شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الحضن أرحب من الفضاء الكوني الكبير

الحضن أرحب من الفضاء الكوني الكبير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 10 نوفمبر 202201:25 م

رغم أن الشوارع شبه خالية من البشر والدواب بدت لي ضيقة. البيوت تميل نحوي فأشعر بالضيق أكثر. أمشي عدة كيلومترات أخرى. خطوات أشبه بالركض، ولا هدف أصل إليه أو ملجأ يحويني في النهاية.

بالصدفة، أجد صديقي القديم، هو صيدلاني وظروف عمله تجبره على مواصلة العمل خاصة في أوائل فترة انتشار فايروس كورونا والحظر.

يتبع التعليمات، حيث السلام من بعيد، قبضة يد تخبط قبضة يد أخرى. غير أنني كنت في حاجة لحضن، حتى ولو كان عابراً. لذا لم أتراجع في أن أرتمي بحضنه.

بالطبع، دُهش صديقي، ربما لأنني لم أفلت حضنه، أو لبكائي العنيف فجأة ودون مبرر.

بلا مبرر بالنسبة له. أما أنا، فقد كانت لدي مبرراتي. لم يكن الأمر يتعلق به من الأساس أو من ابتعاد أحدنا عن الآخر منذ عدة أشهر. كان الأمر يتعلق بي، كنتُ عالقاً ولا أزال في أزمة كبرى. أزمة افتقدت فيها للحضن. لحضن صوفي على الأخص. وهو الحضن الأكثر رحباً وعطفاً في هذا العالم.

للأحضان مذاق ورائحة، هذا ما تربيت عليه.

للأحضان مذاق ورائحة، هذا ما تربيت عليه. أذكر مثلاً حضن جدتي، رائحة صابون النابلسي الشهير الممتزج برائحة عرقها، أدوية وبقايا طعام، لعل البهارات كانت أبرزها وأزكاها. هذا الخليط العجيب مع جسدها المترهل ككيس قطن هو العالم الآمن بالنسبة لي.

ولكن، هذا الحضن افتقدته حين رحلت عن عالمنا. وقتذاك، كانت المُغسلة بالداخل تغسل الجسد البدين بالماء والصابون، وتحشر القطن بأذنيها وأنفها. وأنا أراقبهم من خلف الباب. وقتها أيضاً، نُزعت روحي مني وطارت لتدثر بجسد الجدة.

لم يعوضني عن حضنها غير حضن أبي، ولأبي كذلك رائحته المميزة. هي رائحة الرجولة مختلطة بتبغه الرخيص. تلك الرائحة ظلت تلازم أنفي لسنوات طويلة، حتى بعد رحيله هو الآخر.

أما حضن أمي فهو ابن الأزمات بامتياز، وابن الفرح أيضاً. هو الحضن الذي يتسع لفرحتي وقت الانتصارات الكبيرة والصغيرة، وهو الملجأ أوقات الشدة، وما أكثرها.

ومع ذلك، تبقى بعض الأحضان حاضرة في الذاكرة بقوة، ليست ذاكرة الدماغ فحسب، ولكن ذاكرة الجسد أيضاً. أعتقد أن للأعضاء ذاكرة خاصة بها، تظهر عند الحاجة.

لم يعوضني عن حضنها غير حضن أبي، ولأبي كذلك رائحته المميزة. هي رائحة الرجولة مختلطة بتبغه الرخيص. تلك الرائحة ظلت تلازم أنفي لسنوات طويلة، حتى بعد رحيله هو الآخر

مثلاً، حين انفصلت عن حبي الأول، تلك الصدمة التي تترك بصمتها في القلب والروح، كيف لمراهق أن يستوعبها؟ كان حضن أمي علاجاً فعالاً وسريعاً كسحر أو تعويذة قادرة على استخراج الألم، بل محوه تماماً.

يبدو أن للحضن عدة مزايا أو وظائف من وجهة نظري، فـهناك حضن الأصدقاء وقت الفرح، أو عند الإصابة بمكروه أو لإظهار التعاطف والتضامن.

والحضن العاطفي، الاحتواء، حين يكون حضن الحبيب أصدق من كل عبارات الغزل، لعله الفعل الأصدق لتمرير المشاعر الصافية والحقيقية بين طرفين.

لهذا، ليس من الغريب أن نتشارك كبشر وحيوانات في هذا الفعل، إنها اللغة العالمية للعالم بمفهومه الواسع. يمكن أن نستشف جمال هذا الفعل حين نراقب حيواناً مفترساً يحتضن صغاره أو رفيقته. إنه فعل غريزي بلا شك. دفقة من العاطفة تتسرب إلى داخلنا كـتيار كهربائي هادئ ومؤثر حتى على الكائنات القاسية.

ولكن، تبقى أجمل الأحضان على الإطلاق، حضن الأبناء، حيث يتحول الحضن إلى ترجمة معبرة عن مشاعرنا ناحيتهم.

ليس من الغريب أن نتشارك كبشر وحيوانات في هذا الفعل، إنها اللغة العالمية للعالم بمفهومه الواسع. يمكن أن نستشف جمال هذا الفعل حين نراقب حيواناً مفترساً يحتضن صغاره أو رفيقته

نستقبلهم منذ يومهم الأول بالأحضان والقُبلات. الآن، وأنا أكتب هذه المقالة، تضرب في أنفي رائحة رين، ابنتي الكبرى، حين كانت رضيعة، الحفاضات ومساحيق البشرة والعرق الطفولي.

أذكر أنني في الفترة تلك فقدت حاسة الشم لعدة أيام بسبب الإفراط الزائد في استخدام عقار الأوتريفين. وهو ما كاد يصيبني بالجنون، ليس بسبب الطعام الذي ضاع مذاقه، ولا الجنس الذي أصبح باهتاً، ولا خوفي من حاسة أساسية لا يمكن العيش دونها، بل كان سبب جنوني الحقيقي أنني فقدت رائحة رين وحضنها.

حين كبرت الأسرة قليلاً، وجاء ضيف آخر – مروان - عرفنا معه الحضن العائلي. الحضن الداعم لكل أفراد الأسرة. حضن عند الضيق وآخر وقت البهجة وثالث بلا مبرر. حضن من أجل الحضن.

 تبقى أجمل الأحضان على الإطلاق، حضن الأبناء، حيث يتحول الحضن إلى ترجمة معبرة عن مشاعرنا ناحيتهم.

ولكن، مع حضور صوفي – وهي أصغر أطفالي- عدتُ معها للحضن الذي تنتهي عنده كل الأوجاع، حتى أن كثيراً ما كانت تقول زوجتي السابقة حين تراني مهموماً: "احضن صوفي".

لا أعرف كيف لهذه الصغيرة أن تجمع بين ضلوعها حنان الجدة وعطف الأم وطمأنينة الأب واحتواء الأصدقاء ومحبة الأحباب بمنتهى البراءة والتلقائية.

هذا الحضن الذي لم يعوضني عنه أي حضن آخر، ولم أتمكن من استبداله بأي شيء آخر، لا صديق ولا أم ولا حبيب، هو الحضن الذي كنتُ أبحث عنه في الشوارع والطرق وعند النوم والاستيقاظ. حضن صوفي الذي يسع العالم ولا يسعه العالم. وهو أرحب من الفضاء الكوني الكبير.

أجل! هجرت أسرتي حين أيقنت أن حضن زوجتي قد هجرني بالفعل. ورغم ذلك، لم أتمنَّ غير حضن عائلي أخير، حضن للأبناء، به أحيا وإليه ألجأ، كأمنية أخيرة.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard