شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أين المناصب المؤنثة؟ على من سرق التاء المربوطة إرجاعها

أين المناصب المؤنثة؟ على من سرق التاء المربوطة إرجاعها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الثلاثاء 23 أغسطس 202201:48 م

"أعجبُ من مرشحات تصفُ الواحدة منهن نفسها بأنها "مرشح" دائرة كذا... كيف تريدينني أن أنتخبكِ، وأنتِ لا ترين نفسَكِ؟"؛ هذا ما كتبته ذات يوم الأديبة العريقة الدكتورة زليخة أبو ريشة التي واجهت وتواجه براثن قمع حرية الرأي.

حروب تاء التأنيث والخسارات المتتالية

إن هذا النقاش بخصوص تأنيث المناصب، وصحته من عدمها، لم يُولد البارحة، بل دارت فيه الجدالات حروباً وجولات، ويؤسفني أن أضطر إلى الاعتراف بأن أهل اللغة، البطريركيين إن شئت، يكادون دوماً ينتصرون في هذا الجدال. ولذلك أسباب: فهم الأكثر علماً بآليات النحو العربي، ولديهم دهاء في المحاججة اللغوية. ومن ثم فهم يستعملون أسلوباً عبقرياً في الخداع، إذ لا يحجبون الحقيقة خلف ستار كذبة، بل يحجبون الحقيقة خلف ستارِ حقيقة مختلفة يقدرون على تقبّلها. وأريد من هذا المقال أن أقلب السحر على الساحر، وأسقط ذلك الحجاب المجازي إن شئت، وأن أخوض في الحقيقتين، السِّتَار منها والمستور، بحيث يتبين الحق أولاً، وأمنح زملائي من التقدميين الذخيرة التي يحتاجون إليها ليكسبوا هذا الجدل الذي تكاثرت خسائرهم فيه.

إن هذا النقاش بخصوص تأنيث المناصب، وصحته من عدمها، لم يُولد البارحة، بل دارت فيه الجدالات حروباً وجولات، ويؤسفني أن أضطر إلى الاعتراف بأن أهل اللغة، البطريركيين إن شئت، يكادون دوماً ينتصرون في هذا الجدال

حوار مع ذكوري

وفي سبيل ذلك، لا بد لنا من أن نتأمل: أولاً، ما هو الحقيقي في الحجاب الذي يستعمله أهل اللغة ستراً على الحق. وتعال/ ي نفعلُ ذلك عبر حوارية متخيلة، إلا أنها دارت في الواقع كثيراً.

- لماذا يجب أن تقول المرأة عن نفسها "مدير" و"نائب"؟ إن عدم وجود تأنيث للمناصب انتقاص من حق المرأة.

* ولكن هذه طبيعة نحو اللغة العربية، وهي بالمناسبة لا تؤنث بتاء التأنيث دوماً ولا تكون الكلمة مذكرةً دوماً إذا خلت منها: فكما يقال "امرأةٌ ولودٌ" وليس ولودة، يقال أيضاً "رجلٌ داهيةٌ" وليس داهياً.

- ولكن الأمر اليوم اختلف! إننا اليوم أمام نساءٍ دهاةٍ في السياسة، وبارعات في شتى مجالات الإدارة. لماذا لا يصح تأنيث ألقابهن؟

* لا يجوز لنا أن نعدّل نحو اللغة على مزاجنا، لأنه ليس مجرد مفردة، بل علامة إعرابية. ويجب أن نحترم الأنظمة النحوية لأن اللغة تُبني عليها، فإن غيّرناها من دون تأمل سوف نقعُ في في شرٍ وفتنة... بلا بلا بلا.

وهكذا غالباً ما ينتهي النقاش بانتصار الرأي التراثي.

حجاب الخداع... التأنيث الحقيقي واللفظي

إن الحجاب الذي يستر أهل اللغة وراءه نواياهم يحتوي على حقيقة، لا بد من الاعتراف بها، وهي تنقسم إلى الحقيقتين التاليتين:

أولاً: لقد فهم العرب منذ القدم أن التأنيث والتذكير بعضه حقيقيٌ (دلالي) وبعضه لفظيٌ (نحوي). مثلاً عندما تقول إن الناقة مؤنثة تأنيثاً حقيقياً فإنك تقصد أن للناقة أعضاء تناسليةً أنثويةً. وعندما تقول إن الجمل مذكرٌ تذكيراً حقيقياً، فالقصد نفسه: للجمل أعضاء تناسلية ذكرية.

ولكن أكثر التأنيث والتذكير في اللغة العربية ليس حقيقياً، بل نحوياً، مثل الشمس والقمر، والصوت والريح... إلخ. وهذه كلها لا بأس بحملها على التأنيث والتذكير (لأنه ليس حقيقياً)، ولذلك تقرأ في الحماسة لكثير بن الطائي:

يَا أَيهَا الرَّاكِب المزجي مطيته
سَائل بني أَسد ما هذه الصَّوْت؟

جعل الصوت مؤنثاً والعادة فيه التذكير، ومثل ذلك في الشعر الجاهلي كثيرٌ كثير.

ثانياً: إن تاء التأنيث علامة للتأنيث في اللغة العربية، وليست علامتها الوحيدة الجامعة المانعة، فمثلاً: كان العرب يقولون إن "المرأة حاملٌ" ويقولون أيضاً "حاملةٌ"، ولكنها إذا جُرحت يقولون "امرأة جريحٌ" ولا يقولون "جريحة".

ثالثاً، وأخيراً، وقبل أن أفنِّد الأقوال الرجعية في الموضوع:

إننا إن حاولنا تتبّع التأنيث والتذكير في اللغة العربية باحثين عن اللا مساواة، وعن احتقار المرأة، فإننا في الواقع لن نصل إلى شيء، فتخيّل مثلاً:

إن ثدي المرأة وفرجها وشبقها وغنجها ودلالها وتدلُّلها وضعفها... كلها أسماء مذكّرة!

بينما خصية الرجل ونطفته وفحولته ورجولته وكرامته وفروسيته وبطولته... كلها أسماء مؤنثة!

وهذا من باب الطرافة، ويتسبب بصداع رهيب لمتعلمي اللغة العربية من الأجانب. ولك أن تتخيل معالم الصدمة على وجوههم عندما تشرح لهم أن: "الذكورة" اسمٌ مؤنث، بينما "التأنيث" مصدرٌ مُذكَّر!

إننا إن حاولنا تتبّع التأنيث والتذكير في اللغة العربية باحثين عن اللا مساواة، وعن احتقار المرأة، فإننا في الواقع لن نصل إلى شيء، فتخيّل مثلاً: إن ثدي المرأة وفرجها وشبقها وغنجها ودلالها وتدلُّلها وضعفها... كلها أسماء مذكّرة!

تجاهل المناصب المؤنثة القديمة

إلى هنا انتهيت من تعداد ما هو حق في خطاب أهل اللغة "البطريركيين، إن شئت، مرةً أخرى"، وأستطيع الآن أن أقدّم الجدل الذي آمل بأنه يقلب الطاولة على خداعهم.

إن الحقيقة الكبرى التي يريد أصحاب الجدال الذكوري تغطيتها، هي أن المناصب المؤنثة بالتاء المربوطة كانت شائعةً جداً قديماً، ولم يرَ العرب في ذلك ما يزعج، فكانوا إذا حفظ إنسانٌ القرآن يسمونه حافظاً له، أما إن أتقن الحفظ فصار مرجعاً فيه، أسموه "حافظةً" للقرآن، ذكراً كان من يحفظ أم أنثى، ومثله "الراوية"، فالراوي هو كل من يروي أي شيء، أما "الراوية" فهو منصبٌ اجتماعي، يشبه الـapprenticeship عند الغرب، فالراوية شاعرٌ يحفظ شعر شاعرٍ آخر هو أستاذه في الشعر بشكل أو بآخر، ويروي قصائده على الناس، فكان الأعشى المشهور "راوية" خاله المسيب بن علس في الجاهلية. ومثلها "نسّابة" و"علَّامة" و"راوية" و"حافظة" و"مدّاحة" وغيرها الكثير... بل حتى "خليفة"!

لك أن تتخيل معالم الصدمة على وجوههم عندما تشرح لهم أن: "الذكورة" اسمٌ مؤنث، بينما "التأنيث" مصدرٌ مُذكَّر!

وقد اختلف النحويون في كون هذه التاء "للتأنيث" أم "للمبالغة"، ولكن من الجدير بالذكر أن اختلافهم اختلاف العلماء، وليس له، أياً كانت نتيجته، أن يَبتَّ في حقيقتها الدلالية، وعلى وجه الخصوص: حقيقتها الدلالية الحالية.

حالنا المخزي اليوم

والآن نأتي إلى السؤال الجدلي المحرج: لماذا اختفت المناصب المؤنثة؟ لماذا لا توجد في الدول العربية نسبة محترمة من المناصب المؤنثة بأصل تسميتها وبصرف النظر عن جنس من يشغلها؟ هل ربما العوام هم الذين يأنفون منها ويتصغرونها؟ لا! لو كان الأمر كذلك، لما سموا أبناءهم الذكور: أسامة، وعبيدة، وغيرهما، كما أن العوام الشعبيين هم الذين حافظوا على تأنيث القليل من المناصب، كتأنيث منصب "العمدة" الذي غالباً ما يشغله ذكر.

لماذا إذاً لم نجترح منصب "عميدة" الجامعة، مع أنه سليم لغوياً، ومفيد عملياً؟ (فهو يميز عميدة الجامعة/ الكلية، عن عمدة البلدة/ القرية، عن عميد الجيش أو الشرطة).

من هو الذي يأنفُ إذاً؟! إن الجواب محرجٌ ومخزٍ، فالذين يأنفون هم أهل اللغة الأصوليون أنفسهم، وهم بذلك يناقضون قواعد اللغة العربية التي يدّعون الاعتزاز الشديد بها. والسبب المخزي: إننا كعرب اليوم في الواقع أكثر ذكوريةً ونفوراً من تاء التأنيث مما كان عليه عرب القرن الهجري الأول!

إن المثال الأكثر وضوحاً على ذلك، هو أهل الدعوة الإسلامية، إذ يسمّى عملهم تقليدياً "داعية"، ولكنهم صاروا يأنفون من تاء التأنيث، فتجدهم يكتبون على بطاقات التعريف ومواقع التواصل "الداعي" فلان الفلاني. وإذا لم تتوقع موضة الاستعرار من تاء التأنيث هذه، فلربما قريباً نبدأ بالسماع عن "العلّام" فلان بدلاً من "العلامة"!

لماذا اختفت المناصب المؤنثة؟ لماذا لا توجد في الدول العربية نسبة محترمة من المناصب المؤنثة بأصل تسميتها وبصرف النظر عن جنس من يشغلها؟ هل ربما العوام هم الذين يأنفون منها ويتصغرونها؟

دعوة إلى استعمال هذه السردية

هذا الجدال قابل لأن يكسب هذه القضية المفتوحة منذ عقود، لأننا قادرون على أن نردَّ على من سيأنفون من تأنيث مناصبهم، فنقول: "كيف لك أن تأنف من ذلك، ولم يكن كبارُ الصحابة ورجال الدولة وعلماء الدين يأنفون من لفظ "خليفة" و"راوية" و"علامة"... إلخ؟".

إن السبيل إلى محاربة هذه الذكورية الجائرة إذاً هو تعريتها، وإظهار أنها هي المنسلخة عن تاريخها، وهذا هو فعلاً الواقع. ومن المفروغ منه أننا إذ ندعو لاستحداث مناصب مؤنثة بالتاء من أصلها، فإن هذا لا يتعارض مع مطالبتنا بوصول المزيد من النساء ذوات الكفاءات إلى مناصب مهمة. بل هما مطلبان متكاتفان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard