شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف أكلتُ أصنامي؟

كيف أكلتُ أصنامي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 16 مايو 202312:13 م

"أنت واكل أبوك"، يقولها صديقي بإعجاب.

مقولته تلك ذكرتني بما كانت تردده أمي لي دائماً: "أنت أبو أبوك".

وهي مقولة قريبة مما قاله صديقي، وواقعية كذلك. ولا أعرف كيف تبدلت الأحوال وانقلبت لأصبح أباً لأبي.

من الطبيعي أن يحث الأب ابنَه على التعليم، وأن يحاول أن يدفعه نحو مستقبل أفضل. ومن أجل ذلك يكدح الآباء في أعمالهم وهو بمثابة الصنم الحي الأول في حياة الإنسان، حيث "بابا" هو القدوة والمثال.

كان أبي بالنسبة لي قدوة؛ قدوة في ألّا أكون مثله، وهو التعلم بالسلب، أو كما قال نجيب محفوظ يوماً: "الأشرار معلمون صادقون وقساة"

غير أن أبي كان غير الآباء؛ لم يكن أبداً يدفعني نحو النجاح، ولم يرغب في أن أحصل على مستقبل أفضل، بالعكس، كثيراً ما كان يتضايق مني أثناء مذاكرة دروسي، وأذكر في مرة أنه جمع الكتب المدرسية وغير المدرسية وحرقها بمدخل البيت.

كان مؤمناً بأن التعليم مضيعة للوقت، وأنه يجب عليّ أن أترك هذه التفاهات كي أنتبه للعمل بـ"النقاشة" حتى أصبح مثل ابن صديقه "أسطى نقاش قد الدنيا".

في الوقت نفسه، كان أبي يرفض العمل، ويتحجج حين يعرض عليه أحدهم وظيفة، فيسرد قائمة طويلة من الأعذار غير المقنعة. فكان عليّ أنا أن أعمل في الإجازات المدرسية، من منادي سيارات إلى "قهوجي" لبائع متجول لعامل إلى مندوب مبيعات... والقائمة تطول.

كان أبي بالنسبة لي قدوة. قدوة في ألا أكون مثله، وهو التعلم بالسلب، أو كما قال نجيب محفوظ يوماً: "الأشرار معلمون صادقون وقساة".

هذه هي الحقيقة التي اكتشفتها مع أبي. لم يكن شريراً أو قاسياً، ولكن قناعاته بالحياة أدت إلى نفوره من التعليم والعمل. أعتقد أنه الصنم الأول في حياتي الذي أكلته، وهضمته كذلك.

حين تغيب القدوة في البيت، نبحث عنها في المدرسة. المدرس/المُعلم، تلك الشخصية الجبارة، التي نخشاها ونتعلم منها لتصبح قدوة هي الأخرى، لا، بل صنماً جديداً نرى فيه اكتمال الإله.

في الصف الأول الإعدادي كتبت أول قصة لي، كانت بعنوان "فينوس"، تدور حول شاب يدرس بكلية الفنون التطبيقية، وأثناء ذهابه للكلية يصادف فتاة، يراها يومياً، ويتعلق بها، فينحت لها تمثالاً من الرخام. مع الوقت يتعرف على الفتاة تدريجياً، وكلما يقترب منها أكثر يصاب التمثال بعض الشوائب، وتتوطد العلاقة حتى ينهار الشاب وينهار تمثاله تماماً. إنه صنم آخر يتحطم.

وقتها عرضت القصة على مدرس اللغة العربية، والذي كنتُ أعتبره علامة في مادته، أسطورة في اللغة العربية. غير أن ردة فعله صدمتني.

- "أنا مش فاهم حاجة".

لم يكن أبي شريراً أو قاسياً، ولكن قناعاته بالحياة أدت إلى نفوره من التعليم والعمل. أعتقد أنه الصنم الأول في حياتي الذي أكلته، وهضمته كذلك.

تلك المقولة حطمته كصنم وكقدوة، خاصة بعد نصيحته لي بترك كتابة القصة والاهتمام بالنحو –الذي أعاني من قواعده حتى اليوم- والصرف والمنهج الدراسي.

المنهج الدراسي نفسه لم يكن يعني لي شيئاً، خاصة مع اكتشاف مكتبة الأسرة والقراءة الحرة، تلك القراءات التي عرفتني على مبدعين بلا حصر، نماذج من البشر استطاعوا أن يتميزوا بفنونهم وعقلياتهم.

في الجامعة ظهرت أصنام جُدد. هذه المرة متعلقة بنظريات: شيوعية، ماركسية، عدمية، وجودية، مذاهب سياسية واجتماعية يعتنقها الأصدقاء كدين حقيقي وفعلي.

اختار كل صديق المذهبَ الذي يناسب أفكاره، تعصب له، وعمل على سيادته، وتحقيق أهدافه على أرض الواقع.

أصنام هذه المرة فلاسفة، وهي تقع ضمن دراستي الرئيسية. لهذا كنتُ على علم بحياة هؤلاء الفلاسفة. أجل، كتب نيتشه عن الإنسان الجديد أو الإنسان الخارق، غير أنه في حياته كان يعاني من الضعف والجنون والأمراض النفسية والعضوية. فأين هي القوة الخارقة إذاً؟

أتذكر الآن واقعة تحكى حول عمر بن الخطاب بأنه كان يعكف على صناعة أصنام من العجوة، وإذا جاع أكلها. أعتقد أن فعلته تلك خير دليل على رمزية الصنم الذي نهبه القداسة فنتعبد به، أو ننزعها منه ليصبح وجبة شهية

ماركس نفسه لم يكن ماركسياً أصلاً، وكذلك سائر الإخوة، وهذا طبيعي جداً، فمؤسس الفلسفة سقراط نفسه استطاع أن يقنع العالم بفلسفته ولم يستطع أن يقنع زوجته زانتيب، وعاش فقيراً عاطلاً، ثم منبوذاً مسموماً. وبرغم ذلك بقيت فلسفته عموداً رئيسياً للمعرفة الإنسانية، وأصبح هو نفسه صنماً جديداً. ربما نجد من يتعبد به كبوذا وكونفوشيوس..

لهذا لم يكن الفلاسفة بالنسبة لي أصناماً تستحق العبادة ولا حتى الإعجاب. وهذا لا يعني عدم الاهتمام والشغف واكتساب المعرفة من علومهم وفلسفتهم ،ولكن بمنطق "كل إنسان يؤخذ عليه ويرد".

أتذكر الآن واقعة تُحكى عن عمر بن الخطاب بأنه كان يعكف على صناعة أصنام من العجوة، وإذا جاع أكلها. أعتقد أن فعلته تلك خير دليل على رمزية الصنم الذي نهبه القداسة فنتعبد به، أو ننزعها منه ليصبح وجبة شهية. تلك الوجبة التي لا بد لها أن تثمر عن صنم جديد يتعبد به غيره أو يأكلها ليثمر بدوره.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard