شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"ديرية، لأ حسكاوية"... حروب المطبخ السوري من الكليجة للمليحي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 12 نوفمبر 202212:59 م

أحب تلك الحرب التي تنتهي بالمذاق اللذيذ للأطباق المختلف عليها، والسوريون سادة هذه الحروب التي تقوم على الخلاف في نسب الأطباق الأكثر شهرة والأكثر لذة في بلادهم. والجميل أن هذه الحرب لا نهاية لها. 

الصيت للديرية والطعمة للحسكاوية 

الكليجة هي نوع من أنواع الحلوى التي تقدم في الأعياد والتي ينقسم سكان المنطقة الشرقية في نسبها، غالباً تنسب لمدينة دير الزور التي اخترعت لها مزيجاً من مجموعة من التوابل وأسموها "روايح الكليجية"، أي تلك التي تعطي رائحة مميزة لهذا النوع من الحلوى الذي يكون العيد ناقصاً بدونه.

تقدَّم "الكليجة" مع الشاي أو القهوة للضيوف، وتُمنح للأطفال ساعة زيارة المقبرة في أول يوم من عيدي الفطر والأضحى، ولها في دير الزور نوعان، الأول سادة والثاني محشو بالتمر.

لا يعترف أهل الحسكة بنسب "الكليجة" لدير الزور، جارتهم الجنوبية اللدودة، ويصرون على أنها جزراوية، أي أن صناعتها الأولى كانت في الجزيرة السورية

لا يعترف أهل الحسكة بنسب هذه الحلوى لدير الزور، جارتهم الجنوبية اللدودة، ويصرون على أنها جزراوية، أي أن صناعتها الأولى كانت في الجزيرة السورية، وهناك من يعتبر أن خلطة التوابل الخاصة بهذه الحلوى مزجت للمرة الأولى من قبل سيدات الجزيرة السورية.

نظراً لكون أهل الرقة من سكان المنطقة الشرقية فهم بطبيعة الحال يشكلون جزءاً من هذا الصراع، فيسقطون التاء المربوطة التي تلفظ هاءً من اسم هذه الحلوى ويسمونها "كليج"، الطريف أن لا أحد من صنّاع هذه الحلوى أو ممن يدعون نسبها إليهم يعرف معنى الإسم أو مصدره اللغوي.

الديريون يحاججون بوجود الكليجة العراقية ليؤكدوا نسب الكليجة إليهم، فمحافظتهم حسب خرائط ما قبل الحرب العالمية الأولى تقع ضمن أراضي العراق، ويرد البعض على هذه الدعابة باعتبار أن الكليجة جزراوية لكون مدينة الموصل العراقية حالياً، كانت في خرائط ما قبل الحرب العالمية الأولى ضمن الأراضي السورية، ثم إن التنافس يقوم على من أضاف الحليب أولاً لهذه الحلوى لتكون هشة، وعلى من هو أول المطابخ الثلاثة التي صنعت الكليجة، بالسمن العربي الذي يصنعه أهل الريف لا السمن المعلب.

لكن، ولأن الفرد ينحاز دوماً لما تصنعه أمه، فأميل للحلول الوسطية التي تصنعها والدتي التي تعيش في الحسكة وتنحدر من دير الزور، وربما هذا هو سبب وسطيتها وتطويرها لهذه الحلوى برؤى واختراعات فردية، فهي تضع السمن العربي والحليب في الخلطة، وتصنعها بنوعيها السادة والمحشوة، والحشوة عندها لا تقتصر على التمر، فقد تحشوها بالسمسم أو الجوز أو جوز الهند، وبذلك تكون قد حققت نكهة فريدة تعتقد أنها من خلالها تسبق قريناتها من نساء الحي والمدينة.

تقول أمي في تفسير تصرفها هذا أن الطبخ - كل الطبخ - قام على التجريب، فإن كانت التجربة تستحق كررت مرات عدة حتى تغدو طبقاً معترفاً به، والاعتراف يكون من خلال استنساخ التجربة من قبل نساء أخريات حتى تصير التجربة عُرفاً مطبخياً معمولاً به، ويضاف لما سبقه من أعراف.

الخلاف بين مطابخ شرق سورية لا ينحصر في هذه الحلوى، فعلى الرغم أن لطبق البامية نسباً ديرياً واضحاً وشهيراً في كل أرجاء سوريا، إلا أن سكان الحسكة والرقة يعتبرون أنهم متقدمون في نكهة هذا الطبق؛ حتى إن إحدى جاراتنا كانت تقول دوماً لوالدتي : "الصيت للديرية والطعمة للحسكاوية"، في محاولة منها للطعن في مذاق البامية الديرية.

حلاوة الجبن... القشطة حموية والحلاوة حمصية 

بين محافظتي المنطقة الوسطى في سورية حرب من خفة الدم، فسكان المدينتين يطلقون نكاتاً ودعابات بعضهم ضد بعض نتيجة لمواقف تاريخية أو حكايا شعبية يرددها الحموي عن الحمصي من باب الدعابة أو بالعكس، وصراع مطبخيهما حلو المذاق، فحلاوة الجبن الشهيرة تستحق بلا شك أن تكون سبباً للخلاف. 

تقول أمي إن كل الطبخ قام على التجريب، فإن كانت التجربة تستحق كررت مرات عدة حتى تغدو طبقاً معترفاً به، والاعتراف يكون من خلال استنساخ التجربة من قبل نساء أخريات حتى تصير التجربة عُرفاً مطبخياً معمولاً به، ويضاف لما سبقه من أعراف 

وضع البعض قاعدة جامعة تقول "القشطة حموية والحلاوة حمصية"، بمعنى أن الحل يقوم على الاعتراف بتفوق الحماصنة بصناعة رقائق العجين الخاص بهذه الحلوى، في مقابل تفوق جودة القشطة المصنوعة في حماة والتي تستخدم في حشوها، فحلاوة الجبن لا جبنة فيها، وإنما عجين مصنوع من السميد والسمنة، وحشوة مصنوعة من القشطة.

على الرغم من تطابق المكونات وطريقة التحضير والنكهة بين المدينتين، إلا أن الخلاف حول هذه الحلوى أزلي، ولا يبدو أن التاريخ سيجد له حلاً في القريب.

المليحي... يستاهل حرب 

على الرغم من فوارق طريقة التحضير والتقديم فإن جوهر المليحي القائم على طبخ اللحم مع اللبن هو الأساس، سكان جبل العرب من الدروز يقولون إن هذا الطبق صنع أول الأمر في جبلهم، إلا أن أهل سهل حوران، الذي يعد امتداداً طبيعياً لجبل العرب نحو الغرب، يتعصبون لفكرة أن المليحي طبخ في سهلهم ومنه انتقل إلى العالم. 

حتى وإن اتفق الطرفان على أن نكهة المليحي، لذيذة أينما طبخ إلا أن حل المعركة لا يبدو وارداً، رغم تأنيث اللفظ في السويداء ليكون "مليحية"، بدلاً من تذكيره في درعا.

حتى وإن اتفق الطرفان على أن نكهة المليحي، لذيذة أينما طبخ إلا أن حل المعركة لا يبدو وارداً، رغم تأنيث اللفظ في السويداء ليكون "مليحية" بدلاً من تذكيره في درعا 

الأجمل أن سكان محافظة القنيطرة ذات التنوع الديموغرافي بجمعها للعرب والشركس والدروز في منطقة جغرافية واحدة، لم تدخل الصراع حول المليحي، بل اكتفت بطبخه والتلذذ به، وعموماً يعد المليحي انعكاساً لثقافة المطبخ السوري في جوهره الأول القائم على القمح واللحم، وذاك لأن الصنعة الأكثر انتشاراً بين سكانها الأوائل كانت زراعة القمح وتربية المواشي. 

حرب الأطباق الكبرى... بين دمشق وحلب

أما الصراع الأكثر صخباً فيجمع دمشق وحلب، المدينتين الكبيرتين في سوريا، فالمطبخ الحلبي هو الأكثر تنوعاً والأطيب نكهة عما سواه من المطابخ السورية. 

الدمشقيون يعتبرون أنهم أهل التفوق المطبخي وأن حجة الحلبية في تأكيد تفوقهم هي أن لديهم من الكبة أنواعاً عديدة تبدأ من الكبة النية، ولا تنتهي بالكبة السماقية والصاجية، مروراً بكبة العدس، ولديهم من الكباب أنواع لا تطبخ إلا في مدينتهم مثل كباب الباذنجان، كما يصل الحد بالحلبية إلى وجود طبق يحمل اسم لحمة بكرز.

بينما يأخذ أهل حلب على الـ"شوام" أن ما ينفردون به سورياً ليس شامياً، مثلاً الكنافة فلسطينية، وتفوق الدمشقيين بها لا يضيف لمطبخهم شيئاً، وطبق الفتوش لبناني الأصل، والكباب الهندي من اسمه يفضح نسبه. 

ليدافع الدمشقيون عن أصالة مطبخهم يضعون أمامك سفرة  مما لذ وطاب تجمع أطباقاً من فتة المكدوس، والفتة الشامية (التسقية)، والشاكرية، وطباخ روحو، ويهودي مسافر، وستي ازبقي، وقد تمتد إلى ما لا نهاية.

يأخذ أهل حلب على الـ"شوام" أن ما ينفردون به سورياً ليس شامياً، فالكنافة فلسطينية، وتفوق الدمشقيين بها لا يضيف لمطبخهم شيئاً، والفتوش لبناني، والكباب الهندي اسمه يفضح نسبه

والاسم اللطيف والغريب للطبق الشهي الأخير ينسب بحسب الروايات إلى سرعة أكله، إذ تعني كلمة "ازبقي" في اللهجة الدمشقية "أسرعي"، وكان يقال قديماً بحسب الروايات "يا ستي ازبقي" أي أسرعي يا جدتي بالهروب من جدي.

يتألف هذا الطبق من العدس المسلوق تضاف إليه اللحمة المقلاة مع البصل والثوم والكزبرة، إضافة إلى المعكرونة والليمون، ويعتبر البعض أن هذا الطبق نسخة محرفة ومعدلة عن "حراق أصبعه".

يعتبر الدمشقيون أن المطبخ الحلبي متأثر بنظيره التركي أكثر من أي مطبخ سوري آخر، لذا فإن التنوع الذي يشهده لا يعني بالمطلق أن النكهة حلبية، وحين يريد الحلبيون التفاخر بمطبخهم عليهم تقديم وجبات طبخت أول مرة في حلب ذاتها. 

لكن تصنيف المطابخ في العالم أعطى حلب هذا المجد، إذ اعتبر المطبخ الحلبي قائماً بذاته، وليس امتداداً للمطبخ الشامي أو التركي.   

نيال القاضي

المحايد، أو من يحاول لعب دور القاضي الذي عليه أن يحل الخلاف ويصدر حكماً قطعياً لصالح أحد أي من المطابخ السابقة، سيقع في حيرة من أمره، فكل من الفريقين يمتلك أطباقاً تعد دليلاً دامغاً على تفوقه وعلى ملكيته، وعلى أن منافسه استنسخ طبقاً أو أكثر من مطابخ أخرى.

البعض يذهب نحو الشائعات الدينية المرتبطة بالمطبخ، فمثلاً ثمة من يقول إن الدروز لا يأكلون الملوخية لأن عقيدتهم تحرم ذلك، لكني شخصياً ذقت هذا الطبق في أشهى أشكاله في منازل أصدقائي من الدروز.

ليثبت الدمشقيون أصالة مطبخهم يضعون أمامك سفرة  مما لذ وطاب، تجمع أطباقاً من فتة المكدوس، والفتة الشامية (التسقية)، والشاكرية، وطباخ روحو، ويهودي مسافر، وستي ازبقي، وقد تمتد السفرة إلى ما لا نهاية

وهناك من يقول إن الإيزديين لا يأكلون الملفوف لأن الشيطان الذي يعبدونه يختبئ فيه، غير أن صديقاً أيزيدياً شاركنا السكن في المرحلة الجامعية كان يعتبر سلق ورق الملفوف وتحويله إلى لفائف محشوة بالأرز قبل أن يطهوها لنا واحدة من متع الدنيا التي يتمناها في الآخرة.

كثيرة هي قصص السوريين التي ترتبط بالطعام والمواسم وأحقية المذاقات. فالدمشقيون يصرون على طبخ الشاكرية، في أول أيام شهر رمضان تحت مسمى "نبيّضها"، في إشارة إلى المرق الأبيض المصنوع من اللبن لطبخ اللحم فيه. 

وفي الساحل السوري مناسبات ذات صبغة دينية أو شعبية يطبخ فيها السكان الدجاج مع برغل بالحمص، وفي دير الزور يكرم الضيف صيفاً بطهو البامية، وأول ما يخطر في بال سكان الجنوب هو المليحي للضيف، ومن يزور حماه أو حمص لا يمكن أن يعود بدون حلاوة الجبن، ومن يمر بمدينة النبك لا يمكن إلا أن يذوق الهريسة، ومن كان يمر بمدينة أريحا من نواحي إدلب لا يسأل إلا عن محال بيع الشعيبيات.

يقول الروائي السوري يعرب العيسى في إحدى مقالاته: "السوريون يصنعون من الباذنجان 160 طبقاً مختلفاً تمتد من المخلل وحتى المربى"، وبالتالي فإن اشتداد هذه الحرب يعني المزيد من المتعة والنكهة واللذة، طوبى للمتحاربين.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard