شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"هدفها تهذيب الشباب البرجوازي"... لمحات من "تاريخ شعبي لكرة القدم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 9 يناير 202303:50 م


أشعل مونديال 2022 القلوب مع التتويج الأول لميسي ورفاقه، وصرخة أسود الأطلسي التي خرجت مدوية في أول مونديال يقام على أرض عربية عبر التاريخ. وجاءت مباراة المغرب في مواجهة الديك الفرنسي -حامل اللقب - لتصبح أول مباراة لفريق عربي أو إفريقي في الدور قبل النهائي لكأس العالم منذ بداية البطولة عام 1930، وحملت العديد من المعاني التي صنعت تحدياً خاصاً، وأتى فوز ميسي بصحبة راقصي التانغو بالمونديال لتعيد الروح لكرة القدم في مواجهة المد الأوروبي، الذي تظهر ملامحه بشدة في كتاب "تاريخ شعبي لكرة القدم" للكاتب الفرنسي ميكائيل كوريا، الذي صدرت طبعته العربية عن دار المرايا في القاهرة من ترجمة محمد عبد الفتاح السباعي، ونُشر تزامناً مع مونديال قطر المنتهي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

يتكون الكتاب من خمسة فصول، تروي الحكاية الكاملة للعالم الذي تحداه أسود الأطلسي في مونديال 2022. كانت المغامرة المغربية التي صنعت التاريخ للعرب وإفريقيا، تتحدى حالة مراكز القوى التي تعيشها كرة القدم حالياً

"ابتكرها الفقير وسرقها الغني"

تحكي مقدمة الكتاب تحت هذا العنوان عن اللافتة التي رفعها مشجعو فريق الإفريقي التونسي، بمناسبة مباراة جمعت ناديهم بفريق باريس سان جيرمان الفرنسي في 4 يناير/ كانون الثاني عام 2017.

يرى الفرنسي ميكائيل كوريا مؤلف الكتاب أننا سواءً أسفنا لما هو مكتوب على تلك اللافتة أم لا، قبلناه أم رفضناه؛ فثمة أمر واقع فرض نفسه، يتمثل في أن كرة القدم المعولمة، والتي هي نموذج للرياضة التجارية والثقافة الجماهيرية، باتت تجسد - أكثر من أي وقت مضى- تجاوزات الرأسمالية الجامحة. إذ أضحت الأندية الكبيرة "علامات تجارية"، وهذه هي حالة "إف سي برشلونة" الذي قارنه أحد مديريه مبتهجاً بشركة "والت ديزني"، قائلاً: "هم لديهم ميكي ماوس، ونحن لدينا ليونيل ميسي، لديهم ديزني لاند؟ حسناً نحن نملك الكامب نو (ملعب فريق برشلونة)".

خمسة فصول تختصر الحكاية

يتكون الكتاب من خمسة فصول، تروي الحكاية الكاملة للعالم الذي تحداه أسود الأطلسي في مونديال 2022. لم تكن المغامرة المغربية التي صنعت التاريخ للعرب وإفريقيا تتحدى إلا حالة مراكز القوى التي تعيشها كرة القدم حالياً.

مقدمة الكتاب جاءت بعنوان "ساحات الكرة ساحات للنضال"، أما الجزء الأول فيناقش "مقاومة العمال ضد النظام البرجوازي"، ويبحر الكتاب في تحليل فلسفة اللعبة وكيف أصبحت "مداعبة قطعة الجلد" تجربة كونية، وأمراً عابراً للأمم والأجيال، والأجناس أيضاً.

يرى المؤلف أن الأرقام غير واضحة تماماً في هذا الصدد، فبحسب تقديرات هيئات رسمية في عام 2014، فإن هناك على سبيل المثال قرابة 30 مليون فتاة وسيدة يمارسن كرة القدم في العالم، كما يمكن أن نحصي عدد المشاهدين أمام الشاشات بالمليارات، وكذلك عدد المشجعين القدامى عشاق الحياة الليلية، الذين يحضرون في المقاهي مباريات للأندية والمنتخبات المرموقة .

أضحت الأندية الكبيرة "علامات تجارية"، وهذه هي حالة "إف سي برشلونة" الذي قارنه أحد مديريه مبتهجاً بشركة "والت ديزني"، قائلاً: "هم لديهم ميكي ماوس، ونحن لدينا ليونيل ميسي، لديهم ديزني لاند؟ حسناً نحن نملك الكامب نو"

سرها في بساطتها

يرى "كوريا" أن قوة الجذب لكرة القدم تنبع من بساطتها، إذ إن قواعدها الأساسية موجزة بشكل خاص، ومنذ تقنينها لأول مرة عام 1863، لم يطرأ على قوانينها السبعة عشر سوى بعض التغيرات الهامشية، وتتطلب ممارستها وسائل بسيطة: كرة يمكن أن تكون بدائية، ومنطقة هواء مفتوحة، يمكن أن تكون زاوية في شارع أو أرض قاحلة.

تلك القواعد البسيطة توفر حرية مذهلة، وتسمح بتعدد طرق اللعب، وبالتالي تجعل من كرة القدم رياضة سهلة ومناسبة للجميع، ذكوراً وإناثاً، كما أن ركل الكرة يُعد مصدر سعادة صافية، تكمن ينابيعها الرئيسية في روح الفريق، وتدوير الكرة كعمل جماعي على أرض الميدان، وكذلك الانخراط الجسدي في المواجهة، والبحث عن الجماليات في "اللمحات الجيدة".

يرى مؤلف الكتاب أن ثمة توتراً متصاعداً بين "عالمين لكرة قدم"، أولهما يميل لمنطق التاجر السلطوي، أما الثاني فهو العالم الذي يريد التحرر من العالم الأول، وأن يعود بكرة القدم إلى جذورها

تنبُع جاذبية الساحرة المستديرة في "تاريخ شعبي لكرة القدم" من أنها عرض مسرحي. فكرة القدم تستمد شعبيتها من قوتها الدرامية، فكل مباراة تحترم مبادئ المسرح الكلاسيكي: وحدة المكان (الملعب)، ووحدة الزمان (مدة المباراة)، ووحدة الحركة (اللعبة تجري أمام الجمهور)، وكل مباراة هي حبكة ذات جرعة مكثفة من الدراما، التي تُكتب نهايتها أمام المتفرجين المتيقظين للسعي خلف الكرة بين فريقين متنافسين.

صراع عالمي

يرى مؤلف الكتاب الفرنسي أن ثمة توتراً متصاعداً بين "عالمين لكرة قدم"، أولهما هو ذلك الذي يميل لمنطق التاجر السلطوي، أما الثاني فهو العالم الذي يريد التحرر من العالم الأول، وأن يعود بكرة القدم إلى جذورها.

وأصل الحكاية هو أن كرة القدم وُلدت في منتصف القرن التاسع عشر في خضم الثورة الصناعية، نتاجاً لتوحيد أكثر من نوع لكرة القدم الشعبية التي كانت تُلعب منذ العصور الوسطى، وسمح تقنين تلك الألعاب، من خلال المؤسسات التعليمية الخاصة بالنخب البريطانية، بدمج كرة القدم الوليدة في ترسانة علم أصول التربية الفيكتورية.

والهدف من وراء ذلك الدمج هو تهذيب الشباب البرجوازي، وبث روح المبادرة والمنافسة اللازمين للرأسمالية الصناعية والمشاريع الاستعمارية، لكن سرعان ما غزت كرة القدم الطبقات الشعبية، وحرص أرباب العمل البريطانيون، لا سيما من ذوي السلطة الأبوية، على نشرها بعدما رأوا فيها وسيلة تعلم الطبقة العاملة احترام السلطة وتقسيم العمل، فانتشرت الكرة انتشار النار في الهشيم.

عالم جديد

غابت مباريات كأس العالم عن أمريكا اللاتينية 20 عاماً منذ تأسيس البطولة – باستثناء الـ20 عاماً التي فصلت بين فوزي الأوروغواي في 1930 و1950، وهي الأعوام التي شهدت الحرب العالمية الثانية، وبسببها تم إلغاء بطولتين – ولذلك جاءت عودة راقصي التانغو والفرحة الشعبية العالمية بميسي لتعيد الروح للعبة أمام الهيمنة الأوروبية، وتعكس معاناة جمهور كرة القدم الحقيقي أمام القيم التي تتبناها كرة قدم احترافية لم تعد أكثر إشراقاً، إذ إن المسابقات الكروية، التي أصبحت هي أيضاً وسائل إعلانية وقيماً للمضاربة، تؤدي في كثير من الأحيان إلى إثارة نعرات شوفينية، ورجولية، وانتقامية في بعض الأحيان.

الإهانات العنصرية والجنسية ومعاداة المثليين لم تعد شائعة فقط في المدرجات؛ بل وفي أروقة الاتحادات والمؤسسات التي تدير اللعبة، وبالنظر إلى ذلك الصعيد المؤسسي، نجد أن الفساد المستشري كـ"الغرغرينة" في هيئات وقيادات كرة القدم لم يعد خافياً على أحد، منذ أن تكشفت وقائع قضية "فيفا-غيت" في مايو / أيار 2015، وقُبض على سبعة من قادة الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، بناءً على طلب من القضاء الأمريكي.


من يحارب من؟

ربما يكون مونديال 2022 في عداد أكثر بطولات العالم إثارة عبر التاريخ، بعدما ذابت المسافات بين أساطين اللعبة والغزاة الجدد. فازت الكاميرون على البرازيل واليابان على ألمانيا ومن بعدها على إسبانيا، وقهر نجوم تونس حامل اللقب الفرنسي، وعبرت البطولة عن أن تلك القطعة من الجلد المعبأة بالهواء مستمرة في إثارة نهم شعبي وعالمي متصاعد ولا يمكن تصديقه، يجتمع حولها يومياً الملايين الذين لا متعة لهم سوى لعب كرة القدم ومتابعتها.

ويعرض الكتاب مقولة اللاعب الدولي الأرجنتيني السابق، خورخي فالدانو، عن سحر اللعبة: "كرة القدم هي الشعور بعدم اليقين وإمكانية الاستمتاع"، ويستعيد الكتاب مشاهد من أجندة الأحداث الدولية عبر العصور والتي ترسم الخطوط العريضة للذاكرة المشتركة، منها على سبيل المثال الهزيمة غير المتوقعة للبرازيل أمام الأوروغواي في نهائي مونديال عام 1952 في استاد ماركانا، إذ سببت صدمة جماعية للشعب البرازيلي، وانتحار العشرات داخل أكبر ملعب كرة قدم في العالم بريو دي جانيرو.

في فرنسا، ما يزال الجميع يتذكر أول كأس عالم أحرزها منتخب الديوك في 12 يوليو/ تموز 1998، على حساب منتخب التانغو في ليلة زيدان الكبرى.

يكمل الكتاب بعد ذلك، عبر صفحاته الـ380، تتبع تاريخ كرة القدم، ولكن من منظور مغاير، مقتفياً قصة الساحرة المستديرة منذ نشأتها حتى اليوم، من إنجلترا إلى فلسطين، ومن ألمانيا إلى المكسيك، ومن البرازيل إلى مصر.

ويسعى مؤلفه الفرنسي دائماً إلى الابتعاد عن اختزال تاريخ الرياضة في مساراتها الرسمية المعلنة، بل يسترجع التاريخ الشعبي حينما كانت كرة القدم أداة لتحرير العمال والنساء وحركات مناهضة الاستعمار، كما يتتبع القصة المذهلة للثقافات المضادة لكرة القدم، التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard