برشلونة أو ريال مدريد ونجاح بعض الطلاب في الشهادة الثانوية، وغير ذلك... لم تستقرّ أي رصاصة منه في قلبي، وهذا يعني أن أحلامي لم تمت كلها.

مثلاً، لديّ حلمٌ بأن أعيش بقية حياتي في مدينتي اللاذقية، وأموت وأُدفن في قريتي، وأخاف من حدوث شيء ما يرغمني على الهجرة والموت في الغربة. ما الذي قد يحدث ويرغمني على الهجرة؟ في الحقيقة لا أعرف وليس لديّ جواب. لكن يمكنني القول إنّ كل ما حدث خلال هذه الحرب حتى الآن لم يجعلني أفكر مجرد تفكير في الهجرة، برغم أنّ الفرصة قد أتيحت لي أكثر من مرة.

أيضاً، لدي حلمٌ بأن أشتري سيارةً أتوماتيكية من نوع هوندا "أكورد"، أو هيونداي "سوناتا"، وبناءً على وضعي المالي مذ كنت مراهقاً وحتى الآن، يبدو أنه من الصعب جداً تحقيق هذا الحلم، ولكنني أستمتع حين أفكر فيه بين الحين والآخر، وأتمنى ألا أموت قبل أن أحققه.

ياااه... كم هو جميل أن تكون لدي سيارة أكورد حمراء اللون أو سوناتا بيضاء كالثلج، تنتظرني في الخارج تحت الشمس والمطر من دون أن تتذمر من استيقاظي المتأخر، وأقودها على مهل وأنا أدخن وأستمع إلى الموسيقى التي أحبها إلى أن أصل إلى مقهى "قصيدة نثر" الذي أملكه في المدينة، حيث ألتقي بالأصدقاء، الأصدقاء الذين سأعطيهم مفاتيحها بفرح كي يأخذوا حبيباتهم مشاويرَ فيها.

ما لا شك فيه أن لديّ أحلاماً يمكن تحقيقها وأخرى حققتها. مثلاً، مع بداية تفشي فيروس كورونا وإصابتي به، بدأت أحلم بالحصول على الصحة الجسدية، ما جعلني أقوم بإجراء بعض التغييرات على نمط حياتي السابقة، بدايةً من نظام التغذية الصحي وممارسة الرياضة بشكل شبه يومي وانتهاءً بالعمل كمزارع. وقد نجحت إلى حد كبير في تحقيق هذا الحلم، إلى درجة أن الأمر انعكس بشكل إيجابي على صحتي الجسدية والنفسية معاً.

أحلام فوق بشرية

أيضاً لديّ أحلام فوق بشرية، تمتّعني وتبهجني برغم أنها مستحيلة. هذه الأحلام لها علاقة بزمن الآلهة، آلهة الحب والجمال وغير ذلك... مثلاً، في إحدى الليالي وبينما كنت أشرب العَرقْ بعد منتصف الليل في غرفتي، تخيلتُ كبير الآلهة يُطلّ عليّ من الشباك ويقول: "نيالك يا عرص عم تشرب عرق!"، مبتسماً. ومن دون أن أتفاجأ: "عرق عنب، شو رأيك تشاركني؟"، وبأسف يردّ: "كنت بتمنّى بس ما عندي وقت. خلينا بالمهم، أنا جاي كلّفك بمهمة إجراء بعض التعديلات على البشر خلال حياتهم وبعد مماتهم، وإلك الحرية المطلقة بإجراء أي تعديل بدك إياه". ثم يرمي لي من الشباك خسةً صغيرةً ويقول: "بس تخلص أكل هالخسة رح يصير عندك قوة إلهية".

بعد أكلي الخسّة وشرب الكأس الرابعة من العرق أشعر بالحماسة، وعلى الفور أفتح لابتوبي وأكتب التعديلات:

- بلعوم خاص للتنفس بجانب البلعوم الموجود مسبقاً والذي ستصبح مهمته البلع فقط. لماذا البلعوم الإضافي؟ لأنه من السخف أن يموت الإنسان، أو يوشك على الموت، بسبب دخول شيء ما بالخطأ في مجرى التنفس. هذا ما حدث معي أكثر من مرة، وإحداها كانت قبل سنة وأنا أبتلع لعابي ولسبب ما "تَشَرْدَقت"، أي دخل اللعاب في مجرى التنفس، وكدت أن أموت مختنقاً. كم هو مؤسف وعبثي وسخيف أن يموت الإنسان مختنقاً بلعابه!

- لا أحد يموت في مرحلة الطفولة والشباب؛ برأيي بعد أن يولد الكائن الحي، من العبث أن يموت وهو طفل أو شاب قبل أن يجرّب عيش الحياة بكل ما فيها من تعب وفرح.

- لن تكون هناك حروب ولا أمراض خطيرة وقاتلة، ولا نوبات قلق وهلع وحالات اكتئاب وما شابه؛ لأنه لا يوجد شيء أبشع من الألم الجسدي والنفسي في الوجود كله.

- فصل عمر الإنسان عن الوقت والأيام والسنوات وجعله مرتبطاً بعدد الخطوات التي يمشيها.

كل الرصاص الذي أطلقه السوريون في الحرب وفي تشييع الشهداء، واحتفالاً بليلة رأس السنة وغير ذلك... لم تستقرّ أي رصاصة منه في قلبي، وهذا يعني أن أحلامي لم تمت كلها

- يتم حساب الخطوة المتعلقة بالعمر "الخطوة العُمْرية"، بناءً على كل حركة قدم تجعل الإنسان بكامل جسده يقطع مسافةً ما.

- بما أن العمر يُقاس بالخطوات، لن يكون هناك بشر غير قادرين على المشي، وفي حال التعرض لحادث ما نَتجَ عنه عطب في القدمين أو العمود الفقري، ستكون هناك ميزة الترميم الذاتي والتي يمكنها إصلاح أي عضو مسؤول عن المشي خلال مدة أقصاها شهر.

- البشر كلهم متساوون في مدة الحياة التي سيعيشونها، والتي تعادل كحد أعلى 125 عاماً، وكحد أدنى 50 عاماً. بالطبع جميعهم ستكون لديهم معرفة بذلك، وبأن من يسرف في إنفاق خطواته، أي "عمره"، يموت باكراً والعكس صحيح. البخلاء فقط يموتون في سن الـ125 سنةً!

- يموت الإنسان خلال جزء من الثانية من دون أن يدرك بأنه يموت، ومن دون أي ألم. ببساطة يتوقف الشخص عن الحركة حين يخطو آخر خطوة له ويموت واقفاً.

- بعد الموت، لن تكون هناك جنة ونار ولا ثواب وعقاب، وطريقة الدفن ستكون بموجب وصية يتركها الشخص الميت.

- تُنقل ذاكرة الشخص الميت بكل ما فيها من معرفة وخبرات وذكريات وما شابه، إلى عالم آخر وتَحلُّ في جسد مادي مغاير لجسد الكائن البشري الحالي، ولكن بميزات ومتع مادية ونفسية أكثر تطوراً. ويكون العمر في العالم الآخر مرتبطاً بعدد الأزهار التي نقطفها لأشخاص نحبّهم بصدق، أي بقدر ما نستطيع أن نُحِب الآخرين نحظى بعمر مديد.

- الطعام من أجل المتعة، بينما الماء للبقاء على قيد الحياة. الينابيع ستملأ كوكب الأرض، وستكون للماء مئات النكهات اللذيذة والمنعشة.

- الحب والصداقة والضحك والتسلية والقُبَلْ والجنس، أهم مقومات الحياة الجميلة والمريحة.

- المعنى الوحيد لوجود الإنسان، هو أن يعيش حياته بمتعة وفرح، ولا يؤذي الآخرين.

- سيكون هناك كتاب صغير يمكن لكل البشر الاطّلاع عليه، مكتوبة فيه البنود التي ذكرتها أعلاه كلها مع شروحات وأمثلة لكل بند، بالإضافة إلى عدد من الأجوبة عن تساؤلات مصيرية ومُقلِقة حول الحياة والموت.

بالتأكيد هناك سلبيات لهذه التعديلات، ولكن برأيي الإيجابيات جوهرية وأكثر أهميةً، فمثلاً:

- لن يموت أي إنسان من الجوع أو العطش أو الحرب.

- لن يكون هناك ألم جسدي رهيب وغير محتمل، ولا أمراض واضطرابات نفسية قد تؤدي إلى الاكتئاب أو الانتحار.

- طريقة الموت ستكون مريحةً وبسيطةً وخاليةً من الألم والرعب.

- ستكون هناك معرفة شبه كاملة للبشر عن حياتهم وكيف يموتون ومصيرهم بعد الموت.

غداً حين تستيقظون تفقّدوا أعناقكم، واشربوا الماء، وتنفّسوا بعمق، فقد تجدون شيئاً ما قد تغيّر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard