شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"ليلى" أوقفت "مشروعها"... لأن الحلول الرومنسية لن "تهدم المدينة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 سبتمبر 202201:52 م

قبل عشر سنوات تقريباً، كان كل شيء على "دستوبيته"، أقل ظلاميةً وأكثر زخماً مما هو عليه الآن، إذ يجب ﻷحد ما أن يؤرخ لما حصل آنذاك، وتجب علينا مراجعة الدروس المستفادة لكل الأحداث. كانت التغييرات الكبرى لدى الشعوب مرفقةً دائماً بأغنيات كانت في غالبيتها أغنيات بسيطة اللفظ والمعنى، تنطق بلسان حال الناس.

في عالمنا العربي، الموسيقى وأدواتها التعبيرية أذنت أيضاً ببدء خروج الليبرالية من الاجتماعات المغلقة، لتصير "مانيفيستو" علنياً، له ملامحه، حتى قبل بدء الحراكات الشعبية العربية في عام 2011، ومشروع ليلى كان أحد أوجه هذا الإشهار وهي الفرقة التي بدأت عام 2008، بمصادفة سعيدة برأيي، وغير مخطط لها مسبقاً، جمعت كلاً من حامد سنّو كمغنٍّ، وهايك بابازيان على الكمان، وأميّة ملاعب على الكيبورد، وكارل جرجس على اﻹيقاع، وفراس أبو فخر وأندريه شديد على الغيتار، وإبراهيم بدر على الـ"bass".

مشروع محتوى

لم تفلت الأغاني العربية من مقصّ الرقيب وتوجيهاته كأي شيء آخر، ليصير الإنتاج الموسيقي مقتصراً على ما تعرضه قنوات "ميلودي" و"مزيكا" ﻷعمال موسيقية تتراوح بين الجيد والرديء، لكن القاسم المشترك بين معظمها كان التجارة والربح.

لم تكن لدى الرقيب نفسه، ولا حتى لدى المؤسسات الدينية، مشكلة مع عمرو دياب وهو يغنّي وحوله عشرون راقصةً في ملابس تعدّها هذه المؤسسات "فاضحةً"، كـ"شهريار"، ﻷنه "الهضبة" وﻷنه مشروع تجاري ناجح، ويعضد هيمنة "الذكر الأكبر" على النساء والحياة ككل.

المشهد البديل للموسيقى، كان جرعة الحقيقة الأولى في الموسيقى العربية، والتي أكدت أن التغيير ومجابهة التحديات أهم بكثير من صدمات كاظم الساهر العاطفية، ومن "جمهورية قلب" محمد إسكندر المهينة للمرأة

بعيداً عن هذا وذاك، شهدت الموسيقى العربية استيقاظةً بدأت تستبدل المحتويات المستهلكة لـ"مطربي ومطربات السوق"، بخطاب عادي لحياتنا العادية، يطرح الأسئلة ويواكب تطلعات الشارع ولو بخجل، من دون بلاهة قصص العشق السطحية التي كانت المحتوى شبه الأوحد.

المشهد البديل للموسيقى، شهد ولادةً زاخمةً في آخر العشرية الأولى من هذا القرن، وكان بالنسبة إليّ وإلى الكثيرين جرعة الحقيقة الأولى في الموسيقى العربية، والتي أكدت لي أن التغيير ومجابهة التحديات أهم بكثير من صدمات كاظم الساهر العاطفية، على جمال بعضها، ومن "جمهورية قلب" محمد إسكندر المهينة للمرأة، ومن هرمونات فارس كرم التحرشية الخادشة للحياء.

شخصياً، بدأت الموسيقى العربية البديلة تشعرني بأنني أنتمي إلى ما أسمع، وأنسى رغبتي العارمة في "حرق جميع مدننا" و"تعمير مدن أشرف"، ساهمت في تهذيب البلاهة وحاجة العنف المتراكمة، وتحسين نظرتي إلى مفهوم الجدوى.

موسيقى "مشروع ليلى"، كانت وبشكل خاص جسري وجسر شريحة كبيرة لـ"شم الياسمين"، ومحاولة التواصل مع "رقصة ليلى"، أو أي امرأة أخرى من دون "تجريصها" وانتقادها، وهي التي أخبرتنا بأن "اللتلتة" على الآخرين فعل مشين، وأن "الحلول قد تكون رومنسيةً" وأن "كسرة القطاع الخاص" قادمة، وأن استئثار المتنفذين بحياتنا سيولّي، إذا فهمنا "ليش مكشر" هذا الزمن في وجوهنا، وأن الحل في رفض ممارسات "معاليه"، وتطبيع علاقتنا مع أجسادنا وميولاتنا وأحلامنا في أوطاننا.

مشروع موسيقي

القالب التقليدي للموسيقى العربية، كان مهيمناً حتى نهاية الألفية الماضية، وكان يحتاج إلى قدرات إنتاجية وفنية ضخمة، من دون أي مضمون أو رسالة واضحة. كان لا بد من تحطيمه في مكان ما.

هيكلية تشكيل الأغنية العربية كانت محكومةً بشركات الإنتاج وجشعها، ويمكن أن تُختصر بكلمات شعرية يكتبها "شاعر" مرموق، يتم تمريرها إلى ملحن "شاطر"، يؤلف لها لحناً مناسباً، ثم يتم تحويلها إلى موزّع خبير، يكون فيها المطرب أو المطربة صندوق موسيقى، يؤدي فقط ما يُطلب منه لدواعٍ تسويقية تحافظ على صورة النجم أو النجمة المؤدّية، كمن يجمع بنطالاً وسترةً وحذاءً ليشارك في حفل عشاء.

كان مشروع ليلى وأخواتها من الفرق، خرقاً في جدار التكرار، إذ صار في الإمكان عدّ الأغنية عملاً فنياً متكاملاً، صاغه جهد فردي أو جماعي فني متجانس في توجهه ورسائله

إلى أن كان مشروع ليلى وأخواتها من الفرق في لبنان وسوريا ومصر والمغرب العربي وغيرها من البلدان، خرقاً في جدار التكرار، إذ صار في الإمكان عدّ الأغنية عملاً فنياً متكاملاً، صاغه جهد فردي أو جماعي فني متجانس في توجهه ورسائله.

يكفي أن أسمع "سولو" الكمان، من هايك بابازيان في أغاني مشروع ليلى حتى عرف أنني لا أحتاج إلى الكثير من الآلات كي أنتشي موسيقياً، ويكفي التماهي مع غناء حامد سنّو وصوته الفريد الكاسر لقالب الصوت "الرجولي" الصدّاح، الذي كان الياس الرحباني يفضّله في برنامج "سوبر ستار"، ليتملّكني الطرب. كانت غالبية أغاني مشروع ليلى، حانيةً على الأذن، شديدةً على الحس، كجرعة حريرية مركزة "مينمالية" من القوة الناعمة، تهدم كي تبني.

أنا وليلى ومشروعها وبيروت

في حيّزي الشخصي، أريد أن أسرد باختصار تجربتي مع "مشروع ليلى"، إذ أظن أن الكثيرين شاطروني إياها في أحد الجوانب على الأقل، فبعد أن كنت مستمعاً مخلصاً للفرقة في حلب حيث كنت أسكن، وكانت سمّاعة الأذن خاصتي زاخرةً بهم وبأمثالهم دائماً، تبث في نفسي الرضا والنشوة، انتقلت للعيش في بيروت مطلع عام 2012، بعد أن طردتني سوريا بكل الآمال التي لم تتحقق، وكمية الوحشية التي نهشت أي وعد بتحسين بطانة وطني.

سمّاعة الأذن رافقتني أيضاً في بيروت، وكان عمران بيروت ومشروع ليلى وطموحي في بدء حياة جديدة، أصحابي في رحلتي اليومية من الدورة إلى الحمرا، وأنا أتوجه إلى عملي الأول في لبنان كمهندس معماري. كان ميناء بيروت النشط يرسم إيقاع الطريق الصباحي ويرافق "رقصة ليلى"، وأنا أتنفس هواء المدينة المنعش في أول الربيع، لا يعكره سوى كيلومتر واحد من رائحة القمامة في منطقة الكارنتينا.

كانت بيروت شاهقة الجمال في تلك الأيام. جئت إليها مع حبيبتي آنذاك بعد أن هربنا معاً من سوريا، وكان كلانا من محبي "مشروع ليلى" وموسيقاهم، حتى أنني في ليلة باردة، أرسلت إليها أغنية "الحل رومنسي"، كي تدعم عرضي لها بالزواج، و"قراءة فريدريش أنغلز" في سريري من دون رقيب أو حسيب. وافقت وقتها حبيبتي على الزواج مني، وشرعنا ننسج "حلنا الرومنسي"، الذي اتضح لكلينا في ما بعد أنه "غلط".

في بيروت، التقيت بأعضاء فريق "مشروع ليلى" ضمن مجموعات لأصدقاء وبشكل متفرق، بعد أن رأيت حامد سنّو كثيراً يجوب شارع الحمرا بسماعتَي أذن كبيرتين على رأسه، ونظرة غاضبة في غالبية الأوقات، لم أكن ﻷفسرها جيداً، إلى أن التقيته مرةً في حانة "مزيان" الصغيرة وأصغيت إليه؛ أدركت جيداً كم هو نفسه يحس بأن التغيير والواقع، كما كنت أفكر، "مش نافعين داخل المرطبان".

"قوم نحرق هالمدينة، ونعمر وحدة أشرف"؛ وصلت إلى درجة المانترا. كنا نرددها تندّراً في اجتماعاتنا في بيروت، والآن، والظلام يحل على سوريا ولبنان، نوقن أن الحلول الجذرية ربما، هي فقط ما صار يلزم شعوب تلك الأمكنة الحزينة

"قوم نحرق هالمدينة، ونعمر وحدة أشرف"؛ وصلت إلى درجة المانترا. كنا نرددها تندّراً في اجتماعاتنا في بيروت، وقد تم تخليقها من قبل مشروع ليلى في لا وعينا جميعاً، والآن، والظلام يحل على سوريا ولبنان، نوقن أن الحلول الجذرية ربما، هي فقط ما صار يلزم شعوب تلك الأمكنة الحزينة.

جاءتني حفلة "مشروع ليلى" عام 2018، بعد انقطاع طويل عن الشرق الأوسط، في مدينة كولونيا الألمانية، لتذكّرني بالأحمق المجنون الذي كنته في سوريا ولبنان، بعد أن كنت قد اعتقدت أن "وقاري" الذي شكّلته في أوروبا، صار مصقولاً كفايةً.

رقصت يومها بكل حماقتي التي نسيتها في هذه البلاد الباردة. رقصت ورقص آلاف الناس الذين حضروا الحفل في واحد من أكبر مسارح مدينة كولونيا الألمانية، وللمفاجأة كان القسم اﻷكبر من الجمهور من الألمان، وهنا رأيت كم صارت هذه الفرقة "عالميةً"، وأحسست بأننا لسنا وحيدين، وأن ثمة من يفهمنا كعرب، باستشراقٍ أقل.

كنت أشعر دائماً بالرضا حين أرى ردة فعل أصدقائي وصديقاتي من غير العرب، حين أسمِعهم بعضاً من منتوجات موسيقى العرب البديلة، وبشكل خاص كانت "مشروع ليلى" على رأس "قائمة التشغيل".

"ليلى" تنهي "مشروعها"

استمعت إلى الحلقة الجديدة من بودكاست "سردة" الشهير في بيروت، وكنت أستمتع بحديث ضيف الحلقة الذي كان حامد سنّو نفسه، إلى أن دهمني بإعلانه الصريح بأن أعضاء الفرقة لا يفكرون قي الاستمرار، وأن "مشروع ليلى" انتهى. كان خبراً حزيناً كحزن مدننا المتهالكة، يوازي مجازياً جفاف نهر دجلة في العراق، وجوع الأطفال والعجزة، وانقطاع الفرص عن الشباب والشابات على امتداد أوطاننا.

لا أدري من ألوم حقاً: البنية الاجتماعية الذكورية التي رفضت "كويرية" حامد سنّو؟ أم الذائقة الشعبية الموجهة للأسف، والتي تحاصر أي تجربة مختلفة؟ أم الأنظمة الثقافية العربية التي جعلت من حقوق الإنسان الفردية بعبعاً تلهو به المجتمعات "المحافظة"، على أنه الخطر الأكبر الذي يتهددها؟

لا شك في أن خسارة مشروع ليلى على المسارح، حدثت نتيجةً ﻷفعال شريرة، تضافرت كي يفشل هذا المشروع وأي مشروع آخر يهدد هرمية السلطة الذكورية العربية إجمالاً، ولكني ما زلت متأملاً في تحديثات جديدة، ورجعة عن قرار التوقف ممهورة بدعم مادي ومعنوي، ووقفة جماهيرية مع الفرقة الحلوة، تعيد "ليلى" إلى سكة "مشروعها"، وتجسّد ما قاله حامد سنّو في أغنية "معاليك": "لو ح موت مية مرة، رح عود مية مرة، مصقول الحسام".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard