شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أيها الضوء... جاءك محمد أبو الغيط

أيها الضوء... جاءك محمد أبو الغيط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 23 ديسمبر 202203:29 م

"أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل.‫ هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا!"

في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، استيقظت على خبر وفاة الكاتب والصحافي والزميل محمد أبو الغيط، الذي جمعت بيني وبينه الكثير من الدوائر المشتركة من الأصدقاء والاهتمامات. مات ومات معه الأمل بمعجزة تشفيه من مرضه المتوحش الذي ابتلعه عضواً بعد عضو خلال أقل من عامين، ولكن في أيامه الأخيرة أطل على متابعيه ليخبرنا أنه ترك إرثاً، أو ما أسماه "أهراماته" الخاصة، كتابه الذي وثق فيه رحلة مرضه وشذرات من حياته وماضي العالم وحاضره بعنوان "أنا قادم أيها الضوء".

صدر كتاب "أنا قادم أيها الضوء" بعد وفاة محمد أبو الغيط بأيام قليلة. يبدو الكتاب وكأنه رثاء كتبه لنفسه وبنفسه، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك

الكتاب الصادر بعد وفاة محمد بأيام قليلة، يبدو كرثاء كتبه لنفسه وبنفسه، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك. على قدر ما يعتبر الكتاب "مذكرات ألم" على قدر ما هو قصة كفاح كتبها شخص قرر ترك أثر طوال حياته، منذ هجر الطب لأجل الصحافة، ومشاركته في ثورة يناير المصرية، حتى قتاله ضد السرطان الذي قرر انتزاعه مبكراً من بين أحبابه، وهو لم يصل بعد إلى منتصف الثلاثينيات من عمره.

الرسالة الأخيرة 

" تتصارع داخلي صورتان غائمتان، هل أراني جالساً لأوقِّع الكتاب وبقربي أبي وأمي وإسراء، أم أنا غائب وأرى إسراء هي من تطلق الكتاب، بينما صورتي معلقة في الخلفية وعليها شريط الرثاء الأسود؟ ".

بدأ محمد أبو الغيط كتابه بتفاصيل تشخيصه بسرطان المعدة الشرس في صيف 2021، وفصلاً بعد فصل، قدم خطوات نضاله ضد المرض، لا أجد مصطلحاً آخر يصف هذه الرحلة على الرغم من كراهية محمد لكلمات مثل محارب للسرطان أو المقاتل، لأنهما في عداد مفاهيم ضاغطة على المريض الذي يشعر بنفسه مضطراً لأن يكون شجاعاً في حرب لم يرغب في دخولها، مع عدو لا يؤمن جانبه، ولكنها رحلة وعرة الطرقات، خاضها محمد بكل شجاعة، وكتابه أكبر دليل على هذه البسالة، فهو في الثلث الأخير منه، يرى مستقبلاً يغيبه قبل أن يرى كتابه منشوراً وقد لا يحضر حفل توقيعه الذي تمناه في مصر التي اضطر إلى منفى شبه اختياري بعيداً عنها، ولكن هذا لم يمنعه من مواصلة اعمل علىالكتاب حتى اللحظة الأخيرة قبل وفاته.

وضعنا أبو الغيط في مواجهة مع واحد من أكبر مخاوف الإنسان؛ خوفه من انقلاب جسده عليه، ذلك الكيان الذي نأخذه كمسلم به، نتعلم الاعتناء به، ونتوقع منه الاستمرار في العناية بنا

"منذ تشخيصي وبعد تجاوز الصدمة، وجدت يدي تكتب عن المرض وعن كل ما حولي. وجدتني لا أكتب يوميات مريض، بل ما أكتبه هو مزيج من مشاركة الأحداث والمشاعر، ما جربته وما تعلمته وكذلك سيرة ذاتية لي ولجيلي".

مثل الكتاب المتوسط الحجم شذرات من مذكرات الألم الخاص بمحمد، وكذلك تاريخه الشخصي وبعض من تاريخ جيلنا، فصول عاد فيها إلى طفولته، بل ما قبلها، عائلته وروابطها، علاقته بزوجته إسراء، أعطانا في "أنا قادم أيها الضوء" قطعة من حياته التي تمثل في الكثير من فصولها حياة بعض من حياتنا نحن جيل مواليد الثمانينيات.

دخل أبو الغيط الألفية الجديدة شاباً محملاً بطموحات في غد أفضل، ثار ونزل الميدان، لم ينسب لنفسه بطولات زائفة، تحدث بصراحة عن وجله من الألم، عن تجربة الاعتقال، ومزج كل ذلك ليقدم لنا في النهاية إنساًناً سعى لأن يصبح كل يوم رجلاً وأباً وزوجاً وصحافياً أفضل.

صوت من ليس له صوت 

كتاب محمد أبو الغيط "أنا قادم أيها الضوء" ليس الأول من نوعه في الأدب العالمي أو العربي، فقبله صدر "أثقل من رضوى" و"الصرخة" للأديبة الراحلة رضوى عاشور، وثَّقت فيهما رحلتها مع السرطان بالتوازي مع الثورة المصرية، بينما نُشر في 2020 كتاب الصحافية حنان كمال "كراسة خضراء ورسائل" سردت خلاله رحلة مرض زوجها، ثم مرضها هي بسرطان الثدي الذي قتلها في النهاية، بالإضافة إلى الكتاب الذي اقتبس أبو الغيط بضعة سطور منه "سأكون بين اللوز" لحسين البرغوثي عن أيامه الأخيرة مع أسرته أثناء تعايشه مع السرطان.

"أرجو أن يكون ما بعد نفقي نوراً وهدوءاً وأمناً، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد ينقب ولو ثغرة واحدة ليمر منها بعض الضوء إلى من يقرأ".

هذه الكتب وغيرها لم يكتبها كتابها لأنفسهم فقط، ليست رسالة شخصية لقارئ واحد أو لعائلاتهم، هي لعموم القراء، يقرأها السليم فيتعاطف ويتفهم هذه التجربة الإنسانية التي تعرض لها غيره، يشعر بمعاناة يتمنى ألا يمر بها، تعزز التشاعر والتقمص الوجداني لديه، ولكن ماذا عن القارئ الذي يخوض رحلة مشابهة؟

يسأل المريض نفسه "لماذا أنا"، ويسأل المحيطون "لماذا هو؟"

كتاب محمد أبو الغيط وغيره من الكتب الشبيهة يضعهم في موضع صوت من لا صوت له من المرضى، تدويناته على موقع فيسبوك خلال مرضه كان عليها تفاعل قوي، ليس فقط لشدة الأزمة التي يمر بها، لكن كذلك لأن الكثيرين رأوا أنها حقيقية، تعبر عن تجاربهم الخاصة مع المرض؛ أي مرض، وليس السرطان على وجه الخصوص، وقد وجدها آخرون تعبر عن تجربة شخصيات قريبة لهم مرت بنفس الظروف.

وضعنا أبو الغيط في مواجهة مع واحد من أكبر مخاوف الإنسان، خوفه من انقلاب جسده عليه، ذلك الكيان الذي نأخذه كمسلم به، نتعلم الاعتناء به، ونتوقع منه الاستمرار بالعناية بنا. وعلى الرغم من بساطة الكتاب في أسلوبه وأهدافه لن يفهمه إلا من مر بلحظة غدر مشابهة من جسده، ذلك الحليف الذي ظننت أنه في صفك ينقلب عليك، يغدر بك، يصبح عدواً أخطر من أي عدو خارجي، والسرطان بشكل خاص ليس سوى خلية غادرة خرجت عن مسارها.

"رغم كل ذلك، يبدو أن جزءاً مني يتمسك بشدة بأمل كبير أن كل هذا سينتهي، ستدخل يد ما طبية أو إعجازية لإنقاذي في اللحظة الأخيرة"

قراءة كتاب "أنا قادم أيها الضوء" تجربة مفجعة لأي قارئ، حتى لو لم يعرف محمد أبو الغيط سابقاً، أما لو عرفه فسيكون وقعه أثقل، بأسلوبه البسيط والأنيق -الذي عرفته منذ سنوات تحت اسم "مواطن مصري" في منتدى روايات - وصف تداعيه الجسدي، أعضاءه التي تهاجم نفسها، الأورام التي يتحسسها بيده من فوق جلده، البؤر السرطانية التي تعشش في عظامه يوماً بعد يوم، رحلة مرعبة لم يخضها وحيداً بل برفقة شريكة حياته، تحمله وتهدهد آلامه دعوات الأحباب والأغراب.

"رغم كل ذلك، يبدو أن جزءاً مني يتمسك بشدة بأمل كبير أن كل هذا سينتهي، ستدخل يد ما طبية أو إعجازية لإنقاذي في اللحظة الأخيرة".

لم تأتِ هذه اليد الطبية أو الإعجازية، فبعد المنشور الأخير الذي أعلن فيه أبو الغيط عن كتابه، دخل في غيبوبة يومين، ثم فارق الحياة، روحاً طيبة تركت أثراً في كل المحيطين بها، سواء العائلة أو المتابعين أو الأصدقاء الذين جمعت بينه وبينهم سبل القراءة والثورة على الظلم والأمل في كتابة كلمة تغيير حياة الآلاف.

غاب محمد أبو الغيط ولكن يبقى الأثر في رحلته الأخيرة تجاه الضوء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard