شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عفرين أنموذج الهويّة المشوّهة لسوريا المستقبل

عفرين أنموذج الهويّة المشوّهة لسوريا المستقبل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 21 سبتمبر 202204:09 م

تئنّ عفرين تحت شتى أنواع الانتهاكات التي تمارسها فصائل المعارضة السورية ضد المجتمعين المحلي والوافد، وأمنهما وحياتهما، ليبدو في الصورة أن مصير هذه المدينة وساكنيها مرتبط بالمزاج الشخصي والرغبوي لقادة الفصائل الذين يتربصون شراً بالمجتمع المحلي، وتقابله خطبٌ عصماء عن التحرر والحرية والمواطنة تلجأ إليها مختلف الجهات السورية المعارضة.

وحال عفرين من حال كل سوريا التي تعاني من الجوع والفقر والعنف، لكن ما يخص تلك المدينة الوادعة أكثر من غيرها، أنهم قالوا إنها "انتقلت إلى الحرية"، وهي العبارة التي كررتها ولا تزال ألسنة المعارضة وفصائلها، في حين أن البحث والحديث حول هويّة سورية جديدة، والعيش المشترك للمكونات، وإقامة نظام سياسي قوامه المواطنة الحقوقية، إنما يصطدمان بكتلة ضخمة من الممارسات والانتهاكات التي حصلت ضد الأبرياء والحالمين بالعيش في بيوتهم سالمين، وتمسّ جذور هوية الانتماء الكردي إلى سوريا.

شهدت عفرين خلال نصف قرن، تعاقب 3 حكومات متعاكسة ومتضاربة الأهواء والسياسات، ولم تتقاطع برامجها في أي شيء ما خلا كل أشكال التعسف السياسي. ولم تنل المدينة قبل عام 2011، أي رخاء أو رفاهية في العيش الناتج عادةً عن الخدمات التي تقدّمها الحكومة، كما لم تشهد أيَّ هامش للحرية والتعبير، بل إنها كانت تعيش حصارين، الأول أسوةً بكل السوريين الذين أضناهم العيش في كنف مختلف الحكومات السورية، والثاني كونها منطقةً كرديةً حدوديةً وغنيةً، فكانت أعين الحكومة السورية تلعب دوراً مهماً في مشاركتها لأرزاق الناس، ومنعهم من إنشاء مرافق عامة حضارية مميزة كانت كفيلةً بنقل عفرين من مدينة محلية إلى مركز استقطاب سياحي إقليمي مهم، نظراً إلى ما تحتويه من مراكز حيوية من غابات، وأنهار، وبحيرات، وسدود.

 فصائل المعارضة السورية أكملت على العفرينيين طمساً وسحقاً. وكأن الغدر كُتب على أهالي هذه المدينة، ليظلوا بلا جهة تحمي هويّتهم وتصون انتماءهم ووجودهم في سوريا ذات الهويّة الجامعة

كذلك، لم ينَل المجتمع المحلي الراحة المتوخاة من سيطرة الإدارة الذاتية التي عملت على رسم مسار واحد فقط للحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية وكامل مناحي الحياة العامة تحت رايتها فحسب. ثم يأتي دور فصائل المعارضة السورية التي أكملت على العفرينيين طمساً وسحقاً. وكأن الغدر كُتب على أهالي هذه المدينة، ليظلوا بلا جهة تحمي هويّتهم وتصون انتماءهم وتحفظ وجودهم في سوريا ذات الهويّة الجامعة.

المتغيرات الرئيسية

تشكل ثلاثة تغييرات رئيسية متزامنة دوراً ضاغطاً في عفرين، أولها انتصار تركيا على قسد والإدارة الذاتية بعد معارك ضارية، مع اتخاذ حليفها العسكري، قوات التحالف، موقف المتفرج وحده، وفرض روسيا شروطاً لصالح الحكومة السورية مقابل التدخل، وفي المحصلة فإن عملية غصن الزيتون تسببت في قطع أوصال الجغرافيا التي تسيطر عليها قسد.

وثانيها، قول الفصائل إنها "حررت عفرين"، لكن ما الذي يجمع بين الحياة والحرية وسوريا الجديدة مع الخطف والقتل والقضاء على الغابات؟ فإذا كان الأمن البيئي في جغرافية سورية يخضع لمزاج تاجر من خلف الحدود يؤمّن إزالة غابات بأكملها لبيعها في الشتاء، فعن أي وطن مشترك يمكن الحديث؟ والأمن البيئي هو أحد أهم ركائز الأمن الوطني في أيّ دولة، خاصةً أن تلك الممارسات تلحق أقصى ضرر بالأمن الغذائي نتيجة ما لحق بأشجار الزيتون وبقية المزروعات، فالزراعة والثروة الحيوانية والتجارة انكمشت على نحو حاد في ظل سيطرة الفصائل ما أثّر مباشرةً على أنماط العيش السائد لدى السكان المحليين ومصادر أرزاقهم، وهو ما يلعب دوراً محورياً في الهوية والموقف منها، فتدمير الاقتصادات المحلية يعني نسف أي مفهوم للهوية نفسها.

هذان العاملان يشكلان التطور الخطير الثالث المتمثل في استعمال السلاح والقوة والبطش تجاه السكان المحليين العُزّل من دون أي تدخل حقوقي دولي أو اعتراض من منظمات إنسانية ذات وزن.

إلى قلب الصراعات

المفارقة أن هذه الرقعة الجغرافية المترامية الأطراف، تقع في بؤرة اهتمامات السياسات الخارجية التركية، والإيرانية، ودفعتها إلى هذا الموقع ثلاثة تطورات في أقل من عقد، التطور الأول: أفضت الحرب السورية إلى نشوء كيانات جغرافية أمنية هشّة لم تتحول إلى حدود سياسية رسمية، تسيطر على كل منطقة منها جهة سياسية تعادي الأخرى وتناصبها العداء، ما أدى إلى قيام جماعات مسلحة وكتائب وقوات عسكرية، ذات نفوذ سياسي متفاوت في القوة والسيطرة، وغالبيتها تقاد وتحكمها هويّات عابرة للحدود، وتتلقى أوامرها من الخارج، وكل ما تملكه هو مزيد من القمع الاجتماعي والاقتصادي، ولم تكن تركيا مستعدةً لأن تجد قوّةً عسكريةً -قسد- تتحكم بحدودها الجنوبية، ويمكن لها التأثير على التوازنات والحسابات المختلفة.

ترغب إيران في حجز موطئ قدم لها في المدينة أو في محيطها لتكون على تماس مباشر مع تركيا على حدوها الجنوبية، فضلاً عن رغبتها في خلق توازنات جديدة مقابل روسيا وتركيا والمعارضة السورية

التطور الثاني أتى نتيجة وقوف قسم كبير من السوريين إلى جانب حزب العدالة والتنمية ضد الإدارة الذاتية وهي شكلت منعطفاً حاسماً في شكل سوريا المستقبل، فإذا أخذنا في الحسبان حالة عداء شرائح سورية عديدة وعلى رأسها المعارضة وفصائلها المسلحة لهذه الإدارة، فما سبب كل الانتهاكات ضد الكرد الذين عارضوا الإدارة سابقاً، وعدم تمكن المجلس الكردي من العمل السياسي فيها؟

أما التطور الثالث، فيكمن في رغبة تركيا في تصدر مشهد اللاعبين الدوليين الخارجيين عبر الداخل، وفي أن تساهم في رسم ملامح الوطن السوري الجديد، من دون أن تخرج بلا حصة كبيرة في مجالات الاستثمار، والتجارة، وإدخال الثقافة واللغة التركيتين في أغلب مفاصل حياة السوريين، ما يمكّنها من الدخول في مقايضات البازارات الدولية التي تمنحها بعداً إقليمياً ودولياً مميزاً، في وقت ترغب إيران في حجز موطئ قدم لها في المدينة أو في محيطها لتكون على تماس مباشر مع تركيا على حدوها الجنوبية؛ وهو ما سيشكل عامل أرق لأنقرة، لقرب عفرين من مناطق نُبّل والزهراء التي تسيطر عليها إيران، فضلاً عن رغبتها في خلط الأوراق وخلق توازنات جديدة مقابل روسيا وتركيا والمعارضة السورية.

دلالات الهويّة

كذلك، تحمل الحركات والجماعات العسكرية المسلحة المسيطرة على عفرين أسماءً دينيةً، وهي دلالة هويّاتية على نوعية الانتماء وشكل الحكم. وعلى الرغم من أن السياق العام لفهم أيّ حركة إنما يبدأ من التسميات ومدلولاتها، لكن في حالات الفوضى والفقر والحروب فإن الشرائح العامة من المجتمعات والفقيرة منها على وجه خاص، تؤخر التسميات إلى الدرجة الثانية بعد الخدمات والاقتصاد والأمان، أي لا تهتم الفئات الفقيرة والمسحوقة بالتسميات في سعيها نحو حقوقها، بمقدار ما تهتم بما تقدمه من خدمات.

ستظل عفرين تشكل واجهة الهويّة السورية المزعزعة اجتماعياً وسياسياً إلى حين إيجاد حل لها، لأن تغوّل العنف فيها سيؤدي إلى الانفجار بين مكوناتها

لكن المعضلة، أن الخدمات وسُبل العيش في غالبيتها مفقودة، والعنف الممارس ضد القواعد الاجتماعية في عفرين، يشي بانتصار تلك الفصائل على السوريين المنتفضين وليس على من ظلمهم. يُضاف إلى ذلك أنها فصائل تدين كلها بالإسلام لكنها لا تبدي أي احترام لقوة المشاعر الدينية لدى المواطنين المسلمين الكرد في عفرين، ولا حقوق الأديان الأخرى من أيزيديين أو علويين وغيرهم، ولا للكرد كقومية خاصة، وتالياً هذا نسف لكل مقومات الهوية السورية عبر الظلم وفرض درجات الخمول السياسي على المدينة وريفها.

الهوية الجامعة هي تفاعل واعتماد متبادل وعلاقة بين كافة الهويّات، وشعور بالراحة والاستقرار النفسي والمعنوي والطريقة التي تستشار بها العناصر في ما بينها وتقدير الخصوصيات الفردية، وهل المنتمون إلى هذه الهوية الجامعة متمسكون بها أم لا؟

تغذية الانقسام

من يغذّي نار الهويات الفرعية وصراعها، هم القابضون على زمام الأمور والقرار السياسي والعسكري والاقتصادي؛ نتيجة الإلغاء العام. وتغذية شعور الانتماء الوطني لخصوصية أهالي عفرين يقوم على محددات ثلاث: "وظيفي، معياري، وتخيلي"، والواضح أنها كلها جاءت سلبيةً في مخيلة ونفسية وعقل أهالي عفرين، فلا فعل وظيفياً إيجابياً مقارنةً بحجم الكوارث أمام مصادرة الأرزاق، بالإضافة إلى عمليات الاعتقال والتعذيب وفقاً لمعيار الهويّة الكردية، وحينها فإن البعد التخيّلي لسوريا المستقبل مع تلك الفصائل الساعية إلى تشكيل نواة جيش سوريا المستقبل تتكون عبر الذاكرة الجمعية لأهالي عفرين وسياق سنين التعامل بينهم وبين تلك الفصائل.

لذا، ستظل عفرين تشكل واجهة الهويّة السورية المزعزعة اجتماعياً وسياسياً إلى حين إيجاد حل لها، لأن تغوّل العنف فيها سيؤدي إلى الانفجار بين مكوناتها. واستمرار رغبة أهالي عفرين في العودة إلى ديارهم يبرهن أن مشكلات مكوّن مهم من السوريين كالشعب الكردي، لا يمكن حلها أو فرضها عسكرياً، بالإضافة إلى تسبب من يمنعهم من العودة في عدم خلق كتلة بشرية قوية ومشاركتها في إدارة المدينة والدفاع عن هويّتهم.

ما تشهده عفرين حالياً من قطع للأشجار والأحراش والغابات، "لبيعها إلى تاجر تركي" يستفيد منها في فصل الشتاء، وبناء قرى ومستوطنات للنازحين على أراضي الكرد المُهجّرين، كلها انتهاكات تدينها الشرائع السماوية والقوانين الدولية، فأعوام سيطرة العسكر تُعدّ كارثةً للكرد في بناء سوريا جديدة، كما نجحت فصائل المعارضة السورية في تغيير مسار التعايش المشترك.

ووفقاً للتركيبة السكانية حالياً، فإن أهالي المدينة يشكلون النسبة الأقل من سكان المدينة بسبب تلك الانتهاكات، والتقارير الحقوقية والإعلامية تؤكد أن الجانب الأعظم من أبناء المجتمع المحلي من أهالي عفرين يعيشون في ظل قمع وقصاص رهيب، وتالياً تتحول عفرين إلى منطقة معزولة اجتماعياً واقتصادياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard