شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حين مرّر زيدان الكرة لي

حين مرّر زيدان الكرة لي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 20 أغسطس 202201:01 م

يعيش أهل بلدي


لا يمكن أن أكون ركيكاً في الركض لهذا الحد، لا يمكن لرجلي اللتين كانتا تذرعان ملاعب الريف الترابية طولاً وعرضان أن تخوناني هنا والآن.

أنا الذي لطالما تواتر منامه الجميل: "حين استدار زين الدين زيدان ومال برأسه يميناً وشمالاً، وتخلص من ثلاثة لاعبين بحركة واحدة، ثم فرش لي الطريق بتمريرة سحرية، فانطلقت كالسهم من خلف المدافعين، وسجلت هدفاً في مرمى بايرن ميونخ".

أنا من أذهل مشايخ الذكر الخارجين من مجلس عبادتهم بكرته المعلقة برجله التي تأبى السقوط، حتى أني سمعت أحدهم يتمتم: "يكون فينا خير، هذا جنّي مش طفل".

أنا تخونني رجلاي الآن، وتخونني أنفاسي؟

الخوف يضع أجنحة للنعال

كنا نسير خلف النعش بعيون مفتوحة وأصوات هادرة مع كثير من التلفت يمنة ويسرة، حين رمانا الله بحجارة من سجيل. الحقيقة أن الله بريء من تهمة رمينا بالحجارة، لأن من رمانا بها حقيقة هم أهل بلدتنا، ما دفع الكثيرين منا لتسريع الخطى وتفادي القذائف الحجرية المنهمرة علينا من السطوح. سطح وحيد سمع هتافنا، فأخرجت صاحبته يومها، كما رأيت، صينية ستانلس وبدأت تزغرد وتنثر الرز فوق رؤوسنا الهاتفة الخائفة.

أما لماذا بدأت أنفاسي تخونني، فلأن صوت الرصاص أطلق للقدمين العنان. لا مزاح مع صوت الرصاص، لا مزاح مع احتمالية الموت لحناجر تضج بالحياة، أو على الأقل هذا ما قرأته على لسان شاعر روماني اسمه فيرجيل، حين قال: "الخوف يضع أجنحة للنعال".

غيمة الدخان التي لفحت وجوهنا ما لبثت أن بدأت تتسلل نحو الرئتين، ولأكن دقيقاً أكثر، نحو القلب، فمن رماها يعلم جيداً أن قلبنا سيخاف، وأننا سنشرع بالعدو في جهات عمياء، فيسهل عليه التقاطنا فرادى، وحينها، وبعد مسافة قصيرة  من العدو، بدأت خيانة الأرجل والأنفاس .

كنا شجعاناً جداً يومها، على قاعدة أفلاطون التي كانت تقول: "الشجاعة هي أن تعرف ما لا يجب الخوف منه"، وبالنسبة لنا كانت الحرية كذلك.

كنا نسير خلف النعش بعيون مفتوحة وأصوات هادرة مع كثير من التلفت يمنة ويسرة، حين رمانا الله بحجارة من سجيل. الحقيقة أن الله بريء من تهمة رمينا بالحجارة، لأن من رمانا بها حقيقة هم أهل بلدتنا... مجاز

فرادى كنت

وفرادى كنت في بيت حجري، طبعاً ستستغربون هذه العبارة "فرادى كنت" إلا أنني أحس الآن أنها جميلة، لا من باب المجاز بل من شدة الخوف، ربما أتذكر الآن أنها تشبه إلى حد كبير عبارة رافائيل ألبرتي: "أنت في وحدتك بلد مزدحم"، فهي ليست وحدة عادية في بلد مسكون بالخوف، ومع شدة الركلات التي تلقيتها وتعدد مواضعها، "أشدها تلك التي شعرت بروحي ستخرج معها من خصيتي"، وهل تخرج الروح من الخصية؟ يفترض أن الخصية تبث ما يبعث الروح لكن هذا ما حدث.

لا أذكر بعدها سوى شعر أشيب لرجل لمني من الزاوية وقال: "اركض من هنا في الفلاحة، ستصل الشارع العام".

عدنا إلى الركض والخيانات غير المتوقعة للأرجل والأنفاس التي فعل الكحول فيها ما فعل من إغواءات تدفع ثمنها الرياضي الآن.... الثمن الرياضي ههههه. لا، هو أعمق من هذا التعبير السطحي.

ولا أعرف لماذا رن في أذني حينها صوت مدرس التربية الرياضية: "من لا يتعب من الركض هو الذي سيلعب بعد غد في المباراة".

 ويومها لم أتعب، لكني لم ألعب بل لعب أخوه مكاني. أخوه الذي تعب طبعاً. ليلتها لم يمرر لي زيدان فقط، بل حضنني مارادونا وزيكو، ورأيت تكشيرة وجه أوليفر كان حين سجلت فيه ثلاثة أهداف.

حين غدوت قاتلاً

الأمتار القليلة التي عدوت فيها آنذاك رافقها ظهور فصيل بشري "معاد"، لمحته في رأس الشارع، فدخلت أول بيت صادفني بارتجال الخائف، وعندها فقط فهمت ما تعني عبارة المجموعة القصصية التي قرأتها منذ مدة قصيرة "رائحة الخطو الثقيل"، فقد كانت أصواتهم في تلك اللحظة أكبر لحظة خوف عشتها في حياتي إلى الآن، وعندها أيقنت أن الأقوال الفلسفية التي تعلمتها في الجامعة، والتي قرأتها في متون الكتب، ودونتها على شكل قصاصات ورقية بخط قلم الرصاص الرخيص سريع العطب محيرة جداً، إذ ما الذي يمكن أن تعنيه في هذا الموقف عبارة أرسطو: "لا تخش من تقدمك ببطء بل عليك الخوف من بقائك في مكانك".

كنا شجعاناً جداً يومها، على قاعدة أفلاطون التي كانت تقول: "الشجاعة هي أن تعرف ما لا يجب الخوف منه"، وبالنسبة لنا كانت الحرية كذلك

الفصيل المعادي أمامي يخفيه عني جدار، والبقاء مكاني فيه استنزاف لطاقة الخوف القابعة داخلي، والتي يمكن لها أن تعيد تأهيل رجلي لأجري مثل أوسين بولت كي أنجو، عندها تماماً، وأنا مستند للجدار، شعرت بتلك الوخزة التي كهربت جسدي، آمرة يدي اليمنى بإسدال المقصلة على من اجتاح رقبتي المتعرقة وسحقها بإبهام وسبابة.

كانت نملة كبيرة لكنها مسحوقة بفعل خوفي المقيم الذي فعل زره النووي لقتلها، تزامن ذلك مع الشعور بالأمان الذي تسلل إليّ مع رحيل الفصيل "المعادي". نظرت إلى ما بقي من جسدها الضئيل في كفي وسألت في سري: "هل صرت قاتلاً؟".

زيدان يواصل سحره

لم أعد ليلتها إلى البيت، لأن جرحاً كبيراً في وجهي وشفتي سببته لكمات طائشة منعني من أن أواجه لهفة أبي وسعيه الحميم لتغطيتي عندما أعود ثملاً إلى البيت، لأنام كيفما اتفق، ثم إن قميصي الممزق الذي أثار حفيظة سائق التاكسي الذي نقلني بسيارته، والدم الذي بدأ ينز من شفتي، دفع نبالته للتوقف وشراء زجاجة ماء من كشك على الطريق، غسلت بها وجهي وشربت حتى ارتويت، دون أن يسألني في الطريق إلى المدينة أي سؤال.

في تلك الليلة التي بت فيها عند صديقي الذي وفر لي حماماً ساخناً ونصف ليتر من العرق مع مازة محترمة، أحسست معها أني أشرب للمرة الأولى، حين تواردت الاتصالات لي عن اعتقال العديد من العدّائين الذين شاركوا معي في أولمبياد الخوف ذاك، وتناوبني في تلك اللحظة شعوران متناقضان، أحدهما كان يقول لي، على لسان أحد العدائين السابقين، الذي همس في أذني يوماً: "حاول قدر استطاعتك ألا يوقفوك"، وأضاف بلهجة المجرب: "السجن لا يشرف أحد".

أما الشعور الثاني فكان أبطاله أولئك العدائين الذين أوقفوا وتوقفوا عن الجري، والذين لم تخنهم أرجلهم وأنفاسهم، ومع ذلك ثمة من يركلهم الآن، وثمة من يراقب، لا أنفاسهم فحسب، بل أنفاس أقربائهم وجيرانهم، ويلقي برائحة خطوه الثقيل على كل الأمكنة.

عند هذا الحد، بدأ الخدر اللذيذ يتسرب إلى جسدي بفعل عدة كؤوس تخللت كل ذلك المونولوج، وحين خلدت إلى النوم لم يتغير شيء، حيث مرر لي زيدان الكرة ووضعتها بنفس الطريقة في الشباك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard