شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
امرأة تخلق جسدها ... قصّة نورة

امرأة تخلق جسدها ... قصّة نورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 17 ديسمبر 202211:46 ص

حياكة الكلام

وصلتني دعوة حفل زفاف من صديقة قديمة لي. بمجرد أن وقعت عيني على الدعوة عدت بالذاكرة 10 سنوات للوراء، وقلت في نفسي: "ياه هي لسة منال الدحيحة فكراني؟". كانت فتاة جادة ليس لديها وقت إلا للاجتهاد، حتى أن الدفعة أطلقت عليها لقب "الدحيحة" لكنني قررت أن ألبي دعوتها. فرصة لأرى ماذا فعل الزمن وهل هو نفس الزمن الذي مرّ علي، أم أن الأزمنة تختلف باختلاف المنطقة الجغرافية؟

في الليلة الموعودة اتصلت بزميلات الجامعة أسأل من منهن سيذهب لحفل الزفاف. لا أحد يجيب. لا أحد يرد، لا بأس لن أتنازل عن هذه الليلة، ربما الخروج برفقة المساء يكون بديلاً رائعاً عن الوحدة التي تتعلق في أقدامنا كلما حاولنا الابتعاد عنها.

وصلت في الساعة السابعة مساء. تبدأ الحفلات المسائية بالقاهرة في بداية الليل، ولا تستمر طويلاً، ذلك أنها غالباً ما تنتهي بخناقة بين المعازيم، أو بين أهل العريس وأهل العروس.

كم أتوق إلى رؤية هذه البهرجة اللامعة التي لا توجد فقط إلا داخل الحارات المصرية. الغناء أشبه بضجيج، ووجوه الناس تبدو متعبة لكنهم يخدعون التعب بالابتسامة. كان مظهري ملفتاً جداً مقارنة بالنساء اللواتي يجلسن في الحفل، هنا في حي إمبابة، كادت نظرات المدعوات تقتلني. شعرت بالخوف حينما وضعت إحداهن يدها على فخذي وشدتني من ذراعي، وهي تقول ضاحكة: "منورة يا اوختشي".

لملمت ما تبقى من مشاعري التي تبعثرت على الأرض بسبب تلك المرأة، ثم قدمت التحية للعروس وشكرتها على دعوتها، وحينما توجهت لمغادرة الحفل، شعرت بأنفاس ناعمة تحتويني. من أين تأتي وكيف شعرت بهذا الشعور، لا أدري، كل ما كان يهمني هو ألا ينتهي هذا الأمان، وبعد نظرة مطوّلة له قال لي: "حضرتك محتاجة مساعدة؟". لم أجب. كرّر سؤاله مرتين ولم يجد إجابة. كنت مجمدة  ما زلت تحت عناقيد الرغبة المفاجئة التي توالدت.

عيناه وطريقة تصفيف شعره تشبه الرجل الذي لطالما تمنيت أن يكون نصفي الآخر من الحياة، لكنه رحل عن العالم وتركني دونما حب ودونما أمان ودونما حياة. فتحت باب السيارة رغم أنني لا أريد مغادرة هذا الرجل ذي الملابس الرديئة والحذاء البالي والوجه الباكي. أريد أن أقف طوال عمري هنا أنظر إليه فقط، وأشبع عيني حنيناً حُرمت منه مبكراً، لكن امرأة مثلي غير مسموح لها بهذه المشاعر، غير مسموح لها أن تعرف الحب. امرأة مثلي تتلقى الخيانات والصفعات بوجه جامد شمعي، وتعيد تسخين وجبة البارحة.

امرأة مثلي غير مسموح لها بهذه المشاعر، غير مسموح لها أن تعرف الحب. امرأة مثلي تتلقى الخيانات والصفعات بوجهٍ جامدٍ شمعي، وتعيد تسخين وجبة البارحة... مجاز

عدت إلى البيت وفي رأسي تتباكى الأنهار وتجفّ المشاهد. قابلتني سعاد. قالت لي: "البيه سأل عليكي يا ست هانم". عرفت أن زوجي عاد من رحلة عمل في فرنسا. طرقت باب غرفة المكتب لم يجب. ظننته ينتظرني بلهفة بعد غياب دام لمدة ستة أشهر. دخلت غرفة النوم أبحث عنه. وجدت زجاجة عطر فرنسي ورسالة اعتذار، يقول فيها: "حبيبتي اعذريني مشغول جداً". لقد غادر لينهي بعض الأعمال.

لم أنزعج كما العادة، لكني فضلت أن أعود إلى الوراء، وجلبت صندوق الذكريات وجلست أتذكّر يحيى، كما أنا، بفستان السهرة الذي خرجت به وعطري الذي وضعته وحذائي الذي لم أخلعه، وبدأت أعيش مع الماضي باقة من اللحظات، حينما كنا نلتقي في الجامعة وعندما كنا نجري تحت المطر لنلحق محاضرة الساعة الثامنة صباحاً وبرد الشتاء يعانقنا. أتذكر جيداً حديثه الأنيق الهادئ، ورسائله كل صباح لازالت أقرأها في هاتفي القديم. ذكريات عدة لا يمكنني نسيانها لكن أكثرها وجعاً عندما اندفع لينقذني من سيارة كادت أن تدوسني في طريق الجامعة لكنها أنهت حياته هو، غادر الدنيا ولن يغادر دقات قلبي.

استيقظت مبكراً على غير العادة وفي فمي طعم قبلة جافة لم أتحصّل عليها وذكرى تقبض الروح. وطلبت من سعاد، أن تجهز الإفطار، وجدتها تعطيني باقة من الزهور. سألتها عمن تركها، قالت إنها لا تعرف. قلت في نفسي ربما نجم الأمس الذي لمع في قلبي وعيني، وكان تخميني في مكانه. لم أدع الفرصة تضيع واتصلت به في الحال. حددنا موعداً والتقينا.

لم يتغير مظهره إلا قليلاً، لكن الفقر يعضّ قدميه وربما يعض حياته كلها. لم يكن لدي مشكلة في ذلك، تخيلت نفسي لو أني أصبحت زوجته، ربما لكنت مثله الآن، معضوضة بالفقر وسوء الطالع، لكن أقل إحساساً بالأسى على نفسي.

بعد 10 لقاءات بيننا وكل مرة يحدثني فيها عن جمالي وسر جاذبيتي وأناقتي، لم يخبرني مشاعر حب، لم يكلمني عن قبلة، حتى أنني حاولت أن أوضح له رغبتي في لقاء جنسي به، لم يعلق بالأساس، ولما قلت له أنني متزوجة لم ينزعج. لم يقل تخلصي من زوجك ونتزوج أو حتى يرفض العلاقة بيننا. لا شيء على الإطلاق. كدت أنفجر، ومزقت اللانجري الجريء الذي كنت أرتديه.

شعرت أن مللاً يكاد يقتل العلاقة التي لم تبدأ بالأساس. نعم أنا أبحث عن الحب الذي لا أجده من زوجي، أبحث عن الاهتمام، أريد أن يكون لي نصف آخر يهتم بتفاصيل يومي، ويحكي لي تفاصيل يومه، ويخبرني كل يوم عن بهجته بوجودي ويشعرني بأنوثتي، يكون لي أنا، يعيش معي من أجلي وليس من أجل الهيبة الاجتماعية أمام المجتمع والناس.

ليس نورة من تغيرتْ. أنا أيضاً تغيّرت. تخلصت من مشاعري المتضاربة، وقررت أن أبدأ من جديد. وجدتْ نورة امرأة بداخلي مثلما وجدتْ امرأة بداخلها، ومضينا نحن الاثنتان بكل القسوة والانبعاث، نحو الحياة التي لا تتوقف... مجاز

اتصلت به أطرح له أسئلتي عن هذه العلاقة الجافة، وجدته حزيناً يبكي، ضعيفاً، وقال لي بألم: "أنا مش راجل زي ما انتي متخيلة، أنا جوايا ست". كادت الصدمة تهزني، لكنني في هذه اللحظة فهمت أنني الأمان بالنسبة له/ لها، فهي تريد أن تعيش ميولها الحقيقية كأنثى مثلي تماماً، لكنها تخاف. ارتجاف صوتها كان يؤلمني ومخاوفها التي حاولت إخفاءها أوجعتني. طلبت لقاءها في الحال. كفكفت كل الأحزان التي تراكمت على كتفيها من هذا الزمن، أوجاعها النفسية جعلتها جالسة منكسرة أمامي، تبكي. لم أفكر في أي شيء حينها إلا أن أساعدها لتعيش كما تريد. ربما اختارني القدر من بين كل هؤلاء البشر لأصنع معروفاً واحداً يجعلني أشعر بالسعادة الحقيقية.

ساعدتها في اختيار الملابس والألوان. حدثتني عن المرأة التي في داخلها وحدثتها عن العصفور الذبيح الذي بداخلي. خضنا تجربة صعبة حتى خرجت "نورة" إلى النور.

لم أصدق عيني عندما صفّفت شعرها وارتدت فستاناً قصيراً وحذاء ذا كعب عال. تبدو أشبه بالزهرة التي تتمايل بعد أن خنقتها الأشواك. ارتسمت البهجة على وجهها وكأنها انتصرت في معركة صعبة. تحارب وحدها، تبحث عن ذاتها وعن عالمها داخل أعماق نفسها.

أصبحت لي صديقة جديدة "نورة" التي تحبني بصدق، كأنما ولدت من جديد حينما عرفتها، كلما أنظر إليها ينتابني شعور من الفرحة لأنها فقط سعيدة، نتبادل الملابس والحقائب والإكسسوارات والحكايات معاً، نثرثر عن غباء الرجال ونضحك عندما ننجح بتكدير أحدهم أو جعله مرتبكاً.

خمس سنوات من الحب وأنا أراقب نورة، بعد أن أصبحت في منتصف العقد الثالث من عمرها، وهي تنجح يوماً تلو الآخر. كل تلك السنوات التي مضت من حياتها لم تفعل فيها شيئاً، كأن عقارب الساعات كانت متوقفة أو كأنها كانت محبوسة ضمن قفص جسدها، حتى خلعت الجسد الذي لا يلائمها، وكشفت الغطاء عن روح ثرّة وغنية، هذا ما كان يشعرني بالفخر والراحة النفسية، أشعر وكأنني قدمت عملاً عظيماً لا تصفه الكلمات.

ليس نورة من تغيرت. أنا أيضاً تغيّرت. تخلصت من مشاعري المتضاربة، وقررت أن أبدأ من جديد. أعيد حسابات وجودي بالحياة وأبحث عن نفسي الحقيقية. وجدتْ نورة امرأة بداخلي مثلما وجدتْ امرأة بداخلها، ومضينا نحن الاثنتان بكل القسوة والانبعاث، نحو الحياة التي لا تتوقف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard