شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أكتب لأعيش الحياة كما يجب أن تكون

أكتب لأعيش الحياة كما يجب أن تكون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 26 نوفمبر 202212:25 م

أنا الكاتب، أنا الكتاب


 

أذكر اللحظة الأولى التي أمسكت فيها قلماً لأكتب. كنت قد دخلت المدرسة في سن مبكرة، بلا سنوات تمهيدية أو حتى دراسة منزلية تعرّفني الفرق بين الحروف والأرقام. علاقتي بها لا تتجاوز شكلها داخل البالونات البيضاء الخارجة من أفواه سكان مدينة "البط" في مجلة ميكي. المجلة التي تقرأها لي شقيقتي الكبرى كل ليلة قبل النوم، فأندهش من قدرتها على ترجمة هذه الرموز السوداء إلى صوت يخرج من حلقها، أسمعه فأفهم الكادرات المرسومة الملونة.

في لحظة الكتابة الأولى فشلت. أمسكت بقلمي الرصاص لأنقل الدرس من السبورة إلى الكراسة فعجزت. صاحت بي المدرّسة لأنني أبطأ من زميلاتي. كان خطي نبش دجاج كما قالت بصوت عال أزعجني وأهانني، وأثار ضحك زميلاتي.

طلبت أن أعيد كتابة الدرس مرتين قبل جرس نهاية الحصة فارتبكت. اهتز القلم برؤوسه المنفصلة ذات السنون في يدي، فتناثرت الرؤوس على الأرض. انحنيت أسفل المقعد أحاول جمعها وإدخالها من جديد إلى القلم، لأكتشف ضياع أحدها واستحالة الكتابة. حاولت التقاط رأس من الرؤوس بأصابعي الصغيرة، والكتابة به على الأسطر الباهتة فلم أستطع. بكيت. بكيت وضحكت زميلاتي.

الكتابة حكم دائم وقاس

قلت لأمي: "أكره الكتابة، لا أجيد تحويل الكلام إلى رسوم، لا أعرف الفرق بين الألف ورقم 1، لا أفهم كيف تتحول الطاء إلى ظاء، ولا الفاء إلى قاف، ولا أفهم كيف تتغيّر كلمة بإضافة نقطة أو حذفها".

كنت صغيرة جداً، لم أعرف كيف يمكنني التعبير عن دهشتي وغضبي. أفكاري مبعثرة. لو حاولت اليوم بعد كل هذه السنوات ترتيبها، لقلت إنني شعرت بأن الكتابة عبث لا أفهمه، أو ربما هو أكبر مني. أريد أن أتكلم وأحكي بلا قلم وورقة وأسطر وحبر ورصاص. أريد أن أكتفي بالصوت وأبتعد عن تحويله إلى شيء أبدي وثابت تراه العين ويترجمه العقل ويتسلل إلى الوجدان فيشكّل- بطريقة ما - ذاكرتك وكينونتك ووجودك كله، وكأنه حكم دائم وقاس، جزء يدخل في تركيبتك ويستقر، يكوّنك لتصبح ما أنت عليه بعد ذلك بسنوات، كما حولتني الحروف إلى ما أصبحت عليه الآن.

الكتابة تستهلك صحتك. الكتابة تكسبك أعداء. الكتابة تؤجّج كراهية من حولك وأنت لا تكرهين سوى الكراهية. يقتلك الجميع كل يوم، يقتلك تظاهرهم بالمحبة وهم لا يحملون سوى البغض، بغض غريب ومدهش لأنه بغض كتابة... مجاز

كرهت الحروف واللغة، وانطويت على نفسي مع عرائسي، أتخيلها حية تبادلني الكلام والحكايات، حتى بدأت فجأة في فهم الحروف والكلمات والجمل. نسيت لحظة النجاح ولم أنس الفشل. تنسى اللحظة التي تبدأ فيها شيئاً يظل ملازماً لك للأبد، تنسى لحظة بداية صداقة وحب، ولحظة موت عزيز وفراق قريب. تستمر في حياتك وكأن اللحظة التي نسيت تحولت بشكل ما إلى شيء أكبر، مثل غلاف يحيطك، فلا تعرف أوله من آخره، دائرة ترسم حولك تستمر في توهانك داخلها للأبد. هكذا كانت لحظة قرأت أوّل كلمة، وكتبت أوّل جملة، وحفظت أوّل نص.

الكتابة ثبات للزمن

لا أذكر سوى مشهد لي وأنا متربعة على سريري، أراني من الأعلى وكأنني أعود بالزمن في خيالي لأشهد الصورة كاملة، أرسم فتاة بالقلم الجاف الأحمر، تقف أمام كهف بجانبه نخلة، وأكتب عنواناً لقصة.

كتبت قصصاً كثيرة على ورق كشاكيل المدرسة، ورسمت أغلفتها ودبّستها بدباسة أبي الحمراء لأصنع أول كتاب لي. نسخت القصص بيدي نسخاً عديدة لأوزعها على الزميلات في الفصل، الزميلات اللاتي سخرن مني ومن خطي ومن قلمي السنون الذي تبعثرت رؤوسه، لأستمتع بالدهشة على وجوههن، وسؤالهن في استغراب، أنت ألفت هذا أم نقلته من كتاب ما؟

أرد: بل كتبت كل كلمة في كل قصة، أستمتع بكلمات الإعجاب، وبمدرس اللغة العربية وهو يقرأ قصتي للفصل كله، ويرسم بجوار عنوانها نجمة كبيرة، وهو يخبرني بأنني سأصبح كاتبة. أستمتع بكلمات المديح، وبسعي الزميلات ليصبحن صديقاتي، وأعي دون أن أدرك هيبة الكتابة، وأهمية الموهبة، وما تضفيه على الشخص من تميّز، يظهرك وسط الآلاف، يجعلك مثل جملك المكتوبة، خالداً وثابتاً وأبدياً. يومها قرّرت أن أصبح كاتبة.

حكاية ظريفة لكنها معتادة، تجذب الاهتمام لكنها كليشيه، تشبه كل الحكايات، بدايات كل الكتاب، اكتشافهم لغواية الحرف وجمال اللغة، لسحر الحكي وتخفّف الروح من ثقل القصص. لتلك الطاقة التي تشعر بها ترتجّ داخلك، تؤلم أطراف أصابعك، فتكتب وتكتب وتكتب، وتلهث كأنك تجري في المكان.

اليوم أشعر أنني عاجزة عن الكتابة

أحدّث نفسي: "نَفَسُك يؤلمك، والفراغ داخل صدرك ملموس كمثل شعورك عندما تنتهين من نفخ بالونة. تشعرين أن صدرك نفسه تحول إلى بالون ممتلئ بالهواء الخارج من فم شخص آخر. ضغط غريب على جانبيّ صدرك وأسفل حلقك عجزت دائماً عن وصفه، ولم تسألي عنه أحداً، حفظتِ هذا الشعور داخلك واعتقدتِ أنك تتفرّدين به. شعور موجع لكنه لذيذ، كأن ثقل جسدك المتمركز دوماً في صدرك، في قلبك، اختفى، لكنك في نفس الوقت غير قادرة على التحليق مثل البالونة الملونة. تلاشيتِ من داخلك لكنك ازددتِ تحجّراً. تلاشت الكتابة وظل قلقها يتقافز داخلك، يؤلمك، يرعبك، يمنعك من النوم". قلت: "لن أكتب بعد اليوم".

الكتابة تستهلك صحتك. الكتابة تكسبك أعداء. الكتابة تؤجّج كراهية من حولك وأنت لا تكرهين سوى الكراهية. يقتلك الجميع كل يوم، يقتلك تظاهرهم بالمحبة وهم لا يحملون سوى البغض، بغض غريب ومدهش لأنه بغض كتابة. يبغضونك لأنك تحبين الكتابة، ولأن البعض يحبّون حبك لها. كلماتك تصل أحياناً لقلب فتاة وحيدة، فتكتب لك أنها اكتشفت ما كانت تشعر به ولا تصفه. أو يأتيك شاب في ندوة ليخبرك بانه أعاد فهم حكاية قديمة في تاريخ عائلته، لم يكن قادراً على استيعابها قط سوى بعد قراءة روايتك. تسعدين لأنك تحبين استبطان العالم واستنطاق الجمادات والأشباح والأطياف والخيالات.

تفرحين لأن مشهداً عابراً من طفولتك، أو سؤالاً ساذجاً سيطر على عقلك، وأنت تتقافزين في المواصلات ككنغر مرتبك وصل إلى أشخاص آخرين، ولأنك تتركين جزءاً منك داخل آخرين، ولأنك تخافين الموت، وتحرصين على مد حياتك في حيوات أخرى دون أن تهشمي روحك فتخسرينها.

لكنك اليوم خسرت روحك

بالأمس شاهدت مقطع فيديو يستعرض صوراً لجدّي الراحل. أرعبني شعوري بالجمود. لم أحزن أو أتذكره. ضبطت نفسي أفكّر في نصٍّ يلائم الصور، أكتبه وأنشره على فيسبوك. فكرت أنني تحولت إلى آلة في يد الكتابة، وأن كل ما بتّ أفكر فيه هو كتابة نص يمنحني شعوراً مؤقتاً بالرضا. تلاشيت داخل الكتابة، امتصتني وسيطرت على مشاعري وذاكرتي.

تحوّل كل شيء عزيز في حياتي إلى مجرّد نصٍّ محتمل. الكتابة جميلة، لكن التشبّث بإنسانيتي أجمل. فهمت أنني في مرحلة خوف. ثمّة بقع مظلمة في عقلي. تكتلات من الضغوطات والهجوم والشعور بانني أعاقب لكوني كاتبة. بقع مظلمة تغزو عقلي والكتابة فعل إنارة، لكني بتُّ أخاف الضوء وأرغب جداً في الاختباء، الانزواء داخل سجن صغير صنعه لي من حولي.

لكن ذكرى ما أنقذتني

تذكرت كاتبةً أخرى في سجن حقيقي، معتم ورطب ومزدحم، سجن لا تملك فيه ورقة ولا قلم، لكنها لم تستسلم، كتبت بقلم الكحل على المناديل، ودفنت ما تكتبه  تحت البلاط المكسّر. قالت لنفسها: "ستموتين لو توقفت عن الكتابة".

لم تتوقف نوال السعداوي عن الكتابة في السجن فكيف توقفت أنا وسجني ليس ضيقاً ولا مظلماً مثل سجنها؟ لكني سجينة الخوف، سجينة فكرة أن ما أكتبه قد يظلمني، قد يعرّضني للانتهاك، أن أتحول إلى مشاع، أن تُنتهك روحي وتُدمّر سمعتي... مجاز

لم تتوقف نوال السعداوي عن الكتابة في السجن فكيف توقفت أنا وسجني ليس ضيقاً ولا مظلماً مثل سجنها؟ سجني مضيء وحميمي، فيه بلكونة ربما تطل على شارع ضيق لكنها تمنحني حرية إطلاق البصر، محاطة بأسرتي وكتبي، أملك هاتفاً يصلني بالعالم والأصدقاء، أنا قادرة كذلك على المشي إلى السوبر ماركت وشراء الحلوى وصنع الكعك، لكني سجينة الخوف، سجينة فكرة أن ما أكتبه قد يظلمني، قد يعرّضني للانتهاك، أن أتحول إلى مشاع، أن تُنتهك روحي وتُدمّر سمعتي، والأقسى أن يتلاشى جهد سنوات باتهام ظالم. ربما ادعاءات مضحكة، ربما ادعاءات سخيفة، لكنها توترني وتخيفني،  كيف يمكن أن أكتب وأنا خائفة؟ فكّرت: ربما الخوف هو ما أمات الكتابة وأماتني.

بمرور الوقت، نتعلم استدعاء الذاكرة. كان نجيب محفوظ يستدعي الوحى في ساعة محددة في اليوم. حاولت أن أفعل مثله. حاولت العودة إلى الكتابة التي أحبها، بنصوص آنية على فيسبوك، برسائل إلى الأصدقاء، ربما حتى بحب أو اكتئاب مصطنع.

حاولت القراءة ومشاهدة الأفلام القديمة، أعدت مشاهدة المسلسلات التي شاهدتها من قبل عشرات المرات، وتعجّبت من الزهد في رؤية الجديد، فهمت أن الإنسان في لحظات الخوف والشعور بعدم الأمان، يقرّر العودة إلى ما يعرفه، يشاهد ما شاهده ويقرأ ما قرأه مسبقاً، وكأنه يحيط نفسه بغلالة طمأنينة، ما نعرفه لن يخذلنا، لن يصدمنا كما صدمتنا الحياة. لحظتها توقفت عن الخوف. لا أعرف فعلاً ما الذي حدث، لكني شعرت بأن الفنان بالفعل قادر على إنقاذ نفسه، يميل إلى ما يجعله يستمر.

حتى خلال أزمتي كنت أفعل بالضبط كل شيء يمكن أن ينقذني، يُعيد إحياء الكتابة داخلي. ربما توقفت القصص عن الدوران في عقلي لبعض الوقت. ربما شعرت بأنني فارغة وغير قادرة على الإمساك بعقدة الرواية التي أفكر في كتابتها، لكني فهمت أن كلّ هذا مؤقت، أحياناً يصبح التخلي عن الفكرة أو الرغبة هو ما يجعلها تكتمل وتأتي.

الكتابة هي ما تبقيني على قيد الحياة. أقولها فيسخر مني الجميع، أو يعاتبونني لأنني لم أذكر أسباباً أخرى، مثل ابنتي وأحبائي وأصدقائي. الحقيقة أنني بدون كتابة لا شيء، كل الأحباء إلى زوال، لكنهم باقون للأبد في كتاباتي. كل شيء ينتهي في الواقع، أما في الخيال، فيمكنني الاحتفاظ به للأبد... مجاز

الفن لا يمكن أن يتوقف، الكتابة أيضاً لا تتوقف داخل المبدع، تتجمّد ربما بتجمّد روحه في لحظات الضعف، لكنها تعود وتحيا من جديد.

إن كانت هذه الأزمة قد علمتني شيئاً، فسيكون التمسك أكثر بما أحبه، اتباع حدسي وأهوائي، والإيمان بقدراتي.

في تلك اللحظة قررت كتابة نص

انتهيت من الكتابة وثمّة إحساس بالخفّة يسيطر عليّ. طبعت النص وارتديت ملابسي. قفزت على السلالم متجهة إلى مقهاي المفضل. على ناصية الشارع توقفت لحظة. الحقيقة أنني كلما شعرت باللا جدوى أو اليأس أو الكفر بما أفعل، أستعيد هذه اللحظة، المناخ من حولي، الهواء اللطيف على وجهي، وارتعاشة فمي بابتسامة ربما لم يلحظها المارة، لكني شعرت بها واسعة وحيّة.

لم أكن أمشي، كنت أطفو على أسفلت الشارع. أطير. تنفسي أعمق، بصري حاد وسمعي ثاقب. بدت الألوان من حولي أغنى، وكل التفاصيل، كل العناصر، كل شيء، من الأكياس البلاستيكية الملقاة على الأرصفة، إلى لافتات المحلات وعمدان النور، أكثر بهاء.

الكتابة هي ما تبقيني على قيد الحياة. أقولها فيسخر مني الجميع، أو يعاتبونني لأنني لم أذكر أسباباً أخرى، مثل ابنتي وأحبائي وأصدقائي. الحقيقة أنني بدون كتابة لا شيء، كل الأحباء إلى زوال، لكنهم باقون للأبد في كتاباتي. كل شيء ينتهي في الواقع، أما في الخيال، فيمكنني الاحتفاظ به للأبد.

أحياناً، أشعر بمجسّات تخرج من جسمي، تتلمس كل ما حولي، تخزنه في خلاياي، ربما حتى تنفصل روحي عني، وتذهب لتأمل مشهد بعيد، لمتابعة تفاصيل لا يمكن أن أعرفها. أشعر أحياناً بعد الانتهاء من نص أنني كنت في غيبوبة كتابية، لا أذكر كيف كتبت هذا ومتى ولماذا، فقط تنعشني السعادة ويتلبسني نفس الشعور بالخفّة.

أضع في الكتابة مشاعري تجاه الموجودات، رؤيتي حتى للذرات الصغيرة التي يتكوّن منها هذا العالم. أرى القصص خلف كل شيء، ترتيب أصص الزرع في الشرفات، الكراسي المصفوفة على الجانبين أمام البنايات في عزاء، رجل يجرّ دراجته، يبكي وهو يتحدث في هاتفه، أحياناً من كلمة تخرج عفواً، أو مكالمة تليفونية يجريها الجالس خلفي في القطار.

الحياة واسعة جداً

 في كل لحظة هناك قصة تكتب. شعرت وكأن مهمتي هي رصد القصص، تجميعها، التهامها ربما، خلطها بأجزاء من روحي، ببعض من مشاعري، بأكسجين شهيقي، والعَرَق النابت على جلدي، ثم إخراجها من جديد.

تجعلني الكتابة قادرة على منح المزيد من المحبة، تريني القبح، لأتمكن من الامتنان أكثر للجمال. تمنحني السلام لأتصالح مع نفسي ومع العالم، وتعلمني أن لا أبيض ولا أسود، فقط درجات من الرمادي. يبدو أنني أكتب لأعيش الحياة كما يجب أن تكون.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard