شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نوبة من الإغلاق المشدّد...

نوبة من الإغلاق المشدّد...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 11 يناير 202305:16 م

عملت بُعيد تخرجي من الجامعة عام 2003 في مؤسسة من مؤسسات الـ" NGOs التي تكاثرت في رام الله تلك الأيام، لم أكن بصراحة أعمل تماماً، كنت متطوعاً، قلت أتطوع حتى يظل اسمي في سوق العمل، ثم عندما تلوح أية فرصة بقميصها الأبيض الزاهي، ستكون الأولوية للمتطوع، وبصراحة أشد، لم أكن أريد أن أجلس في البيت، كنت خائفاً ومحبطاً من مآلات أحداث تلك الأيام.

المهم كنت متطوعاً، وأقول لأصدقاء أبي إنني أعمل، ولزملائي في الدراسة إنني منسق مشاريع في المؤسسة، وفي المؤسسة كنت متطوعاً تتوزع نظراته ببلاهة على العابرين والخارجين إلى المؤسسة، ما أكثر منسقي المشاريع في تلك الأيام، امتلأت البلاد بمؤسسات حل الصراع والديمقراطية والإصلاح، ومنسقي المشاريع، كنت أتقاضى مكافأة شهرية قيمتها 150 دولاراً، مائة أدفعها بدل إيجار البيت المفروش الذي أجبرني أصدقائي على السكن فيه، وخمسون دولاراً بالإضافة إلى المصروف الذي واظبت على طلبه من الوالد المتذمر أشتري فيه سجائر وطعاماً ومواصلات وبطاقات رصيد للهاتف المحمول...

كان أهم شيء بالنسبة لي أن أستيقظ صباحاً، أذهب إلى العمل، وأعود في نهاية اليوم، مرات كنت أذهب مشياً إذا ما تكفلت سيارة المؤسسة بنقلي ذهاباً إياباً، ومرات أستقل التاكسي بينما يتبادل عبدالباسط عبد الصمد وفيروز احتلال الآذان في الصباحات الباكرة.

كنت متطوعاً، وأقول لأصدقاء أبي إنني أعمل، ولزملائي في الدراسة إنني منسق مشاريع في المؤسسة، وفي المؤسسة كنت متطوعاً تتوزع نظراته ببلاهة على العابرين والخارجين إلى المؤسسة

في العطلة الأولى، من ارتباطي مع المؤسسة، ذهبت إلى قلقيلية حتى أقضي العطلة هناك، وأتباهى أمامهم بنجاحي في الحصول على ربع وظيفة، كانت المدينة مغلقة أصلاً، لكن ثمة فرقاً بين إغلاق وإغلاق، المسألة تشبه طبقة دنيا من جهنم، وأخرى عليا، أنت تختار أيأً منهما أشد قسوة، فجأة، شدد الجيش الإغلاق، يعني فرض إغلاقاً فوق الإغلاق السائد، اشتبه الجيش أيامها بشيء ما سيحدث في المدينة فأغلقها بالكامل، صرنا نحسد العصافير التي تطير، والفئران التي تدخل الجحور من هنا، وتخرج من هناك، والكلاب التي تتمختر وهي تقطع الحاجز دون أن يوقفها جنود يمثّلون الصرامة، ويتفلتون بالضحك حين يأتمنون خلف الدروع والحجارة العالية، طيب، كيف أعود إلى "ربع الوظيفة" التي قبضت عليها بالمخالب والأسنان؟

قادني دعاء أمي إلى أن أخرج من المدينة بتقرير طبي أشار لي أصدقاء بضرورة استخراجه من أحد المراكز الطبية، ثم ستتكفل سيارة إسعاف بالأمر. المهم كانت وظيفة سيارة الإسعاف أن تخرجني من المدينة فقط، وتنزلني عند أول قرية بعدها، وهناك، ستقلني سيارة نقل ركاب إلى قرية دير بلوط قضاء سلفيت، ثم إلى رام الله، المهم أن نخرج من قلقيلية، ثم سيتولاني المولى برحمته.

قادني دعاء أمي إلى أن أخرج من المدينة بتقرير طبي أشار لي أصدقاء بضرورة استخراجه من أحد المراكز الطبية، ثم ستتكفل سيارة إسعاف بالأمر. المهم كانت وظيفة سيارة الإسعاف أن تخرجني من المدينة فقط، وتنزلني عند أول قرية بعدها

ذهبت إلى المركز الصحي، دفعت عشرين شيكلاً، وأخذت الورقة، لم أنظر في الورقة، لم أعرف ما كتبه الطبيب هناك، المهم أن الورقة تقول إنني مريض، ومختومة بالحبر الأزرق، لا يهم إن كنت أعاني من الزكام، أم حاملاً بتوأم، أو مصاباً بمرض التصلب اللويحي. المهم أن أخرج، من فضاء مدينة مغلقة، إلى فضاء مدينة مغلقة أخرى.

سألنا سائق المركبة أنا وسيدتين حاملين وشخصاً لديه كسور في يديه وقدمه: لديكم تقارير طبية؟

قلنا كلنا: نعم!

قال السائق مؤكداً: انتبهوا، الجنود لا يسمحون لأحد بالتحرك إلا بتقارير طبية، طلب منا أن نريه التقارير، فرفعناها ملوحين.

تحركت السيارة إلى رام الله على وقع أغنية شفيق كبها رحمه الله: " لا لا تنسانا يا أغلى الحباب لا لا تنسانا لا تطول الغياب، خليلك باب، والله اشتقنالك. والله كرمالك زيّنا البواب.. إلخ". أثارت الأغنية شعوراً بالشوق لشيء لا أعرفه، ربما لأن الخروج من المدينة يشي بعودة غير مؤكدة، يقول لك إنك لن تعود إن ذهبت، وإن عدت لن تذهب، وهكذا، لا شيء مؤكداً، الشوارع فارغة، إلا من مدرعات وعربات عسكرية إسرائيلية تتحرك بغضب وخوف في الشوارع، سلكنا طريقاً جانبياً، وفجأة، حاصرتنا مركبتان وأطلقتا أبواق الإنذار علينا، طلب الجنود من السائق أن يصطف إلى جانب الطريق، وبينما كان السائق يفعل، قال لنا بجدية كبيرة: "مثّلوا أنكم مرضى جداً".

تحركت السيارة إلى رام الله على وقع أغنية شفيق كبها رحمه الله: " لا لا تنسانا يا أغلى الحباب لا لا تنسانا لا تطول الغياب، خليلك باب، والله اشتقنالك. والله كرمالك زيّنا البواب..

نظرت في السيارة حولي، كانت السيدتان شاحبتين، ورجل تقول جبائر يديه وقدمه إنه مريض أصلاً دون توضيح، وأنا؟ ماذا أفعل الآن؟

أعدت رأسي إلى الوراء، ومددت جسمي وقدميّ أمامي، وكأنني نائم على المقعد وبدأت أقول بشكل مسرحيّ: آآآآخ يا راسي، تحول منظر المركبة من الداخل في هذه اللحظة مثل تلك الغرف التي يقدمونها على عجل في أفلام الحروب العالمية لمصابين بشكل عشوائي، أنا أئن من الآلام، وانتابت إحدى السيدتين نوبة بكاء لا أعرف لماذا، بينما هرب الرجل صاحب الجبائر إلى النظر من النافذة إلى الخارج وكأن الأمر لا يعنيه، فتح الجندي الباب بقسوة، وأشهر سلاحه في وجوهنا، وأنا أضع يدي على رأسي وأمطّ جسمي أمام المقعد، وأئنّ: آآآخ يا راسي، تذكرت لحظتها التقرير، وتذكرت أنني لا أعرف ماذا كتب الطبيب فيه، فاستدركت الأمر ووضعت يدي الثانية على بطني، من باب أنني أحيط بكل الآلام الممكنة التي قد تكون مكتوبة في التقرير.

طلب منا الجندي الخروج من المركبة، وبينما كنت أهم بالمغادرة، ارتطم رأسي بأعلى باب السيارة، أعترف الآن أنه كان ارتطاماً عنيفاً، لدرجة أحسست أنني على وشك أن يغمى عليّ، فتعثرت قدمي وألقيت بنفسي خارج السيارة إلى الشارع دافعاً السيدة الحامل التي بدورها أخذت معها الجندي الذي كاد أن يقع على الأرض.

ولأنني فنان في الضحك في أكثر المواقف إرعاباً وإرباكاً، تملكتني نوبة ضحك، حافظت خلالها من شدة الخوف على وجه متماسك الملامح وكتف تصعد وكتف تهبط ووجه يكاد يتفجر بالاحمرار والدم، علمتني أمي مرة، مهارة أن أنظر إلى أصابع يدي حين يحدث لي ذلك، أبي كان يكره الضحك الذي بلا سبب، والذي يعتبره أعلى درجات قلة أدب، لكن الضحك أمام أبي، لم يكن كالضحك أمام الجنود، ولما لم تفلح طريقة أمي، مثلت أنني أبكي من شدة الآلام، هنالك شعرة ضئيلة تفصل بين نوبات الضحك والبكاء، جلست على تلك الشعرة الضئيلة أتمرجح على حظي ألا يكتشف أمري.

طلب الجندي منا بطاقات الهوية وتقاريرنا الطبية، وأخذ يقرأ كل تقرير وينادي باسم صاحبه. وعندما جاء دوري، ذهبت أبدل يديّ بين رأسي وبطني من باب الاحتياط، وأمثل أنني لا أستطيع الوقوف، وأقدّم قدماً أمام قدم.

نظر الجندي في وجهي، وأعطاني بطاقة الهوية وتقريري الطبي، وبإشارة صغيرة جداً بزاوية عينه أمرني بالعودة إلى المركبة، جلست أقرأ التقرير للمرة الأولى، وكان مكتوباً فيه: "المريض المذكور اسمه أعلاه يعاني، من نوبات صرع شديدة، وينصح بنقله إلى مشفى رام الله الحكومي لاستكمال العلاج".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard