شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قصة دمار سرّي... قراءة في رواية

قصة دمار سرّي... قراءة في رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 1 سبتمبر 202203:12 م

أظهر الروائي المصري أحمد عبد اللطيف، في روايته الأحدث "عصور دنيال في مدينة الخيوط"، الصادرة هذه السنة عن دار العين المصرية، براعة استثنائية في كتابة عمل تجريبي هو الأكثر دهشة بين جميع ما كتب لحدّ الساعة، وليس من باب المبالغة أن يوصف بالأكثر جرأة ضمن مدوّنة الرواية العربية الجديدة الموسومة بالتجريبية.

الرواية ليست فانتازيا كما وصفتها إحدى القراءات المتناولة لها، ولا هي رواية عجائبية أيضاً، وبلا شك لا تدخل ضمن المتعارف عليه برواية الديستوبيا على غرار ما جاء في مراجعات أخرى. إنها رواية نفسانية بامتياز، تمكنت من تشريح العقل المعرض للصدمة، عارضة بأسلوب سردي مدروس ما يعرف في علم النفس بـ"إضرابات ما بعد الصدمة"، سيما ما تعلّق بابتكار "المصدوم". عوالم جديدة تختلف عن المعهود، وواقع بديل عن واقعه رغبة في التشبث بالحياة، أو بهدف الهروب من ذكرى واقعة مخيفة عاشها المصدومون.

النبي دانيال في العنوان

يبدأ الاشتغال التجريبي في الرواية من العنوان، الذي ضمّ بشكل مقصود اسم شخصية توراتية هي النبي دانيال، والذي يعدّ بحسب التقاليد المسيحية اليهودية أحد الأنبياء الأربعة الكبار، إلا أن هذا النبي تميّز عن الأربعة بثلاثة أمور: عاش في السبي (البابلي)، اهتدى في قراراته بما يراه في الأحلام، وأخيراً تميّز بصداقته المقدسة بمن يعرفون باسم "الفتيان الثلاثة".

"دانيال" رواية أحمد عبد اللطيف الذي هو أيضاً عاش السبي، لكنه سبي نفسي؛ فقد عاش حياته أسير ماضيه والصدمة التي عرفها في طفولته، كما أنه ومن خلال الرواية لم يتخذ أي قرار إلا وفق ما كان يراه من أحلام أو كوابيس، بل إن حياته لم تكن إلا سلسلة غير متناهية من الأحلام، حلم داخل حلم وكابوس داخل كابوس. وتستمرّ المطابقة بامتلاك دانيال أصدقاء "وهميين" عددهم ثلاثة: دانيال الصديق الأكبر منه سناً، إبراهيم، ودانيال الأرشيف.

عمل تجريبي هو الأكثر دهشة بين جميع ما كتب لحدّ الساعة، عمل يوصف بالأكثر جرأة من ضمن مدوّنة الرواية العربية الجديدة الموسومة بالتجريبية... رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط" للروائي أحمد عبد اللطيف

اللعب التجريبي في الرواية لم يتوقف في العنوان عند هذا الحدّ، فالجمع السريع بين "مدينة الخيوط" (العنوان)، وإهداؤه "إلى الطفل الذي كنته"، وبين الفقرة الافتتاحية للرواية "في صباح الثالث والعشرين من فبراير فتحَت الدُّمَى بيدٍ خشبيةٍ نوافذ غرفها وأبواب شرفاتها لتشاهد بعيون زجاجية لم ينقصها الصعقة والرعب عشرات الجثث الملقاة حول نافورة الميدان الرئيسي بدمٍ يطفو على ماء المطر وعيونٍ مفتوحةٍ على العدم"، سيحيلنا بلا شك للتفكير وربما الجزم بأننا بصدد الحديث عن مدينة سكانها من دمى "المريونات" تحركها خيوط متصلة بيد ما. ولأن الرواية بأحداثها المتشابكة المتداخلة، لم تكن إلا بحثاً عن الذات، نجد الروائي يستعين بمعزوفة رومانس لارجيتو لشوبان في اقتباسه الأوّلي وفي داخل العمل أيضاً.

أقسام الرواية

أوّل ما يصدمنا عند القراءة  منذ القسم الأوّل من الرواية الموسوم بـ"العصر الرابع: الأيام الأخيرة في حياة دانيال"، هو الانعدام التام لعلامات التنقيط، لا فاصلة هناك ولا نقطة توقف ولا فاصلة منقوطة ولا شرطة ولا علامة تعجب أو استفهام ولا أقواس ولا أي من إشارات الترقيم المعروفة. الملاحظة نفسها تصلح بخصوص القسم الثاني المعنون بـ"العصر الثالث: تقرير عن دانيال في الأرشيف".

ثم يكتفي الروائي في القسم الثالث من الرواية "العصر الأوّل: تقرير دنيال الخيالي عن دانيال الحقيقي أو العكس"، بإشارة ترقيم وحيدة هي النقطة، لتختفي علامات الترقيم مجدداً في القسم الرابع المعنون "العصر الثالث: دانيال في الأرشيف"، ثم في القسمين الخامس المعنون "العصر الأول: تقرير دانيال عن دانيال"، والسادس الموسوم بـ"دانيال قبل وصوله إلى الأرشيف"، تعود النقطة مجدداً كعلامة ترقيم وحيدة في النص، لتختفي مرة أخرى في القسم السابع "دانيال في الأرشيف"، وتعود للظهور في القسم الثامن "دانيال قبل الوصول إلى الأرشيف"، قبل أن تحتفي في القسم الثامن "الأيام الأخيرة في حياة دانيال"، تضاف إلى هذه الملاحظة ملاحظة لا تقلّ أهمية، وهي تعمّد الكاتب تكرار عناوين أقسام روايته بنحو يدفعنا إلى يقين لا يستقر إلا على حجر الريبة: هذا الأمر مقصود بلا شك، ولكن لمَ؟

"في صباح الثالث والعشرين من فبراير فتحَت الدُّمَى بيدٍ خشبيةٍ نوافذ غرفها وأبواب شرفاتها لتشاهد بعيون زجاجية لم ينقصها الصعقة والرعب عشرات الجثث الملقاة حول نافورة الميدان الرئيسي بدمٍ يطفو على ماء المطر وعيونٍ مفتوحةٍ على العدم"، رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط" لأحمد عبد اللطيف

القراءة المتأنية لرواية أحمد عبد اللطيف تمنح لوحدها الأجوبة المناسبة في ما يخص استغناءه في أقسام من الرواية عن علامات الترقيم، واستعانته بعلامة واحدة هي النقطة في أقسام أخرى، ولعلّ تلك الأجوبة لن تكشف عن نفسها بيُسر، بل فقط بالغوص في السرد المتداخل والمتشابك والمتكرر الذي استعان به الكاتب، وقد أحسن التماهي مع شخصية دانيال المتعددة المتراوحة بين حالتين لا ثالث لها: حالة فقدان الوعي وحالة الوعي المؤقت الآني غير الكامل.

ففي الحالة الأولى تظهر كتابة دانيال غير متأنية ومتسارعة حيث يبدو أنه يحاول مسايرة تداعي أفكاره الغريبة التي تمكن منها الواقع البديل تمكناً واضحاً، فالمدينة تقطنها دمى، وهذه الدمى تحركها خيوط متصلة بيد ما، ربما هي يد السماء أو يد السلطة أو يد الصدفة أو يد القدر. وهناك جريمة قتل جماعي لأناس دمى أيضاً، نحروا كالبهائم، ثم جُرّدوا من ملابسهم، وبُترت أعضاؤهم التناسلية لتوضع في أفواههم، وليس بينها إلا آدمي واحد لم يجرَّد من ملابسه، ولم ينحر، بل قُتل برصاصة، يحمل حقيبة بها أوراق-مخطوطة كتاب.

أفكار هستيرية  في خيالات طفل

هذه الأفكار المتداعية الهستيرية الجنونية الغارقة في خيالات طفل، لا يمكن أن يحتملها عقل سويّ، فكما تحتاج لاستيعابها والإيمان بها إلى عقل متداعٍ مصقول بالصدمة، تحتاج أيضاً لتحريرها إلى يدٍ تسايرها في الجنون والهستيرية. هي بحاجة إلى نص يعبّر عن تسارعها بحيث يحيل التريّث إلى العدم، فلا وقوف ولا توقف ولا تمهّل، نص يكفر بكل إشارات الترقيم.

رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط" عملٌ طرقَ باحترافية وقدرة هائلتين بابَ أكثر التابوهات تستراً في المجتمعات العربية، المتمثل في ظاهرة البيدوفيليا واغتصاب الأطفال

هكذا كلما استفاق بطل أحمد عبد اللطيف، الواحد والوحيد، من حالة انعدام الوعي تلك، حاول بما تبقى له من طاقة باطنة أن يحرر نفسه من صدمة الطفولة التي أحالته إلى الكائن الذي صاره، بأن يتحرر من قيد ذكرى اغتصابه طفلاً بالكتابة عنها. وهنا تصبح كل جملة يكتبها بجهدٍ ظاهر، جملةً تامة أو ربما نصاً بحد ذاته. فالذي يحرره أثناء وعيه المؤقت ليس بالنسبة إليه إلا أفكاراً مكتملة بحد ذاتها، وجملاً مستقلة عن بعضها، وهكذا باستثناء النقطة لم يعد لعلامات الترقيم في نصِّه أيُّ جدوى.

تراوح البطل دانيال بين حالتي الوعي واللاوعي، بين الخيال والحقيقة، بين الواقع والواقع البديل تظهر بجلاء في تكرر عناوين أقسام الرواية وفي استعادة الراوي للحدث نفسه في أكثر من موضع، بالإنقاص والإضافة وبالتغيير أيضاً، إننا أمام سباق حقيقي بين عمليتين متناقضتين تماماً: الكتابة من جهة والشطب من جهة أخرى، سباق في اتجاه تحرر البطل من قيود ماضيه.

صحيح أن أحمد عبد اللطيف بافتتاحية روايته، أدخل القارئ من أول فقرة في رواق غرائبي قد يوحي له أنه أمام رواية غرائبية، خاصة أن الإيهام لم يحدث فقط عن طريق الوقائع الغريبة والشخصيات الأغرب، بل بإيهامنا كقرّاء، بصدد رواية يسردها راوٍ عليم، من خلال سرد متواصل بإيقاع سريع استمر حتى الفصل السابع من القسم الأول، إلا أنه وأثناء مسار الـ280 صفحة المشكلة للرواية، قدّم عدداً هائلاً من الإشارات، ليتوقف القراء عن وهمهم ويفهموا السياق الحقيقي للرواية على أنها نصّ حرره شخص مضطرب بسبب واقعة أحدثت له صدمة، جعلته يتحاشى الحقائق كما هي، وينفر من الواقع، بل ويلقي مأساته على شخوص آخرين، هم في الحقيقة جزء لصيق به، وكأن ثمة كسراً عظيماً داخله قسمه إلى أكثر من واحد: دانيال الراوي، دانيال الطفل الشاهد على جريمة، دانيال القاتل المنتقم، إبراهيم الضحية، دانيال العامل في الأرشيف.

الإشارات التي وظفها الكاتب تقفز من النص كلّما تمعّنا في الرواية: إشارة اليد على الشرفة، الكتابة السريعة المتلهفة لدنيال الجار على شرفته، انعدام تقدير الوقت، صور الأطفال الأشقاء الموتى بألوان ملابسهم، الندبة على الخدّ، الأحلام المتكررة مع كل دنيال مع إبراهيم أيضا، الأرشيف الذي ليس إلا الذاكرة المظلمة التي لا وظيفة لها إلا إخفاء الأسرار.

رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط" لأحمد عبد اللطيف، عملٌ طرقَ باحترافية وقدرة هائلتين بابَ أكثر التابوهات تستراً في المجتمعات العربية، المتمثل في ظاهرة البيدوفيليا واغتصاب الأطفال. لكن السبق الذي خُص به كاتب هذا العمل، أن تناوله لهذه الظاهرة جاء عميقاً، انطلق فيه من الدمار النفسي الكبير الذي يصاحب كلَّ طفل مغتصب؛ دمار يترك مشاعر متناقضة في هذه الذات الملائكية، فيضيع الطفل في تحديد حقيقته: أهو ضحية عجزِه وحيوانية المُغتصب، أم هو الجاني على نفسه بالصمت وباستمراره في تقديس المُغتصب؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard