شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حين اعتقل الأمن المصري أبي لأنه شيعي

حين اعتقل الأمن المصري أبي لأنه شيعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

استيقظت مفزوعاً في الساعة الواحدة ليلاً، في أحد أيام 1996، والبيت في حالة فوضى. لم أكن أدري ما يحدث. كان عمري حينها لا يتعدّى 8 سنوات. وقفت ذاهلاً وأنا أرى أمي تبكي بدون أن أفهم السبب. ذهبت أبحث عن والدي في الغرف، لكني لم أعثر عليه، فأخذت أبحث عنه في حديقة البيت، حتى صاحت أمي بأني لن أجده لأنه اعتُقل. لم أفهم حينها معنى الكلمة، لكني شعرت من تعبيرات وجهها ونبرة صوتها أن والدي في مشكلة كبيرة، فجلست على الأرض أبكي معها.

حملة الاعتقالات التي حصلت في عام 1996 كانت بسبب إعلان الشيخ حسن شحاته تشيّعه من على المنبر في أحد المساجد التي كان يخطب عليها بالقاهرة، وقد شملت تلك الحملة جميع الشيعة علي مستوي الجمهورية، وكان أبي أول شخص يتم اعتقاله في تلك الحملة، وسجن لعدة أشهر، والبقية سجنوا لمدة سنة ونصف، وكان من بين المعتقلين أطفال لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة.

قمت وإخوتي والذي كان كبيرنا لا يتجاوز 13 عاماً وبدأنا نساعد أمي في ترتيب المنزل وإعادة الأثاث إلى مكانه، فقد كان مقلوباً رأساً على عقب بسبب تفتيش الأمن، حتى أن عُلبتي السكر والشاي كانتا مسكوبتين على الأرض أيضاً. قالت أمي: "أخد الأمن أبوكم لأنه شيعي"، ثم صمتت.

في الصباح، بدأ أقاربنا في القدوم إلى منزلنا للوقوف على حقيقة ما جرى، فأخبرتهم أمي بما حدث، وسمعت الكثير من العبارات التي تفيد بأن هذا الحدث قد تكرّر مع معظم رجال عائلتنا، وكلهم اعتقلوا لنفس السبب.

حملة الاعتقالات التي حصلت في عام 1996 كانت بسبب إعلان الشيخ حسن شحاته تشيّعه من على المنبر في أحد المساجد التي كان يخطب عليها بالقاهرة، وقد شملت تلك الحملة جميع الشيعة علي مستوي الجمهورية

ثم أخذتنا أمي وجهّزتنا لنذهب إلى المدرسة، وأثناء سيرنا في الشارع، كان جميع من في الشارع ينظرون إلينا، فنحن أبناء "الإرهابي". تلك الكلمة التي كانت لصيقة بكل من يتم اعتقاله، والتي كان يرددها رجال الأمن حتى يرهبوا الناس من المعتقلين، وكان المدرسون يسألونني بسخرية وبصورة متكرّرة: "أنت أبوك اتقبض عليه ليه؟"، ويسمحون لزملائي برفع صوت الضحكات وكأنهم يحاولون خلق حالة من الإذلال والانكسار في داخلي، لكن ما كانوا يجهلونه هو أنني، رغم صغر سني، كنت أشعر بالشفقة تجاههم، والفخر أكثر تجاه والدي.

كثيراً ما أتذكر تلك الليلة المظلمة، ونحن نلتفّ حول أمي من شدة الخوف والرعب الذي يحاصرنا ونحن في منزلنا، وكان متواضعاً حينها ويخلوا من سبل الأمان، فالباب الخارجي مجرد بوابه صغيرة سهلة الفتح، والباب الداخلي لا يوجد به أقفال.

وفي أحد تلك الأيام، قام بعض المتسكعين بطرق باب الحديقة في الليل، وكان التيار الكهربائي كثير الانقطاع في تلك الفترة، وسمعنا صوتاً كأن الباب قد كسر بسبب الطرق الشديد. نمت وإخوتي من شدة الخوف، ونقلتنا أمي إلى سريرها حتى نكون بجوارها طوال الليل.

وبعد هذا الموقف، أصبحت عمتي "زينب" تأتي إلى منزلنا كل يوم لتبيت معنا للاطمئنان علينا، وكانت تمشي بعد أذان الفجر مباشرةً حتى تستطيع تحضير الطعام لزوجها وأبنائها.

كانت أمي موظفة، وتضع معظم دخلها في جمعيات، والباقي من مرتبها بالكاد كان يكفي لسداد الفواتير وشراء خبز وجبن والمواصلات طوال الشهر فقط، لكنها كانت تملك من عزة النفس ما يجعلها ترفض طلب مساعدة من أحد، أو الشكوى حتى لأهلها، وبسبب هذا الوضع كنت أخجل أن اطلب من أمي شيئاً أو حتى شراء دفاتر للمدرسة، فكنت أكتب جميع المواد في دفتر واحد، وعندما يطلب أحد المدرسين الدفتر، كنت أقطع الصفحات التي أكتب فيها المادة الثانية حتى لا أُضرب أو أُهان أمام زملائي، وكنت أضع كتب المدرسة في كيس بلاستيكي لعدم توفر أموال لشراء حقيبة، وكان لدي في المعهد الأزهري (قبل أن أنتقل منه إلى التعليم العام) أستاذاً اسمه أحمد، كان يُدرّس لنا مادة الرياضيات، وكانت عنده عادة غريبة وهي ضربي قبل بدء الحصة أو الشرح، رغم أني كنت صغيراً للغاية.

مع طول فترة اعتقال والدي، بدأ الجميع يخاف من الحديث معنا في قريتنا، حتى الأقارب، فأتذكر إحدى قريباتي التي قابلتني مرة في الشارع، وعندما رأتني لم تسلّم علي كعادتها، فتوقعت أنها لم تنتبه لي، ولكن مع تكرار ذلك الموقف فهمت أن هذا تجنباً متعمداً كحال البقية.

ولا يغيب عن بالي وجه أمي وما ارتسم على قسمات وجهها من غضب وسخط بسبب أفعال بعض زملائها في العمل، فقد قام مديرها بإحضار محامٍ لها حتى ترفع دعوى طلاق على أبي، لكن أمي قالت له: "هو انا اشتكيت لحد ولا طلبت حاجه من حد. محدش يتدخل في حياتي تاني حتى لا يُهان".

مع طول فترة اعتقال والدي، بدأ الجميع يخاف من الحديث معنا في قريتنا، حتى الأقارب، وقام مدير والدتي بإحضار محامٍ لها حتى ترفع دعوى طلاق على أبي لأنه معتقل

وفي أحد الأيام أتى أحد الأقرباء ليخبر أمي أنها فوتت زيارة أبي، وأنه يحتاج لبعض الملابس الثقيلة ضد البرد. لم يكن يعلم أنها لم تستطع الذهاب لعدم توافر النقود، إذ لم يكن معها سوى 50 قرشاً فقط وخاتم زواجها، فذهبت لبيعه وأخذت النقود وذهبت لعملها، وكانت تنوي شراء كل شيء بعد انتهاء عملها. عند دخولها مكتبها وجدت زميلتها تبكي، فذهبت إليها لتسألها عن سبب حزنها وبكائها، فأخبرتها أن زوجها مصاب بمرض خبيث، وبحاجة ماسة للدواء، وقد رفض الطبيب الصيدلي إعطائها الدواء دون دفع جزء من ثمنه، فاقتسمت أمي المبلغ الذي حصلت عليه من بيع الخاتم مع زميلتها لتفرج أزمتها، وقالت في بالها إن السجين يستطيع الصبر أما المريض فلا يستطيع.

وعند عودتها الي المنزل وهي في حيرة شديدة وقلة حيلة، تفاجأت بأخيها محمد في المنزل وبحوزته مبلغ مالي، كان إيجار أرضهم الزراعية، إذ قرّر الأخوة أن يعطوا أمي المبلغ بأكمله دون اقتسامه هذه المرة.

إن ذكريات الطفولة يصعب محوها من عقل الأطفال، فهي قادرة على التحكم بحياتهم في الكبر والتأثير فيهم بشدة، فلازلت أتذكر ذاك اليوم عندما كنت ألعب مع صديق لي في المدرسة، ثم جاءت أمه وأخذته وقالت لي: "متلعبش معاه تاني. احنا مش حمل مشاكلكم مع الأمن". كنت مصدوماً من تلك الكلمات التي لا أفهمها جيداً، لكن صدمت أكثر من صياحها في وجهي.

ولم تكن تلك السيدة وحدها من قرّرت أخذ موقف عدائي من طفل في عامه الدراسي الأول، لكن معظم أولياء الأمور الذين كانوا يتبعون الحزب الوطني، كانوا يحثّون أبنائهم على معايرتنا باعتقال والدنا، وكانوا يتعمّدون فعل ذلك في الشوارع والحارات، ويقف الجميع يشاهدون دون أن يتدخل أحد الكبار لمنع هذا التنمّر. ظلت هذه المشكلة تطاردني أنا وإخوتي حتى اضطررنا للتعامل بنفس الأسلوب ومعايرتهم بفساد أهلهم من رشاوي وسرقة ومحسوبية، وهذا ما جعلهم يتوقفون حتى انتهى ذلك في المرحلة الثانوية.

لكن الذاكرة الطفولية تضمّ أيضاً بقعاً بيضاء، منيرة، لا تمحى بسهولة أو يكتنفها السواد. في أول يوم من شهر رمضان، كنت أجلس بجوار أمي على سلم البيت، وقدمت إلينا جارتنا وكانت تدعي "زينب"، وقالت لأمي: "لا تحزني. سوف يفطر زوجك معكم اليوم إن شاء الله"، ثم تركتنا وذهبت، وبعدها بساعات أتى أحد أقربائنا ليأخذ ملابساً لوالدي لأنه سيخرج من المعتقل، وهذا ما كان.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard