شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هذا ما يُسببه إضراب القضاة في لبنان... من يوقف الانهيار الأمني؟

هذا ما يُسببه إضراب القضاة في لبنان... من يوقف الانهيار الأمني؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 9 ديسمبر 202204:14 م

"بالرغم من حصولي على الطلاق، إلا أني لم أتمكن من الحصول على الحماية نتيجة إضراب القضاة. لا أزال أتعرض للتهديدات والملاحقة من طليقي وإخوتي نتيجة رفضهم الطلاق، إلى درجة أنه لا يمكنني التواجد في بلدتي"، تقول وفاء (اسم مستعار) التي فضلت عدم ذكر اسمها، لرصيف22.

وفاء واحدة من اللواتي لجأن إلى جمعية "كفى"، التي تُعنى بمكافحة العنف والاستغلال ضد النساء والأطفال، والتي نشرت بالأرقام مدى تأثير إضراب القضاة على حماية النساء في لبنان، عبر صفحاتها على مواقع التواصل.

بجانب التهديدات هذه، لم تتمكن وفاء من الحصول على سيارتها، بسبب الإضراب نفسه، إذ استولى عليها طليقها بعد انفصالهما. ويعود "التخبّط القضائي" هذا إلى الإضراب الذي أعلنه قرابة الـ450 من أصل 520 قاضياً لبنانياً منذ أربعة أشهر تقريباً، نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي تمرّ فيه البلاد منذ أواخر العام 2019.

الواقع السيئ

تتراوح رواتب القضاة بين مليون و600 ألف ليرة (39 دولاراً) للمتخرجين، ومليونين و500 ألف ليرة (60 دولاراً) للقضاة الأصيلين، و8 ملايين ليرة (195 دولاراً)، للقضاة من ذوي الدرجات العُليا، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، والذي يبلغ اليوم 41 ألف ليرة للدولار الواحد.

أصدر سلامة تعميماً في تموز/ يوليو الماضي، باعتماد سعر صرف رواتب القضاة على 8،000 ليرة بدلاً من سعر الصرف الرسمي 1،500 ليرة

وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قد أصدر تعميماً في تموز/ يوليو الماضي، باعتماد سعر صرف رواتب القضاة على 8،000 ليرة بدلاً من سعر الصرف الرسمي 1،500 ليرة، لكن القضاة رفضوا هذه المعادلة، مطالبين بإيجاد حلول جذرية لأزمة المداخيل، إلا أن التعميم وجد طريقه إلى التطبيق، فيما لم تشمل موازنة العام 2022، أي زيادة في رواتب القضاة، كونهم "سلطةً وليسوا موظفين".

لا أعداد رسميةً عن القضاة الذين تركوا مهامهم. بعضهم استقال، وآخرون يأخذون إجازات غير مدفوعة (لا تصدر مراسيم إقالتهم). هناك شغور في القضاء قبل الأزمة، إذ يجب أن يكون هناك بين 790 و800 قاضٍ عدلي، و99 قاضياً إدارياً. انخفض عدد القضاة الإداريين إلى ما دون الـ60، بسبب الاستقالات. معظم القضاة الذين هاجروا تحولوا إلى محامين، وبعضهم يعمل كاستشاري قانوني والبعض الآخر قصد التعليم الجامعي في مختلف دول الخليج.

يُعبّر الباحث والمحامي نزار صاغية، لرصيف22، عن القلق الكبير من الوضع القضائي السيئ، ويلفت إلى أن القضاء لا يعمل بشكل فعلي منذ آذار/ مارس 2019، بسبب الإضرابات نتيجة تخفيض التقديمات الاجتماعية خلال تلك الفترة. وبرأيه، فإن الأزمة الحالية "تشكل مؤشراً خطراً للكفاءة، لأن القاضي "النظيف" يتأثر بالانهيار كونه مصدر دخله الوحيد، على عكس القضاة الذين يعتمدون على الرشاوى والتنفيعات السياسية".

كارثة قصور العدل

"لا كهرباء للتدفئة شتاءً، وللتكييف صيفاً، ولا نظافة والرائحة الكريهة تفوح من كل مكان، لا أوراق للطباعة ونجلب قرطاسيتنا معنا. القمامة مكدّسة في زوايا قصور العدل، والحشرات تسرح في الغرف المظلمة، والقطط باتت تعدّ هذه المباني مأوى لها"، هكذا تصف محامية، فضلت عدم ذكر اسمها، حال قصور العدل في حديثها إلى رصيف22.

يُذكر أن العقود الموقعة بين قصور العدل وشركات الصيانة والنظافة انتهت، ولم يتم تجديدها، بسبب الأزمة المالية التي يعاني منها هذا القطاع، كحال كُل المؤسسات الرسمية.

بجانب أزمة المداخيل، يطالب قسم من القضاة بحتمية فصل القضاء عن السياسة، وبرزت "السطوة" السياسة على القضاء في المعالجة "التعسفية" لانفجار مرفأ بيروت الذي حصل في الرابع من آب/ أغسطس 2020، إذ لم يصل اللبنانيون/ ات إلى أي "طرف خيط" في الحقيقة الكامنة خلف ما حدث في ذلك اليوم، والتحقيقات متوقفة منذ أكثر من سنة نتيجة دعاوى كف اليد المقدمة في حق المحقق العدلي طارق البيطار، بسبب التجاذبات السياسية التي تسيطر على الملف.

بالرغم من حصولي على الطلاق، إلا أني لم أتمكن من الحصول على الحماية نتيجة إضراب القضاة. لا أزال أتعرض للتهديدات والملاحقة من طليقي وإخوتي، إلى درجة أنه لا يمكنني التواجد في بلدتي

الإضراب في مرفق العدالة ليس أمراً جديداً في لبنان، إذ لجأ إليه القضاة والمساعدون القضائيون المحامون مراراً في السابق. أبرز هذه الإضرابات، ما أعلنه نقيب المحامين ملحم خلف، في أيار/ مايو 2021، والذي أوجب على المحامين تقديم استدعاء للنقابة من أجل التقاضي. خلال الإضرابات السابقة (باستثناء الذي أعلنه خلف)، كان يُستثنى الموقوفون وقضايا العجلة. أما الإضراب الحالي فهو يشمل كل الدعاوى، مما يشرّع الفوضى ويدفع الناس إلى أخذ حقوقهم بأنفسهم، وارتفاع معدلات الجريمة قد يكون "خير دليل" على ذلك.

الجميع متضرّرون

يحول إضراب النيابات العامة دون تقديم الشكاوى من المتضررين/ ات، بما فيها عدم تلقّي المخافر الشكاوى الفورية من المواطنين من دون إحالة من النيابة العامة الاستئنافية. يشتمل الإضراب أيضاً على منع اللبنانيين من الاستحصال على نشرات قضائية خطية، أو أي معاملة تحتاج إلى إحالة خطية من النيابة العامة الاستئنافية.

من ناحية الموقوفين، باتت الملفات ذات الطابع المدني بحكم المجمّدة إلى أجلٍ غير مسمى، وهو ما يكبّد المتقاضين خسائر جسيمةً. كما أن تكاليف التقاضي، كأتعاب المحامين مثلاً، باتت تساوي أكثر بكثير من قيمة الحق المطالب به. هذا بجانب الحجز على حرية الناس نتيجة التأخير في البت بطلبات تخلية السبيل.

يتزامن هذا الإضراب مع الانهيار الشامل الذي يلحق بالسجون اللبنانية، حيث بلغت نسبة المساجين 323 في المئة من القدرة الاستيعابية. "79 في المئة من النزلاء غير محكومين"، وهو ما اعترف به وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي. كذلك برزت أزمة شحّ المياه في سجن رومية، أكبر السجون اللبنانية، جنباً إلى جنب مع أزمتي الغذاء والطبابة، وهو ما وثقه سجناء في مقاطع فيديو التقطوها علّها تصل إلى المعنيين. وبعد كورونا، يقلق شبح الكوليرا المساجين، إذ سجّل لبنان أكثر من 20 وفاةً وما يفوق الـ600 إصابة.

يحول إضراب النيابات العامة دون تقديم الشكاوى من المتضررين/ ات، بما فيها عدم تلقّي المخافر الشكاوى الفورية من المواطنين

مذكرة "تعسفية"

في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، أصدر المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، مذكرةً تمنح القطاعات الأمنية سلطة تنفيذ مهمات الضابطة العدلية عند عدم التمكن من الاتصال بالنيابات العامة لإعطاء الإشارة القضائية، ما يعني أن المذكرة تسمح بتوقيف أفراد من دون الرجوع إلى إشارات قضائية، وهو ما لاقى اعتراضاً كبيراً لدى خبراء حقوقيين كونها مذكرةً تخالف لغة القانون والأصول الجزائية.

يقول صاغية: "هذه المذكرة ترمي بحريات الناس إلى أيدي الشرطة. المادة 8 من الدستور تنص على أنه لا يمكن توقيف أي شخص إلا وفق القانون، والقانون يقول إن النيابة العامة تمتلك صلاحية التوقيف"، مشيراً إلى أن مذكرة عثمان خالفت المادة القانونية، و"كلنا نعلم أن التفلت الأمني لا يمكن تداركه بهذه الطريقة، وخطوة كهذه ستفتح أبواب التعسف والابتزاز".

في المقابل، تنفي معلومات أمنية لرصيف22، قيام القوى الأمنية "بتوقيف أي شخص من دون إشارة النيابة العامة"، وتؤكد على عدم قيامها بأي توقيفات اعتباطية. وبحسب المعلومات، تشهد السجون "تكديساً" للمساجين منذ بدء إضراب القضاة، و"نأمل بعودة القضاة في أقرب وقت، فهناك المئات في انتظار إخلاء سبيلهم، وهو ما سيريح السجون بعض الشيء".

حلول "ترقيعية"

ترددت معلومات صحافية، في الأسبوعين الماضيين، عن إمكانية البدء بالعودة التدريجية للقضاة نتيجة سلفة 35 مليار ليرة قديمة لدى صندوق تعاضد القضاة، سيتم تسديدها على ثلاث دفعات تتراوح بين 500 و1000 دولار بحسب درجة القاضي. وذكرت المعلومات أنّ حلاًّ مرحلياً قد يضمن هذه العودة، ينص على زيادة الرواتب بما فيها تعويضات نهاية الخدمة. وهنا، يشير صاغية إلى أن "إعادة فتح العدلية سيظهر كمّاً هائلاً من الدعاوى، ما يرجّح إمكانية إصدار قوانين عفو عن بعض الجنح أو إسقاط دعاوى مدنية مقابل مبالغ مادية".

من جهته، يشدد النائب ونقيب المحامين السابق ملحم خلف، لرصيف22، على أنّ إصدار قوانين كهذه سيضعنا أمام معادلة "حل مشكلة بمشكلة أخرى"، وهو ما يفاقم المشكلة الأولى. وبحسب خلف، ينتظم القضاء بعمل القضاة الجدد لسدّ الفراغ الحاصل، إذ "لا يمكن تفريغ الجسم القضائي واللجوء إلى العفو العام".

"من الضروري عودة هذا المرفق، وأتمنى ألا يكون هذا التدمير بإرادة مبيّتة من خلال إسقاط السلطة القضائية والسلطة أجمع"، فمن يريد تدمير ما تبقى من سلطة في لبنان؟

ويضيف أنه "لا تبعات لإضراب القضاة على المجلس النيابي، بل على اللبنانيين والمقيمين في لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بالحالات الطارئة"، ويردف: "من الضروري عودة هذا المرفق، وأتمنى ألا يكون هذا التدمير بإرادة مبيّتة من خلال إسقاط السلطة القضائية والسلطة أجمع".

قد تكون عودة القضاة قريبةً، ومما لا شكّ فيه أن مطالب القضاة محقة إذ بات دخل قاضٍ من درجة عليا، يساوي أقل من 200 دولار، "وزير العدل أعطاني الحلّ في ما يتعلّق بأزمة القضاة"، وهذا تعليق لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، في ما يخص الوصول إلى حل في أزمة القضاة في إحدى إطلالاته التلفزيونية.

لكن يبقى السؤال: من يعوّض على السيدة التي تتعرّض بشكل يومي للتهديد من قبل زوجها وإخوتها؟ من يعوّض على اللبنانيين الذين لم يجدوا من يلجأون إليه حين تعرضوا لاعتداءات وسرقات وغيرها؟ ومن يعطي الحرية لمن ينتظرون إخلاء سبيلهم؟ والأهم، من يخفّف أثر "شريعة الغاب" التي بتنا نقلق منها عند كل مرة نترك فيها منازلنا؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard