شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
إذا كان هذا حال اليسار، فما هو حال اليمين يا رفيقة

إذا كان هذا حال اليسار، فما هو حال اليمين يا رفيقة "ج"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الأربعاء 30 نوفمبر 202201:02 م

لم يعد الحزب الشيوعي يفصل عضواً من أعضائه أو يجمّد عضويته لأسباب تافهة كما كان يفعل معنا، نحن الأعضاء السابقين، في سنوات الشباب. بإمكانك اليوم مثلاً أن تشجع منتخب جمهورية إيران الإسلامية لكرة القدم، وأنت تعلم أنه يمثل بلداً دينياً، وأن تظل ابناً للماركسية العلمية، أو أن تشجع قطر أو السعودية، وأنت تعلم أنهما بلدان نفطيان، وأن تظل، في ذات الوقت، شيوعياً وفياً للطبقة العاملة وهمومها. في زماننا كان بند "النقد والنقد الذاتي" مفعّلاً بأقصى درجاته، بحيث أن جدول الاجتماع الحزبي كان يبدأ أو ينتهي به.

كنا خمسة رفاق في الخلية الحزبية، وكان المسؤول يبدأ الاجتماع بسؤال موجه لكل فرد فينا على حدة: "ماذا لديك من نقد يا رفيق؟"، وكنا نظن أن الإجابة على هذا السؤال إجبارية، فنفكّر بما اقترفنا، أو اقترف غيرنا، من موبقات لا تتفق مع السلوك الشيوعي، فنجيب: "أنا شتمت الرفيق فلان، وهذا ليس من قيم الشيوعيين"، أو: "أنا كذبت على الرفيقة الفلانية وأرجو مسامحتي".

في كثير من الأحيان كنا نعترف أن وسواساً ما لعب في عقل الواحد منا، وأغواه بفضائل الرأسمالية، أو أن الزعيم العربي الفلاني يخدم الاشتراكية وإن كان قومياً. نعترف بما دار في رؤوسنا، ونشعر براحة العودة إلى الطريق السليم، وكان المذنب يتلقى التوبيخ اللازم وينتهي الموضوع داخل الاجتماع.

أنا لم أنتقد نفسي حين انفصلت عن الرفيقة "ج" بعد قصة حب جمعتنا لثلاثة أشهر. كنت أظن أن هذا شأن يتعلق بأمور القلب لا بقياسات العقل الشيوعي الصارم. كنت أظن أن الحب خارج اعتبارات البروليتاريا بفروعها الثلاثة: المناضلة، الرثة، وذات الياقات البيضاء. وقبل هذه الظنون كانت الرفيقة "ج" قد سئمت مني أصلاً، وصرّحت في أكثر من مناسبة بأنني لست الشخص المناسب لها.

بإمكانك اليوم مثلاً أن تشجّع منتخب إيران لكرة القدم، وأنت تعلم أنه يمثل بلداً دينياً، وأن تظل ابناً للماركسية العلمية، أو أن تشجع قطر أو السعودية، وأنت تعلم أنهما بلدان نفطيان، وأن تظل، في ذات الوقت، شيوعياً وفياً للطبقة العاملة وهمومها

انفصلنا إذن بالتوافق ودون دموع و"برابير" كما يفعل العشاق. قلت لها: "باي يا حبيبتي"، فقالت: "مع ستين قلعة اللي تقلعك"، وانتهى الأمر. لم أكن أعلم أن الرفاق في الاجتماع الحزبي الذي عُقد بعد يومين، كانوا ينتظرون مني أن أقدّم نقداً ذاتياً قاسياً. ولأنني لم أفعل، فقد بدأوا هم بنقدي: "أنت لعبت بعواطف الرفيقة ج يا رفيق"، "أنت تركت الرفيقة بعد أن كذبت عليها يا رفيق"، "أنت لا تستحق لقب شيوعي"، أنت كذا وأنت كذا. وانتهى الاجتماع بتجميد عضويتي في الحزب مدة ستة أشهر.

لا علم لي، الآن، إن كان بند النقد والنقد الذاتي ما زال مُدرجاً على جدول اجتماعات الخلايا الحزبية في أحزاب وفصائل اليسار الفلسطيني والعربي، وإن كان كذلك، فهل يجلس الرفيق ويقول أمام رفاقه: "أنا هتفت اليوم لحماس، وأرجو قبول اعتذاري"، أو "أنا خرجت في مسيرة للإخوان المسلمين". أظن أن هذا البند طواه النسيان، وإلا ما الذي يبرّر اللغة المتشابهة، إن لم نقل المشتركة، لبيانات اليسار واليمين في بلادنا؟ لقد قرأت بأم عيني بيانين استنكاريين ضد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قبل سنوات.

لم أكن أعرف أن رفيقي الشيوعي سيذهب إلى تأدية فريضة الحج، بعد أن جمّد عضويتي بعشر سنوات، وأن رفاقاً آخرين سيذهبون لتهنئته حال عودته

البيان الأول للإخوان والثاني للشيوعيين، وكان كلا البيانين يبدأ بالبسملة، ويستخدم مصطلحات الجهاد بدل النضال، وينتهي بكلمة القدس الشريف. تساءلت يومها عن مغزى أن يكون لدينا يمين ويسار، ولم تسعفني أية إجابة. لكنني قلت في نفسي: لعل الفارق يكمن في المشروع الاجتماعي الثقافي لكلا الطرفين. لعل السياسة، في بلادنا، هلامية لاعتبارات تخصّ مشروعنا الوطني المتعثر. لكن المشروع الاجتماعي الثقافي انجرف هو الآخر مع السياسي، أو خلفه، إن شئنا التقليل من فداحة النتيجة.

انفصالي عن الرفيقة "ج" لم يكن التصرّف الوحيد الذي اعتبره الرفاق منافياً للبرنامج الثقافي الاجتماعي المُلزم للفرد الشيوعي. فلقد تم تجميد عضويتي، بعد هذه الحادثة بسنة، لسبب وجيه وهو أنني لعبت الورق مع رفاق الحزب التقدمي الاشتراكي من لبنان.

هل أبالغ؟ نعم. أبالغ وأتجنّى على الرفاق، فلم تكن لعبة الورق بحد ذاتها هي السبب، ولا الأشخاص الذين لعبت معهم، أو انتماءاتهم الأيديولوجية. القصة هي أننا كنا أربعة من الثملين؛ ثلاثة من دروز لبنان ينتمون لحزب جنبلاط، وأنا الشيوعي الفلسطيني، ولمناكفات بينهم هم، اقترح أحدهم أن نلعب عن قيادة ساحة أوروبا في الحزب، بمعنى أن الفائز يصبح هو المسؤول.

ربما لأنني كنت الأقل سُكراً بينهم، فزت أنا. فرحت بهذا الفوز، وبهذه المهمة الجديدة، فبدأت بإصدار التعليمات: "أنت قوم اجلي الجليات! أنت روح اشتريلنا أكل!"... وهكذا. لم أنتبه أن بين المتفرجين كان يجلس رفيقي في الحزب "س" والذي وشى بي بأنني "مدوبل"، أي أنتمي لحزبين في نفس الوقت.

قرأت بأم عيني بيانين استنكاريين ضد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قبل سنوات. البيان الأول للإخوان والثاني للشيوعيين، وكان كلا البيانين يبدأ بالبسملة، ويستخدم مصطلحات الجهاد بدل النضال، وينتهي بكلمة القدس الشريف

حاولت بكل الوسائل أن أنفي عن نفسي هذه التهمة ولم أفلح. لم تنفع حججي بأن هذا حزب لدروز لبنان ولا أستطيع الانتماء له حتى لو رغبت، أو بأن هذا كان مزاح شباب سكرانين. كان التصرّف نفسه مثيراً للشبهة وأستحق بسببه الفصل، لا التجميد فقط.

إذن تم تجميد عضويتي مرتين: مرة لسبب اجتماعي ثقافي، ومرة لسبب سياسي. ولو أنني بادرت بتقديم نقد ذاتي قبل اتخاذ هذين القرارين لتمّ، بالـتأكيد، تخفيض العقوبة إلى التوبيخ فقط، لكنني كنت أظن أن النقد الذاتي واجب في حال ارتكابنا لما يضع علامات استفهام جدية على فكرنا الماركسي، كأن نتحالف مع الإسلام السياسي في انتخابات النقابات مثلاً، أو كأن نهتف لمن انقلبوا على الماركسية في بلادهم، كالرئيس بوتين، أو كأن نؤيد حزباً دينياً طائفياً.

كنت أظن أنني لو أجبرت ابنتي على ارتداء الحجاب، سيستدعيني الرفيق المسؤول ويوبخني، أو لو أنني آمنت بالسحر في علاج أبي المريض، سأصبح مداناً من اليسار ودخيلاً عليه. لم أكن أعرف أن رفيقي المسؤول سيذهب إلى تأدية فريضة الحج، بعد أن جمّد عضويتي بعشر سنوات، وأن رفاقاً آخرين سيذهبون لتهنئته حال عودته. هؤلاء الرفاق، هم من كان عليهم أن يُخضعوا المسؤول للنقد الذاتي حال عودته، لا أن يستمعوا للنقد الذي قام به، أثناء الطواف، عنه وعنهم.

ثمة صورة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل سنوات، لشخص متورم الوجه وينزف الدم من أنفه، عيناه مختفيتان خلف بقع زرقاء وحمراء من أثر اللكمات، ويرفع قبضته تعبيراً عن النصر. تحت هذه الصورة كتب أحدهم: الفائز ببطولة الملاكمة لوزن الريشة. كل من شاهد تلك الصورة ضحك وقال في نفسه: "إن كان هذا حال الفائز، فكيف يا ترى هو حال الخاسر". وقياساً على ذلك يمكننا القول: إن كان هذا حال اليسار في بلادنا، فما هو حال اليمين يا رفيقة ج؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard