شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"السعي للعدالة"... كيف تشكَّلت العلاقة بين "الدولة" وأجساد المصريين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 18 يناير 202305:30 م

"يمكن للأنف أن يكون دليلنا لكتابة قصة قاهرة القرن التاسع عشر، حيث تدعونا إلى تأمل الرائحة الزنخة العطنة الكامنة تحت التاريخ الرسمي".

ربما توجز هذه الكلمات عدداً معتبراً من الأفكار التي تناولها الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ المصري المعاصر وأستاذ كرسي السلطان قابوس بن سعيد في جامعة كامبريدج البريطانية، في كتابه الأحدث "السعي للعدالة"، الذي يعد امتداداً لمشروعه في البحث في علاقات الجسد والسلطة منذ تأسيس الدولة المصرية المعاصرة على يد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر.

البصر، والسمع، والشم، والتذوق، واللمس، هذه هي العناصر الرئيسية التي يصنف فهمي كتابه على أساسها، وينطلق منها ليقرأ علاقة الطب والقانون واستخدام "الدولة" لهما في التنظيم وترسيخ مركزية السلطة وأدواتها بين عامي 1830 و1880.

الحواس دليلاً للتاريخ

الحواس دليلنا لفهم التاريخ، الحواس هي التي تسجل وترصد وتوجّه، ذاكرة الحواس ترسم القوانين وتحدد المصائر. هنا يتجلي الإبداع في اختيار المنهج المناسب للبحث التاريخي، كأن الكاتب اختار أن يكتب التاريخ الحسّيّ لمصر في تلك الفترة.

يوضح الدكتور خالد فهمي أبعاد منهجه في هذا الكتاب لرصيف22: "لا أبدأ من تاريخ الأفكار، ولكن من ممارسات حدثت على أرض الواقع، لنرى هذه الممارسات كيف لمست الناس وعاشوا معها؛ وليس كيف فكروا فيها. بل الأهم كيف عايشوها. أفضل وسيلة وجدتها في هذا الإطار هي التحدث عن الجسد، عن طريق محددات معينة مثل التشريح والتطعيم والتجنيد والحسبة. الحديث عن تاريخ الكرباج يجب أن يكون مدعوماً بممارسات على أرض الواقع. والكلام عن الحواس والتأطير بها وسيلة لتأكيد المدخل المنهجي الذي يقدم المنجز على أرض الواقع".     

صاحب "كل رجال الباشا"، و"الجسد والحداثة"، الذي اعتاد أن يحفر عميقاً في قلب الوثائق ليرصد ويسجل ويحلل حياة الناس البسطاء والعاديين والمهمشين، يختار هذه المرة فكرة تحقيق العدالة عن طريق استخدام الطب وتوظيف القانون.

د. خالد فهمي: "لا أبدأ من تاريخ الأفكار، ولكن من ممارسات حدثت على أرض الواقع. لنرى هذه الممارسات كيف لمست الناس وعاشوا معها؛ وليس كيف فكروا فيها... أفضل وسيلة وجدتها في هذا الإطار هي التحدث عن الجسد، عن طريق محددات معينة مثل التشريح والتطعيم والتجنيد والحسبة"

وعن هذا الأمر يقول فهمي: "لم أكن معنياً بالتاريخ السياسي، ولكنني دائماً معني بتاريخ الحراك الاجتماعي، وهذه أنماط من الكتابة التاريخية معروفة في الغرب، وفي النهاية أنا أكاديمي أقدم أبحاثاً علمية أُنتجت في أعمال مطبوعة. وهناك كثيرون اهتموا بالتاريخ الاجتماعي وكتبوا عن الفلاحين والمرأة والجنود".


إنتاج السُلطَة واستهلاكها

في كتابه الأشهر "كل رجال الباشا" الذي ترجمه إلى العربية الدكتور شريف يونس  وصدر عن دار الشروق عام 2001، كان أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة الأمريكية – سابقاً- واضحاً في أنه لا يتناول آليات إنتاج السلطة بل يتناول طرق استهلاكها، أي كيفية التعاطي معها من قبل عامة الناس. وهو ما يتجلى أيضاً في المنهج الذي اتبعه في "السعي للعدالة"،  فالقوانين التي تصدر لها مبرر لدى السلطة. ولكن هل استوعبها الناس ونفذوها؟ هل اعتبروها مسائل تنظيمية طبيعية أم طريقة للتحكم فيهم وقهرهم ونزع إرادتهم؟ ويترتب على الحالة الثانية تصديهم لها وتحايلهم عليها ومقاومتهم لها قدر المستطاع، وهو ما تجلى في مظاهر عديدة، منها رفضهم التطعيم ضد الجدري، ورفض قرارات الحجر الصحي ومجلس الكارنتينا بسبب الطاعون، ورمي جثث ذويهم في الشوارع.

كانت بداية تعليم الطب في مصر في أحضان المؤسسة العسكرية ممثلة في الجيش الذي كوّنه محمد علي، هكذا أنشئت مدرسة الطب في أبو زعبل في العام 1827، إلى جوار معسكر للجيش. ثم انتقل التعليم إلى مستشفى قصر العيني، نسبة إلى أحمد بن العيني الذي بنى القصر في العصر المملوكي في تاريخ يُعتقد أنه العام 1466، واستخدم نابليون بونابرت هذا القصر كمستشفى لعلاج جنوده أثناء الحملة الفرنسية على مصر بين عامي 1798 و 1801.

يواصل الدكتور خالد فهمي في "السعي للعدالة" البحث في سعي السلطة للسيطرة على أجساد الرعايا من خلال الإحصاء والتطعيم والطب والقانون. كلها أدوات سلطوية كان هدفها الأول كما يورده الكاتب هو بناء الجيش وتعزيز موارده البشرية؛ إلا أن المواطنين هنا يجدون طريقاً في تسخيرها للحصول على العدالة

يتناول صاحب كتاب "الجسد والحداثة" التي صدرت ترجمة شريف يونس له أيضاً عن دار الكتب المصرية عام 2004 الجسد باعتباره مركزاً لاهتمام السلطة؛ ويتتبع مساعيها الدؤوبة للسيطرة عليه. وهو ما تم استخدام الطب والقانون من أجله كما يورد في كتابه الأخير "السعي للعدالة"، فالدولة سعت للسيطرة على أجساد رعاياها من خلال هذين العاملين، لذلك وجدت مقاومة شديدة في البداية، يتضح ذلك في موقف المشايخ من تشريح الجثث، ورفضهم ذلك لاعتقادهم أن الموتى يشعرون بالألم.

ويتصاعد موقف الرفض إلى درجة هجوم أحد الطلبة على كلوت بك، وطعنه بسكين اعتراضاً على تشريحه للجثة. ويذكر كلوت بك أنه عانى كثيراً وتحايل حتى يحصل على موافقة المشايخ على تشريح الجثث لأغراض تعليمية، وهو أمر كان يرفضه الباشا أيضاً – أي محمد علي نفسه- لكنه في النهاية رضخ له حتى يعرف أسباب الوفاة وكيفية مقاومة الأمراض والطاعون.


في البدء كان الجيش

امتداداً لـ"الجسد والحداثة" يطرح الدكتور خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سابقاً، نظريته عن سعي السلطة للسيطرة على أجساد الرعايا من خلال الإحصاء والتطعيم والطب والقانون. كلها أدوات سلطوية كان هدفها الأول كما يورده الكاتب هو بناء الجيش وتعزيز موارده البشرية.

وإن كان الأمر امتد إلى عموم الناس، إلا أنه انطلق من الجيش، النقطة المركزية في حكم محمد علي، الذي عادة ما يضعه الكاتب في مكانه الطبيعي كوالٍ عثماني، وإن نجح في الحصول على امتياز توريث الحكم لأبنائه، فكان هذا بسبب قوة جيشه، وانتصاراته المتوالية التي باتت مصدر تهديد للجميع.

وربما يكون هذا النجاح بسبب تمكنه من السيطرة على أجساد وحياة الجنود، الأمر الذي امتد ليشمل كل الرعايا في ما بعد عبر ممارسات طبية وقانونية قد تكون لها وجاهتها في الواقع، لكن تسكن خلفها النوايا الخبيثة.

في "كل رجال الباشا"، الذي يتتبع فيه الكاتب يوميات جندي افتراضي في جيش الباشا، يمسرح خالد فهمي شخصية محمد علي بطريقة شيقة، عبر الاستدلال بكتابات المستشرقين الذين زاروا رجل القلعة، وكتبوا عنه بإيعاز منه، بوصفه صانع نهضة مصر. منهم مستشرق يبدأ وصفه كالتالي: "دخلنا على العنكبوت العجوز في عرينه"، ثم يصف القاعة التي يجلس فيها الباشا، وهي ضخمة جداً وفارغة تماماً. لا يوجد بها سوى أريكة يتربع عليها الوالي في إضاءة خافتة تحيطه بهالة من الغموض والوقار والجلال، وإن كان معظم من اقتربوا من الباشا أكدوا أن عينيه غائرتان ومخيفتان ومتوقدتا الذكاء حسب كلوت بك في كتابه "لمحة عامة إلى مصر".

يورد الكتاب عبر الوثائق والدفاتر المختلفة حوادث كثيرة، وصل فيها الأمر إلى طلب الأهالي أنفسهم تشريح جثث ذويهم لإثبات سبب الوفاة، خاصة إذا كانوا قد تعرضوا للتنكيل أو التعذيب على يد ممثلي السلطة في الأثمان "أقسام الشرطة"

ميلاد "الطب الشرعي"

في "السعي للعدالة"، يتناول الكاتب إشكالية الحداثة والأصالة، الصراع بين الوافد والموروث، والسبب الكامن في النهضة العلمية التي طالت مصر، وهل كان مردها للحملة الفرنسية أم للبعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا.

ثم يعرج على مسألة التشريح التعليمي، وكيف تقبله المصريون في النهاية على مضض، ثم استخدام التشريح لأغراض البحث الجنائي، للكشف عن الجرائم ومعرفة سبب الوفاة، وما يعنيه هذا من ميلاد الطب الشرعي المُنظم في شكله الحديث في مصر.

ويورد الكتاب عبر الوثائق والدفاتر المختلفة حوادث كثيرة، وصل فيها الأمر إلى طلب الأهالي أنفسهم تشريح جثث ذويهم لإثبات سبب الوفاة، خاصة إذا كانوا قد تعرضوا للتنكيل أو التعذيب على يد ممثلي السلطة في الأثمان "أقسام الشرطة"، وبعضهم طلب استخراج الجثة من القبر لتشريحها. كل ذلك مرتبط بالبصر، الحاسة البشرية المستخدمة في التشريح.


وحين ينتقل إلى حاسة السمع يشير إلى نشوء فكرة القوانين الحديثة في دولة الباشا، وكيف صدر القانون المصري عام 1852 بعد عامين من القانون الهمايوني العثماني الصادر عام 1850، وقبل ذلك كانت تصدر فرمانات سلطانية أو من الوالي. ولكن استطاع القانون ممثلاً في المحاكم الشرعية ومجالس السياسة أن يفرض سلطته على الحياة الاجتماعية ويفصل في كل القضايا، وكانت المحاكم الشرعية رمزاً للموروث والقضاء الديني والشرعي، فيما كانت مجالس السياسة رمزاً للحداثة والحكم وفقاً للأدلة الثبوتية وليس بالضرورة الشرعية.

"الناس" يواجهون السلطة بأدواتها

يتتبع الكتاب كذلك كيف حول المصريون أدوات السلطة إلى أدوات للحصول على حقوقهم من السلطة نفسها. هناك مثلاً قضايا لم تحكم فيها المحاكم الشرعية لنقص "الأدلة الشرعية"، فتوجه أصحاب الدعوى لمجالس السياسة وأثبتت حقهم وحكمت لصالحهم بالأدلة الثبوتية واستناداً إلى تقارير التشريح. واعتمد المؤرخ بشكل كبير على وثائق وسجلات مجالس السياسية، واعتبر من حسن الطالع أن دار الكتب المصرية تحتفظ بهذه السجلات. وإن كانت تحمل معضلة منهجية يوضحها فهمي قائلاً: "وجدت العديد من المعلومات والتفاصيل المفيدة جداً في محاضر مجالس السياسة والضبطية أو البوليس والشرطة بمفهومنا الحالي. هذه المحاضر  تسجل تفاصيل الوقائع. فلنقل مثلاً محضر «الحُرمة زنوبة» التي ذهبت لتشتكي: بالطبع ليست هي التي كتبته وإنما موظف يدون المحضر ويحفظه في دفتر رسمي، هنا يأتي التحدي بالنسبة لي كمؤرخ، إلى أي درجة يمكنني الاعتماد على هذا الكلام، هل هذا الكلام هو ما قالته الحرمة زنوبة أم أنه ترجمة وفهم الموظف الذي كتب المحضر لما قالته زنوبة؟ هناك مدرسة ترفض الاعتماد على مثل هذه الوثائق، لا أميل لهذه المدرسة، وأرى أنها تضيع علينا فرصة للتعاطي مع مصدر غني جداً. ولو قرأت عدداً كبيراً من المحاضر وقتها لتمكنت من تكوين صورة معينة عن لغة هذا العصر، الأمر يتعلق بتحليل الخطاب وفهمه، وهذه أسئلة تتكرر كثيراً عند إدوارد سعيد وجاك دريدا: ضرورة الانتباه لطبيعة المصادر وكيفية التعامل معها. علم التاريخ ليس مجرد رص أحداث ولكن معرفة كيف حدث الأمر".

يورد فهمي في كتابه قضايا تؤكد على إصرار الناس العاديين على أخذ حقهم بالقانون، منها قضية محبوبة، السيدة التي هرب زوجها من السُخرة في السكة الحديد، فقرر شيخ الحصة في قريته بالمنيا التنكيل بأهل بيته، وحين ماتت محبوبة من أثر التعذيب، حمل أهلها الجثة على جمل وداروا بها حتى قبل طبيب أن يشرّحها ويثبت أنها تعرضت للتعذيب

يورد فهمي في كتابه قضايا تؤكد على إصرار الناس العاديين على أخذ حقهم بالقانون، منها قضية محبوبة، السيدة التي أخذوا زوجها للعمل في سكة حديد القاهرة - السويس عام 1858 فهرب من السخرة، فقرر شيخ الحصة في قريته بالمنيا التنكيل بأهل منزله، احتجز زوجته وعذبها حتى ساءت حالتها الصحية فأرسلها لمنزلها واحتجز ابنها للضغط على أفراد الأسرة ليعلنوا عن مكان زوج محبوبة "علي". وحين ماتت محبوبة من التعذيب، فشل زوجها ووالدته في إثبات أن شيخ الحصة الشعراوي هو الذي عذبها، ما أدى إلى وفاتها، فحملوا الجثة على جمل وداروا بها حتى قبل طبيب أن يشرّحها ويثبت أنها تعرضت للتعذيب، وبالفعل استطاعوا أن يحصلوا على حكم من مجالس السياسة بسجن شيخ الحصة الشعراوي، الذي أرسل في النهاية إلى ليمان الأسكندرية.


هناك قصة أخرى يوردها الكاتب عن جرجس طانيوس، الذي مات بعد أن تعرض للتعذيب على يد وكيل مديرية جرجا، ورفض أهل قريته إدخال جثته إلى القرية حتى يقع القصاص ويحاكم القاتل، وتركوا الجثة خارج القرية حتى انتفخت وانفجرت.

معنى ذلك أن الطب والقانون اللذين كانا يستخدمان للسيطرة على الجموع والتحكم في الرعايا، أصبحا مع الوقت وسيلة في أيديهم لتحقيق العدالة.

مؤرخ البسطاء

ينتصر خالد فهمي، أستاذ الدراسات العربية الحديثة بجامعة كمبريدج حالياً، للبسطاء والمهمشين والمنسيين. هو يكتب تاريخ الناس من خلال المستندات والوثائق الرسمية في دار الكتب والوثائق المصرية وغيرها من المصادر، في ما يسميه "دفترة الواقع ". ويؤكد لرصيف22: "أستخدم التاريخ  لقراءة وفهم الحاضر، فأنا أتحدث عن الواقع  والحاضر من خلال ما حدث قبل 150 سنة، القضايا نفسها ما زالت مطروحة، علاقتنا بالغرب، علاقة الدين والعلم، النخبة والعامة، مشاكل مدينة مثل القاهرة، كل هذه قضايا أعمل عليها ونعيشها اليوم، ما يمكن تسميته تاريخ الحاضر، لست معنياً بالقرن التاسع عشر بقدر ما أنا معني بحاضرنا، أحاول أن أفهمه وأفسره من خلال التاريخ، فدراسة الماضي ليست هروباً من الحاضر؛ بل الغرض منها قراءة وفهم الحاضر".

ويورد في هذا الصدد وجهة نظر بعض المؤرخين الإسلامويين مثل عبد القادر عودة وطارق البشري، اللذين قدما مراجعات تأريخية في صميم القانون والتشريع تعبر عن مواقف رجعية ومؤطرة أيديولوجياً تنحاز للرؤية الإسلامية للتاريخ، بعيداً عن القراءة الموضوعية. في المقابل يعرض لكتاب لويس عوض المهم "تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل". وهو الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة واعتبره الكثيرون أنه يعيد الاعتبار للحملة الفرنسية ودورها في بناء مصر الحديثة. 

نحن هنا أمام اتجاه مميز في ما يمكن تسميته التاريخ الشعبي، أو تاريخ الناس في مقابل التاريخ الرسمي الذي تكتبه السلطة ومؤرخو الحكام، ذلك التاريخ المعقم الذي يمتدح الباشا والأسرة العلوية، وكتبه في الغالب مستشرقون أو مؤرخون استأجرهم الباشا أو أنجاله وأحفاده، خاصة الملك فؤاد الذي كلّف عدداً من المؤرخين بكتابة تاريخ جده بصيغة معينة.

من خلال السجلات الرسمية يتناول الكاتب "الحياة اليومية العادية المبتذلة المليئة كالعتاد بالأكل والتغوط والتبول والنكاح والموت والتحلل والبعث والتجدد.. والهدف من ذلك هو  إعادة تصوير القاهريين وروائح حياتهم بحلوها وعفنها ويجد لهم مكاناً في إطار السرديات المعقمة لتاريخ تحديث مدينتهم".

وعن اختياره الحواس يقول: "استخدمت الحواس كمدخل لتأطير كل فصل من فصول الكتاب الخمسة، آخذاً من كل حاسة همزة وصل كمدخل للموضوع".

وفي سياق تحدثه عن الروائح أو حاسة الشم يورد الكاتب العديد من الحوادث الدالة، منها حادث الفتاة التي جاءت من الصعيد وراء جندي حملت منه وتم نقله لثكنات قصر النيل، ووضعت طفلها ودفنته في مكان قريب من كوبري قصر النيل حالياً، واكتشفه أطفال يلعبون إذ وجدوا كلباً ينبش التراب ويخرج بخرقة وفي الخرقة عظام وبقايا طفل.

ووجهت لها عدة تهم تتعلق بالنظافة العامة وخرق قرار عدم دفن الموتى داخل المدينة، حتى لا تؤذي رائحة التحلل الأحياء وتؤدي لانتشار الأمراض، وفقاً لنظرية العدوى بالأوخام.

وعن النظافة والسلوك العام في المحروسة وشيوع القذارة والأوخام والأوساخ والروائح الكريهة، يورد الكاتب أبياتاً للشاعر حسن الحجازي صديق الجبرتي يشكو من قذارة شوارع القاهرة وروائحها الكريهة:

حارات أولاد العرب    سبعا حوت من الكُرَبْ

بولا وغائطا كذا        ترب غابر سوء أدبْ

وضجة وأهلها        شبه عفاريت التُّربْ

لذلك خصصت الدولة أماكن معينة لبيع الأطعمة ذات الرائحة النفاذة والكريهة، وجاء الفسيخ على رأس تلك الأطعمة في أكثر من موضع.

في الاستدلال بالوثائق يفضل الكاتب أن يتركها بصيغتها الأصلية بأخطائها الإملائية والنحوية وركاكتها الأسلوبية – كما ذكر في المقدمة – لإعطاء صورة عامة عن لغة العصر، الأمر الذي يتضح في مكاتبات عدة، منها الاستدلال على دور الضبطية وليس المحاكم الشرعية في التعامل مع حالات السكر حيث يأتي هذا النص في ترجمة للأمر العالي الصادر من عباس باشا: "إن بعض أغوات الحريم (الخصيان) الموجودين بمصر أي المحروسة يتوجهوا إلى الأفراح والموالد ليلاً وبيسكروا وبيحششوا... فاقتضا اعطا الجزا اللايق الى الذين مثل هؤلاء، ومنع قلة أدب تلك الوحوش... فمن منهم يتوجه إلى الأفراح والموالد معجب بمشيه ويسكر ويقل حياه ففي الحال يصير ضبطه... ويضرب 500 قرباج بديوان الضبطية".

وفي الباب الذي خصصه الكاتب لحاسة التذوق تناول ظاهرة المحتسب، ذلك الرجل الذي كانت وظيفته أن يتجول في الأسواق ويقوم بدور المدعي العام ووزارة التموين ومعامل وزارة الصحة والداخلية، قبل استبداله بالمعمل الكيميائي ومصلحة الصحة، فالمحتسب كان المسؤول عن سلامة الطعام والمواد الغذائية في الأسواق وعن عدم الغش أو التلاعب بالضائع والسلع، وإذا ضبط أي حالة يعاقب صاحبها فوراً، فمن يغش اللحم بنفخه بالماء - والجزارون يعرفون مواضع النفخ جيداً- يُعلّق وتوضع في أنفه قطع من اللحم، ومن يغش في البقلاوة يجلس على صينية البقلاوة وهي فارغة والنار موقدة تحتها، وكانت هناك طبعاً عقوبة التجريس الشهيرة بأن يركب المذنب الحمار بالمقلوب ويدور في الشوارع والسوق يصاحبه سيل من الشتائم والإهانات.

في الاستدلال بالوثائق يفضل الكاتب أن يتركها بصيغتها الأصلية بأخطائها الإملائية والنحوية وركاكتها الأسلوبية – كما ذكر في المقدمة – لإعطاء صورة عامة عن لغة العصر

المحتسب يتحول إلى ذراع في شبكة الابتزاز السلطاني، فبحسب جوناثان بيركي، المؤرخ الأمريكي الذي رصد هذه الظاهرة وتوسع في دراستها وانتهى إلى أن وظيفة المحتسب قد شهدت انحطاطاً كبيراً بحلول نهاية السلطنة المملوكية إلى حد أنه أصبح عضواً في محكمة تفتيش سلطانية.

ينطلق فهمي في تناول ظاهرة المحتسب من بدايتها عندما كانت وظيفته تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما ذكره الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين، إذ اعتبر الحسبة فرض عين واجباً على كل المسلمين على خلاف الماوردي الذي اعتبرها فرض كفاية، يقوم بها شخص محدد يمثل السلطة حتى لا تتحول إلى نوع من الفتنة والاقتتال الأهلي.  

ومن آراء الغزالي في هذا الصدد أن الولد يريق خمر أبيه ويكسر ملاهيه "آلاته الموسيقية "، وللفرد إذا علم بأن منزلاً يباع فيه الخمر أن يقتحم البيت ويشج رأس مالكه؟

وهو الرأي الذي رفضه الكثيرون إعمالاً لقاعدة الستر، وعدم التجسس.

لكن دار جدل طويل حول من يقوم بالحسبة، السلطة أم الأفراد؟

وحتى الآن ما زالت هناك مواد في القانون المصري تسمى مواد الحسبة، يتم استغلالها للوصاية على المجتمع ومهاجمة المبدعين والمفكرين الذين يخرجون على السياق العام التقليدي المألوف. وفقاً لهذه القوانين حوكم نصر حامد أبو زيد ونوال السعداوي، كما حوكم المخرج يوسف شاهين بعد فيلم المهاجر تبعاً لهذه المواد التي تعطي الحق لأي شخص أن يقدم بلاغاً للنائب العام بالاتهامات التي يراها تمس استقرار المجتمع، وتكون النيابة العامة هي صاحبة الحق في إقامة الدعوى. 

ويتناول الكتاب في جزئه الأخير حاسة اللمس تحت عنوان "عدالة بدون ألم"، يبدأها بجريمة قتل العبد سلطان على يد عمر وصفي ناظر ملكية أحد أفراد الأسرة المالكة، ويهتم هذا الفصل برصد إلغاء عقوبة الجلد مع بداية ظهور لائحة 1861 التي تضع عقوبات بالحبس بدلاً من الجلد بالكرباج. 

ورغم أن هذه الخطوة اتخذت منذ عهد سعيد باشا، تباهى القنصل العام البريطاني اللورد كرومر في كتابه مصر الحديثة بأن بريطانيا بعد احتلالها مصر هي التي وجهت ضربة قاضية إلى نظام الحكم بالكرباج، وأنه بفضلها تم اجتثاث الآفات الثلاث: السخرة والفساد والكرباج.

الشغف بالقرن التاسع عشر هو الملمح الرئيس لأعمال خالد فهمي، إلا أنه أكد لرصيف22 أنه منذ خمس سنوات يكرس اهتمامه للبحث في نكسة 1967، وكتب حولها العديد من المقالات كما سجل عدة مقاطع الفيديو في هذا الصدد.

كتاب "السعي للعدالة" الذي صدرت طبعته الإنكليزية الأولى عام 2018، حاز في العام التالي جائزة أفضل كتاب من جمعية التاريخ الاجتماعي بالمملكة المتحدة، وجائزة أخرى من الولايات المتحدة كأفضل كتاب في القانون بالإنكليزية من الجمعية الأمريكية لتاريخ القانون، وصدرت ترجمته بالعربية التي أنجزها حسام فخر عن دار الشروق عام 2022.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard