شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لا تبهرني نيويورك ولا أتأمل برج إيفل.. رحلات تشبه

لا تبهرني نيويورك ولا أتأمل برج إيفل.. رحلات تشبه "لمة العيلة" في مدن عربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 20 ديسمبر 202203:50 م

على خارطة أحلامي، رسمت العديد من المدن، وكلما كبرت غيّرت خارطتي. تراءى لي لمرات أنني رفيق ابن بطوطة في عجائب الأسفار، وأني تهت في لندن مع محمد عفيفي، وعدت طالباً مبتعثاً في أمريكا "خبط لزق"، حيث كانت هالة سرحان، وقضيت 200 يوم حول العالم برفقة أنيس منصور، بالإضافة إلى أسفار جمال الغيطاني وغادة السمان، التي أقول لها ليس الجسد وحده حقيبة سفر، فالذاكرة هي كذلك أيضاً.

بمرور العمر، تموت بعض الرغبات حين تتغير نظرتنا للحياة، فلم تعد تجذبني زيارة نيويورك ولا تأمل برج إيفل. لم يعد قلبي ينبض مع عقارب ساعة بيغ بن اللندنية، لا أنكر جمال المدن المتطورة ولا حتى المدن ذات التاريخ الضارب في القدم أو المدن السياحية، وأتساءل: كم يدوم ذلك الانبهار؟ في اعتقادي أن صاحب الأثر الأكبر في ذاكرتنا هم البشر لا الأماكن. 

لم أذهب إلى دمشق لكنني حين أفعل لن أختار الإقامة في فندق على الطراز الأوروبي. سأبحث عن بيت دمشقي عتيق أو كما يسميه أهل الشام "البيت العربي"، وفي اليابان سأختار فندقاً ذا طراز تقليدي، الأرض مغطاة بحصيرة من قش الأرز، وارتداء اليوكاتا، والأحذية الخشبية، والنوم على مراتب أرضية، كما تجذبني فكرة السفر التطوعي، وأفكر: كيف يكون السفر إذا لم تعش تلك التفاصيل؟

مكان حميمي يختزل العالم

لم أفكر يوماً بزيارة الأردن، على الرغم من أنه يحتضن البتراء، واحدة من عجائب الدنيا السبع، وكذلك مدينة جرش الأثرية، والبحر الميت الذي ما يزال يشكل لغزاً للكثيرين. إلا أن فكرة زيارة الأردن لم تفارقني منذ أن تعرفت على Shams Community، أو "مجتمع شمس" ذلك المكان الحميمي، الذي تشعر أنه يختزل العالم.

يقول لرصيف22 مؤسس مجتمع شمس، سعد أبو الحسن، وهو مهتم ببناء المجتمعات، واستدامتها، ودرس التصميم والفنون الجميلة: "مجتمع شمس يحاول أن يجمع الناس، بغض النظر عن الخلفيات الثقافية والاجتماعية، وترسيخ فكرة أن كل فرد لديه القدرة على إحداث تغيير إيجابي له وللمجتمع".

عن مرحلة الانطلاق، يقول أبو الحسن: "بدأت الفكرة عام 2015 إذ كنت منخرطاً في برنامج دراسي لستة أشهر في "نيروبي" الكينية. بطبيعتي أحب الطبخ والأكل وأجواء "لمّ الجميع" حول مائدة الطعام".

ويتابع: "ذات مرة، دعوت أصدقاء من جنسيات وثقافات مختلفة إلى مائدة الفطور في رمضان، وفي نهاية اليوم فكرت كم نحن بحاجة إلى مثل هذه التجمعات التي تضم ثقافات ونقاشات، هنا بدأ ما أسميته "طاولة شمس" في "كينيا". كانت الفكرة أن نجمع أشخاصاً من بلدان وثقافات متنوعة يتشاركون إعداد الطعام ثم نقاش موضوع اجتماعي يهمهم، وكان مشروع تخرجي حينها بعنوان "كيف يمكن أن يكون الطعام بسيطاً ومفيداً؟" واستشهدت بهذه التجربة". 

اعتاد أبو الحسن قبل "مجتمع شمس" وخلاله وبعده الاشتراك في مواقع إلكترونية ومنصات، يستطيع من خلالها المسافر أن يتعرف على أشخاص يوفرون له إقامة مجانية في بيوتهم، يقول: "استضفت الكثير من الناس في حياتي، وحين كنت أسافر أيضاً كان هناك من يستضيفني بنفس الطريقة، وكونت الكثير من الصداقات".

لم أذهب إلى دمشق لكنني حين أفعل لن أختار الإقامة في فندق على الطراز الأوروبي، سأبحث عن بيت دمشقي عتيق أو كما يسميه أهل الشام "البيت العربي"، وأفكر: كيف يكون السفر إذا لم تعش تلك التفاصيل؟

ويحكي عن بداية المشروع في الأردن: "عندما عدت إلى الأردن لم يكن في بالي أن أعيد التجربة، إلى أن لفت نظري بيت قديم ومهجور يقدر عمره بمئة عام، مبني على الطراز العثماني القديم. ولأني درست التصميم والفنون راودني شعور بإعادة تأهيل البيت، وإقامة أنشطة اجتماعية فيه، وعندما أصبح جاهزاً بدأت أستضيف فعاليات اجتماعية وثقافية في بيئة آمنة، نكسر من خلالها المألوف، إذ تتيح التعرف على نماذج مختلفة خارج إطار العائلة والأصدقاء والزملاء".

ثمة صعوبات اعترضت طريق المؤسس. في البداية سخر البعض وضحك من الفكرة، كما أن هناك تكلفة مادية في إعادة تأهيل المبنى القديم، وتحديات حول المجتمع المحلي، وهل سيتقبل هذه التجربة ويتفاعل معها؟ 

أجواء عائلية شبابية

من الأفكار الأساسية في "مجتمع شمس" خلق أجواء عائلية بين المتطوعين والضيوف، كان هناك من يقيم لأيام، وآخرون لأسابيع، والبعض لأشهر، ومنهم من سافر وعاد وكرر التجربة، ومنهم من قرر الاستقرار في الأردن بعدها، وآخرون حاولوا الإقامة من باب التجربة، وخبرة أخذوها معهم إلى بلادهم.

المشروع ساعد العديد من الأجانب والمقيمين الجدد في الأردن على كسر شعور الغربة والوحدة من خلال التعرف على أشخاص من المجتمع المحلي. يضيف أبو الحسن: "حتى ندعم الاستدامة المالية وتغطية تكاليف الفعاليات والاستضافة قمنا بتأجير بعض الغرف في الأيام التي ليس فيها أنشطة. في البداية بدأنا بغرفة ثم غرفتين".

لاحظ أن هناك مجموعات تزور الأردن سياحة ثقافية أو سياحة بديلة، وتقصد "مجتمع شمس" تحديداً، حينها أضاف أنشطة أخرى، مثل الرحلات التعليمية، والخلوات في الطبيعة. 

مع أزمة كورونا وفي فترة الحجر الصحي علقت الكثير من الأنشطة والفعاليات، وأصبحت الجلسات الثقافية من خلال شبكة الإنترنت، يقول أبو الحسن: "مرت العديد من الظروف الخاصة بي شخصياً وبالفريق عموماً".

ويضيف: "سأكمل في هذا المشروع. ورغم أني سأنتقل للإقامة في ألمانيا، لدي فكرة لجمع المجتمع الألماني مع مجتمع اللاجئين. ففكرة "مجتمع شمس" يمكن أن تطبق في كل مكان.

ويرى أن فكرة "مجتمع شمس" قابلة للتعميم في كل مكان، وأنه سينقلها إلى ألمانيا، البلد التي سينتقل إليها للإقامة فيها.

في بيروت

كان للصحافي ومقدم البرامج السوري محمد علي دياب تجربة مماثلة في لبنان من خلال "بيت شام"، يقول: "لا أنكر أن فكرة استضافة شخص غريب مربكة قليلاً، خاصة أنك تفتح بيتك وحياتك لأناس لا تعرفهم، لكننا كنا محظوظين لأن جميع زوارنا كانوا على قدر كبير من الاحترام والثقافة".

بدأت الفكرة مع دياب عام 2019، بعدما جمعته "الغربة البيروتية" مع صديقيه وسيم السخلة ومحمد عسراوي القادمين من دمشق، في بيت واحد.

يستضيف أبو الحسن أشخاص، يتشاركون إعداد الطعام، وتناوله، وكذلك الاستمتاع بالفنون، وطرح مواضيع للنقاش، وتبادل التجارب والقصص، تجربة غيرت نظرتي ودوافعي للرحلة والسفر

جاء الاقتراح من وسيم، الذي سبق وعاش تجربة شبيهة، كان هناك تخوف من تنفيذها، ولكنه لم يتردد طويلاً. يقول: "أنشأنا صفحة على فيسبوك تحمل اسم "بيت شام"، بدأنا بالتفاصيل الصغيرة، مثل الصور وخلق الأجواء الحميمة والدفء الموجودة في بيوتنا السورية التي غادرناها".

أوائل الزوار كانوا من أصدقاء أصدقائهم، بالإضافة إلى القادمين لبيروت، ولا يتحملون تكاليف الفندق، أقاموا في الغالب يوماً أو اثنين، بعدها يسافر الضيف إلى وجهته.

"كان بيتنا مفتوحاً لكافة الجنسيات وليس مقصوراً على السوريين، زارنا أشخاص من لبنان ومصر والعراق واليمن، وأجانب من إيطاليا وفرنسا"، يقول دياب.

تنقل دياب بين عدة بيوت. كان لكل بيت مواصفاته المختلفة، وجميعها كانت في منطقة الحمرا. أول بيت كان عبارة عن غرفتين وصالون ومطبخ وحمام، تشاركوا الغرفة مع الضيف أو قضوا ليلتهم في الصالون.

يقول دياب بلغة حالمة وشاعرية: "أجمل ما في بيروت قدرتها العجائبية على جمع كل المتناقضات في وعاء واحد. ليس مستغرباً مثلاً أن نكتشف في وقت متأخر أن في الحي ذاته تسكن الروائية السورية لينا هويان الحسن، كان يفصلنا شارع عن مستودع أحلامها".

شعر دياب ورفاقه بضرورة تطوير الفكرة، فأقاموا فعاليات وأنشطة، مثل عرض فيلم سينمائي أو طرح موضوع معين لنقاش وتبادل الأفكار حوله، يقول: "نحن نتشارك الأكل، ونترك مساحة مفتوحة للنقاش وللموسيقى والضحك، كانت أجواء مريحة وكأننا لم نغادر بيوتنا، هذه الجملة سمعناها من العديد من الزوار".

ودع دياب وأصدقاؤه العديد من الذين كان بالنسبة لهم "بيت شام" محطة عابرة، ولم ينسوهم، مثل شاب سوري اضطر للهجرة نتيجة تردي الأوضاع، أقام في "بيت شام" يومين قبل أن يسافر "بتحويشة" العمر إلى تركيا، كان قد عرف عن البيت من خلال صفحة فيسبوك.

والآن، لم تنته الفكرة، ولكنها توقفت مؤقتاً بعد زواج دياب، وأصبح لديه حياة خاصة في بيروت، وشريكه محمد عسراوي أقام في كندا، ووسيم أنهى دراسة الماجستير وعاد إلى سوريا.

وينهي دياب حديثه: "ما زلت أحن إلى تلك الأيام وأتمنى لو استمرت الفكرة. كان البيت أشبه بوطن صغير. وطن نحلم به ونرسم تفاصيله بشكل أو بآخر. كل الذين مروا بنا خلال إقامتنا بالبيت أثروا فينا. فلكل واحد قصة وتجربة خاصتان".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard