شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ستبقى النساء يتوارثن الخوف إلا أن تأتي بطلة تحرر السلالة

ستبقى النساء يتوارثن الخوف إلا أن تأتي بطلة تحرر السلالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 3 نوفمبر 202210:43 ص
Read in English:

In desperate need for a heroine to disrupt women’s cycles of fear

يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.

عندما كان عمر ابنتي الكبرى شمس خمس سنوات تقريباً، جلسنا نتناول الطعام معاً في إحدى مولات إمارة أبو ظبي، بينما كانت هي تشكو لي عن علاقتها الاجتماعية المعقدة في الروضة، وأمطرها أنا بحلول من تجاربي لما تمر به. وفجأة صرخت شمس في منتصف صالة الطعام المكتظة بالناس، "ماما، أنت لا تفهمين الحياة"، طبعاً باللغة الانجليزية لتعم الفضيحة أكثر ويفهمها الناس من كل الأجناس والأعراق!

ضحكت هنا من كل قلبي، ولكني غصصت أيضاً. فأنا أعرف أن شمس لديها حق فيما تقوله، وأنه لو كان هناك اختبار عن فهم الحياة تجريه الأم قبل إقبالها على الإنجاب لما كنت قد أنجبت يوماً. أنا شخصياً كنت قد تأقلمت مع هذه الحقيقة لثلاثة عقود بكل أريحية، لا بل وأقنعت نفسي أن كل الناس مثلي لا تفهم الحياة، ولكنهم ببساطة أشطر مني في التمويه. لكن الآن بوجود شمس، شعرت فجأة أنني بحاجة إلى إجابات قاطعة وقرارات حاسمة ومواقف واضحة من معظم المسائل التي أتقنت تناسيها! 

لو كان هناك اختبار عن فهم الحياة تجريه الأم قبل إقبالها على الإنجاب لما كنت قد أنجبت يوماً.

طبعاً، الحاجة إلى الإجابات شيء والحصول عليها أمر آخر! فالأمر حقاً ليس بهذه البساطة. كيف لي أن أفسر لها ما لم أستطع تفسيره لنفسي؟ كيف لي أن أفسر لها أن الله يختار الأماني التي سيحققها والدعاء الذي سيستجيب له؟ لكننا نتمنى وندعوه بجميع الأحوال، والكبار لا يعرفون دائماً القرار الصائب، لكنهم يختارون على أية حال، والحياة ستنتهي حتماً يوماً ما، لكننا ننجب أطفالنا إليها رغم هذه الحقيقة. 

 حتى هذه اللحظة، لا تعرف شمس - 8 سنوات - الكثير عن الأديان، فكل مرة حاولت فيها أن أنتقي لنفسي إلهاً أعبده، تزاحمت الآلهة في رأسي لأطردها جميعاً. لذا، تجنبت الحديث عن الأمر. وعندما تمطرني شمس بأسئلتها الوجودية عن العالم وبداياته ونهاياته، أفسر لها القائمة العريضة من نظريات التكوين. فأقول العلم يقول كذا، والدين يقول كذا، أما أنا فصدقاً لا أعرف أياً منها هو الصحيح، أنت ما رأيك؟ طبعاً، لا أريد أن أفرض عليها إجابات لست متأكدة من مدى صحتها، لكني أيضاً أخشى أن يفوتها بسبب ترددي الدائم سحر الخلق وسر الوجود. 

أذكر مرة عندما كنا قد عدنا إلى الأردن من أستراليا بعد غياب، سمعت شمس صوت الأذان لأول مرة، قالت: "ماما، ماذا يغني؟" أجبتها: "هذا ليس غناء يا حبيبتي، إنه ينادي الناس للصلاة".

سألتني: "وما هي الصلاة؟" فأجبتها: "أن تغمضي عينيك وتتمني شيئاً". أغمضت شمس عينيها حينها. وعندما فتحتهما، قالت: "لقد تمنيت pancakes تسقط من السماء على رأسي"! 

لكن بعد أشهر قليلة، استيقظت شمس من النوم لتعلن أن الله قد مات. سألتها: "لماذا يا نيتشه؟" قالت: "لقد تمنيت أن أستيقظ كبيرة، وأمنيتي لم تتحقق"!

حتى هذه اللحظة، لا تعرف شمس - 8 سنوات - الكثير عن الأديان، فكل مرة حاولت فيها أن أنتقي لنفسي إلهاً أعبده، تزاحمت الآلهة في رأسي لأطردها جميعاً

أذكر مرة كنت أوصل شمس إلى المدرسة، فصرخت فجأة من الكرسي الخلفي في السيارة: "ماما! أعرف من هو الله!" قلت: "حقاً! من هو؟" سألت وأنا متمنية صدقاً هنا أن يكون الله قد ألهمها بإجابة تكون صالحة لها ولي أيضاَ. 

قالت: "لا بد أنه الملك!" طبعاً هنا أنا توترت ودعست بريك مفاجىء، أكملت هي كلامها قائلة: "المعلمة قالت إن الله خلق كل شيء، وإن الملك صنع كل ما نتمتع به اليوم، إذاً الملك هو الله!" ضحكت من الداخل على هذا الاستنتاج المنطقي جداً، لكني تجنبت أن أظهر ابتسامتي، حتى لا تكرر شمس ما قالته في المدرسة أو في الحديقة، فهذه مجازفة لا يستهان بها! 

لا تعرف بناتي الكثير عن أصولهن الفلسطينية أيضاً، فأنا أخشى أن أثقلهن بالإرث النضالي الشائك الذي أعرف أنهن أصغر من أن يغيرن في مساره شيئاً، وإن كنت أخشى أيضاً أن يكبرن مفرغات من الهوية لا يعرفن أغاني فرقة العاشقين، والفرق بين الكشك والكشكة، وأن لديهم بلداً كان من المفترض أن يحتضنهن لولا أن ضاقت به الخريطة! 

سألتني: "وما هي الصلاة؟" فأجبتها: "أن تغمضي عينيك وتتمني شيئاً". أغمضت شمس عينيها حينها. وعندما فتحتهما، قالت: "لقد تمنيت pancakes تسقط من السماء على رأسي"! 

 أما عن البلد الذي كبرت فيه ماما، وهو الأردن، فلا تعرف بناتي منه إلا شهر الإجازة في الصيف، حيث العائلة والمرح اللانهائي، والسماح لهن بما منعته عنهن طوال السنة كالسهر والشوكولا! لا تعرف بناتي أن عائلتهن هذه مشتتة في كل أنحاء الكرة الأرضية، وأننا نلتقي في الأردن فقط شهراً في السنة لأنه المكان الوحيد القادر على احتضان جوازات سفرنا الكئيبة. لا تعرف بناتي لمَ اخترنا أن نترك الأردن، ولا لم لا تسمح لهن ماما بالذهاب إلى الدكانة لوحدهن، ولا يعرفن لم شوارع بلدهن سيئة وقذرة لهذا الحد، ولم يصرخ ذلك الرجل في وسط الشارع بالمارة بينما يضرب آخر أو يبصق على الأرض ما ابتلعه هو من ألم على مر العصور! لا يعرفن شيء عن المتحرشين، وجرائم الشرف، والفساد المالي وتاريخ عائلتهن المعقد! 

يبدو لي أني اخترت أن أترك ابنتي شمس وأختها دون إجابات، وأن أتركها تعيش في فقاعة الطفولة إلا أن يفقأها لها أحدهم أو تفقأها هي بنفسها، فأنا لا أمتلك الجرأة الكافية لأفقأها لها بنفسي. 

في مرة كنت أوصل شمس إلى المدرسة، فصرخت فجأة من الكرسي الخلفي في السيارة: "ماما! أعرف من هو الله!" قلت: "حقاً! من هو؟" سألت وأنا متمنية صدقاً هنا أن يكون الله قد ألهمها بإجابة تكون صالحة لها ولي أيضاَ. قالت: "لا بد أنه الملك!"

بعد انتهاء حفل عيد ميلاد شمس السابع، أو بالأحرى "عرس عيد ميلادها"! كما تجري العادة في دبي، حجز وقاعة وديكور وكيك وهدايا وفستان وخلافه، نامت شمس. لكنها قبل أن تغفو، سألتني إن كانت قد لعبت مع الجميع، فسألتها لمَ تسألين؟ قالت: "حمدان" - و هو طبعاً أهم المدعوين- قال أنها لم تلعب معه و لذلك فهو مستاء و لن يبقى صديقها. هنا طبعاً، اجتررت أنا حرفياً خلاصة تجاربي العاطفية الفاشلة على مر العصور، وقلت: "شمس، حمدان لا يمكنه أن يكون صديقك يوم ثم يصبح غريباً". إن كان هذا ما يريده قولي له نحن لسنا أصدقاء للأبد. استغربت شمس من نبرتي الحادة، وكأني أخذت الموضوع بشكل شخصي وأردت من شمس أن تنصر لكل هزائمي. ولتعذبني أكثر جاء ردها المفاجئ: "لكن ماما، أنا أعطيته كل شيء!" هنا أنا نسيت كل ما في رأسي من تحضر وانفتاح ولغة وخبرة وفجأة تحولت إلى أمي قبل 30 سنة وأجبت: "شو أعطيته بالزبط؟" نطقت شمس والدموع تملأ عيونها: "لعبة الكريستال التي أحبها، ودعوته على عيد ميلادي كما أراد!"، لم يتمالك قلبي كمية البراءة، ووجه أصبع الاتهام لعقلي كالعادة متسائلاً:" حقاً؟ مم كنت خائفاً؟".

ولتعذبني أكثر جاء ردها المفاجئ: "لكن ماما، أنا أعطيته كل شيء!" هنا أنا نسيت كل ما في رأسي من تحضر وانفتاح ولغة وخبرة وفجأة تحولت إلى أمي قبل 30 سنة وأجبت: "شو أعطيته بالزبط؟"

رغم أن شمس تحمل جيناتي العتيدة بكل ما فيها من أمراض وراثية وصدمات نفسية وتناقضات غير مبررة، إلا أن الضرورة الملحة لإنقاذ مستقبلها فاقت كل التحديات الذهنية التي يتزين بها دماغي. فكمعظم الأمهات، الشعور المختلط بين المسؤولية والذنب تجاه جلب إنسان على كوكب ضاق بمن عليه دون أي تفكير أو تحضير مسبق، فقط لأنها سنة الحياة، يطغى علي معظم الوقت. وتطغى علي أكثر رغبتي بإعداد شمس للخروج من الحلقة المفرغة التي ورثتها عن أمي، ولم أتمكن أنا من كسرها رغم كل الفرص التي كانت متاحة أمامي. 

رغم أني أعي جيداً أن الأطفال ليسوا مكباً لأحلامنا، كما أننا لسنا هالة لتوقعاتهم، إلا أن عادة الأهل عموماً أن يسقطوا أحلامهم التي فشلوا في تحقيقها على أطفالهم، فتارة وضعتها في مدرسة فرنسية لتتقن اللغة التي لم أتقنها أنا رغم كل محاولاتي، فعادت لي مدمرة بعد سنتين من الجلوس في صف يتحدث به الجميع لغة لا تفهمها، وتارة أخرى دفعتها بكل قوة لتعلم الجمباز بعدما حرمتني مدرستي في مدينتي المحافظة من حلمي الأعظم قبل بلوغي بأيام لأني "طويلة"! كون ارتدائي ملابس الجمباز يغري الشباب في مدرسة الذكور المقابلة! 

تقول الأسطورة أن اسم الأم سيظهر لا محالة في جلسات العلاج النفسي لاحقاً، إما لأنها قالت شيئاً أو لأنها لم تقله، إما لأنها اتخذت قراراً أو لأنها تجنبته، إما لأنها منحت أطفالها حرية زائدة وإما لأنها قيدتهم

فارق الحياة بين ما عاشته أمي في قريتها الفلسطينية الصغيرة - عرابة - عندما أخرجها عمها من المدرسة في الصف الرابع لأنه لمحها تتباهى بشعرها الطويل وتميل به يوماً، وبين ما عشته أنا ما بين خمس مدن وعشرين ألف وظيفة! وبين ما تعيشه شمس الآن في فقاعة مجتمعات دبي المسورة الأشبه بالمدينة التي تعيش فيها بطلة مسلسل الأطفال الشهير بيبا بيج! هو فارق ليس بسيطاً، لكنه في المحصلة أيضاً ليس شاسعاً. فالخوف الذي رأيته في عيني أمي يوماً وتراه شمس اليوم في عيني وألمحه أنا في مستقبلها أحياناً، ليس خوفاً مبرراً بالضرورة، بمعنى أن ليس له أسباب واضحة يمكن مواجهتها، هو خوف متوارث آت من أعماق الداخل أكثر من أي مكان آخر.

هذا لا يعني بالضرورة أن الحلقة المفرغة ستستمر إلى الأبد، فكما أوضحت بعض الدراسات أن موظف الطبقة الوسطى سينجب موظفاً وأن ابن رجل الأعمال أكثر جرأة على تأسيس شركته الخاصة حتماً، إلى أن يأتي ابن موظف شجاع ويصبح أول رجل أعمال في العائلة. ستبقى النساء في مثل عائلاتنا يتوارثن الخوف إلا أن تأتي بطلة تحرر السلالة! 

تقول الأسطورة أن اسم الأم سيظهر لا محالة في جلسات العلاج النفسي لاحقاً، إما لأنها قالت شيئاً أو لأنها لم تقله، إما لأنها اتخذت قراراً أو لأنها تجنبته، إما لأنها منحت أطفالها حرية زائدة وإما لأنها قيدتهم. لقد تصالحت مع هذه الحقيقة واخترت أن يمر اسمي مستقبلاً في جلسات العلاج النفسي على أني الأم التي لم تعط إجابة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard