شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
صفحة من المجموعة الشعريّة

صفحة من المجموعة الشعريّة " نُزولُ الألفة" لعلي شمس الدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 24 أغسطس 202211:00 ص

إن أغوتك الألفة

لا تُودِّعْ، لا تترك وصايا،

اخرج من بيتك

أو لا تخرج،

اختبئ في سريرك إن شئت

تهاوَ قليلاً ولا تسقط سريعا.

 

تنشق " السارين" وابتسم،

لا تصرخ،

يكفي أن يصد الكفَّان النظر،

أو تتراخى الذراعان،

لك بعدها أن تُفَصِّل جيفتك على موضة الأصماغ،

 

تَـتَنزَّل تنزيلاً،

مكوَّما،

معصوفا،

مفصولَ الأطرافِ،

منتفخا،

مسحوقا،

مبقورا،

مسلوخا...

تفور من حلمَتيكَ نكهة عفن تكفي ليتغمَّدك الجوف بشهية.

اندمل،

في كل نسقٍ ممسوخ،

في كل رجولة سادية

في السرديةِ

المتنمرة،

المتنطّطة بين التغول والقرابين.

 

إن كان لك شيء عضويّ في هذا العالم

فهو موتك،

التراب لا ينتظر سيرتك، بل عصارتك، يا غَضّ اللبّ أنت.

 

لا تفكر في سرو المدافن،

قد يرتفع،

قد يُقطع.

 

لا تستمع إلى عواء الجنازة

وصرير التأبين،

امحُ آثار المكان الذي قُتلت فيه،

وحاذر أنْ يتحول قبرك إلى مزار:

اطمر ضريحك كما تخفي القطط برازها،

لا تدعهم يمددونك تحت رخامة.

"يصدر قريباً

واذكر أن التراب يستقبلك

ليس لأن لك سماتٍ،

بل لأن صدى اسمك لن يتردد في المرثيات،

ولأنك لم تصرف رصيد رؤياك في الشوارع

والأشياء... والمستقبل.

 

اختصر النور والهواء واستأنس بالرطوبة،

تغذَّ من جذامير الأثلام

وابتعد عن الزيتون والغار

وأناشيدهما.

 

 

الرموز تعود لتقتل

أما أنت فستغوص في النسيان.

لا تأنس لأمك تتلو عليك الذكر،

فلا ذاكرة لها،

ستفكر في إنجابك مجدّدا.

 

إن أتتك مرثية

ارمها من مسمعك،

لديك كل صوت الأجواف لتريح أذنيك

من وقاحة الشعر وشوك اللغة.

 

العضوي في جوهرك،

جوفك لا محياك،

عزلتك في الجَزَع،

سخريتك من الأحياء.

 

بموتك في غفلة

بنيتَ وهدمتَ الحواضر،

جعلت الأحياء أشياءَ

لا اسماً ولا مصدراً.

 

عندما تموت لا تجفف عرق الخوف

اتركه لييبس في مساماتك،

لا تدعهم يغسلونك،

تَسَجَّ على عجل،

ليس لجثتك كفن.

 

اطرد الحانوتي، أو اتركه

يزداد صقيعاً وصرعاً

"يوثق" تحولك هذا،

لكن ابتسم له، له فقط.

 

لا تدعهم يرفعونك كقديس

أو يسجّونك أمام حشد،

لا تدع البوح يتمكن من صمتك،

لا تفقد اللاتواصل.

مُت دون خيال،

خفيفاً دون صفات،

دون نزوات،

دون متعة الألفة.

 

مُت في زمنك الوحيد،

موتا لا هوامشَ فيه ولا متونَ،

كالبخار،

كجزيرة غبّها المحيط،

كنجم فتَّتَته الشمس،

كحصى ابتلعها جرف.

 

أربع عشرة عضلة تتحرك ليتجهّم وجهك، وستّون لتبتسم

 

لا تتعب كتيرا،

لا تكابد مشقة الاندماج بعد أن يهدأ الغبار

لتتعلم التسامح

مع الفأس

وكحل العين

وندم الجاني وأهله.

 

أقفلْ عروة النظر

على الخطوط والزوايا وهندسة الأبعاد،

على الألوان والظلال،

على التأريخ والإحصاء،

الترقب والاستشراف... والأمل.

المجموعة الشعريّة " نُزولُ الألفة" لعلي شمس الدين، تصدر قريباً عن دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، يكتشف فيها الشاعر الوضعية البشرية والعنف الذي يقع على العالم

وانزل

ولا تكن وقورا أو ورعا،

تسرب إلى ذاك الكل العضوي كخام فرح،

استقبل وبادر،

اختلط بحرارة ذلك البطن الذي لا يلد في روزنامة.

 

وإن شابك الحنين

تذكر سلح الحمام وسكون السمكة،

وتجهم لأنك إن ابتسمت

فعليك أن تجد ورقة توت ترمم بها ألياف وجهك.

 

مزيج السماد متغاير الخواص لزج العجينة،

إن تقربت منك رُفات فلا تكن نقدياً،

عالجها برفعة،

دوِّرها،

افرزها،

اتركها تتفاعل في احتباس الجوف

ولا تعطِ أذنك لحكايتها الحزينة.

 

لا ترتكب تلك الهفوة مرتين،

لا تكن نقدياً وتجترح نهايات سعيدة،

النقد واليوتوبيا يتكاملان في نهايات مشتركة، لا تطأها،

لا تفترض يقينا أن عالما أفضل هناك وراء هذا العالم.

 

هكذا تصديت "للبرميل" الذي ألقته الطائرة

وهكذا أبقيت حيطان منزلك دون لون وورقة.

 

انزل في أمان وتذكر،

إن أردت الانتقام لموتك

مُت ولا تدع جثتك تنتظر الكاميرا

العالم لا يحب إلا النوستالجيا.

 

انزل بهدوء

 

إلى أين ذهبت يا فائر؟

 

جسدك مسجى على طاولة أمك،

في حنجرتك غمغمة العودة

إلى حضنها،

وفي أذنيك وعود المؤبنين بالزيارة.

 

تريد أن تهدأ؟

 

قريتك صغيرة، وبيتك صغير،

وأنت تعرف

أن الزمن لا يتبادل الزيارات مع أشيائه،

ولا يربّت على ظهر تاريخ ومرثية،

ولا يستدير ليرى

كيف استقرت المحطات بعد عبوره،

وكيف وجدت الذرائع سبيلها

في تسويغ انقضائه.

 

عليك أن تهدأ،

لتُحضِّر وجها لملاقاة الوجوه

في الأجواف،

وتفصلَ ياقة طرية بيضاء

للقائك الأول مع الرطوبة.

 

عليك أن تهدأ،

لأن اللقاءات لن يضبطها تِرم،

الوقتُ والجوفُ طرفا الهوية

متعالقان في كلّ الأبعاد،

أنت كنت أنت،

وأنت صرت أنت،

في بيت أمك،

على طاولتها،

في حاكورة منزلها،

مطمور تحت جبّ الهليون.

 

أنت أنت،

مسند ومسند إليه،

كالحجة العالقة في ماء المخاض.

 

أنت كنت أنت

وصرت أنت،

افتراض متطابق الأبعاد

متعاكس في توازي المعادلة،

أنت الفعل والنتيجة.

 

لماذا استثرت العراء بعدما كنت تهرب منه؟

أوَ حسبت أنه قفير نحل،

لدغتان يطفئهما طعم العسل؟

انزل يا "محروم" يا ملدوغ، مرة ومرتين وأكثر،

أنت بلا ذاكرة، كمن يحمل شمسية ولا يفتحها.

 

انزل واهدأ،

واسترخ،

لتتلمس فراغ الافتراض،

لن يكون لك أن تكابر

وتُعكر صفو العالم

وتتظلم من عبث المطابقة بين شطري الهوية.

 

اهدأ

لأنك نسيت العيون التي وضعت لك عبارة في فمك،

الكتبَ المتروكة على الرفّ،

صورتَي جدّيك المخفيتين تحت ملاءة زهرية،

أكياسَ "الناريت" مصفوفة في البهو،

الشقة البهية،

ملعب كرة القدم الفارغ،

صوت الحاجة التي قتل ابنُها ابنَها في "معارك الإخوة"،

هامة زوجها المتكوم في كرسيّه الأبدي على الشرفة،

أنصابُ الأحبار المختفين والظافرين في الشوارع.

 

نسيت القيامات

أنت بلا ذاكرة، تماما كالماء

أو كحبة دواء.

 

اهدأ وانزل في سكون،

ولا تظنن أنك ستعود من الجوف تقول:

"أنا لعازر جئت من الموت، جئت أقول لكم..."

 

انزل مع السردية،

هي منك وأنت لها،

وإن صادفت صدفة بزاق خالية

اقض بعض الوقت فيها

واستمع لاحتدام السماد.

 

وأنا سأذكرك كلما رأيت صورك على عمود الكهرباء.

نزلتَ إذا؟

تركتَ الموتى يدفنون موتاهم

ويغنون،

ونزلت كالغصّة.

 

صدر أمك تكوّز مجدداً

ليطعمك يا طري،

تكوّز عند موتك،

ليسحبك من تيه شفتيك

لبّ الذاكرة بياض يا غائب.

 

انزل متمهلاً،

ولا تستعجل الرحلة،

دع الحداد يغلي حزن أشيائك ويتخمر.

 

مسّد السرو نزولا،

إلى الخواصر والأحواض،

ضمّد جذعه من لهج التبريك

الطويل ومن حضن يتبدد

ويهيج طرفه في الإبصار.

 

انفذ إلى بوابات الغبش

ولا تَسَلْ: أنهايةٌ مفتوحةٌ

أم بدايةٌ تائهةٌ؟

اخلط ألوان الذاكرة بالنحاس

فكل ظل يختار لونه في النسيان.

 

تفرَّغ من أملك يا تواق،

عش في الرغبات،

فقط في الرغبات.

 

جذرك يتعقبك كسالب المعادلة،

وسيرتك متغير "جيب التمام"

غيبة "الحُجّة" سَدَر المرايا

يرفعها "ظل زاوية" 

أو يؤويها متحفٌ دون جدران.

 

حاد ولاذع لعابك،

احتفظ به لأوقات الألفة في الذوبان.

 

صوتك يتخاوى مع

همس الأجواف

ولون عينيك

يختلط بشوائب البنيان المتناثر فوقك

أبيض كلس ورهاب بوح وحداد.

 

وسِّع جلدَ ظهرك وعظمَ كتفيك

لتحملَ الرّكام الذي نثرته

كلّ مرةٍ غامرت فيها بأهلك

وعنوان الخيمة

وشحذ الفأس

ووجهة السهم

احمل يا مكسور

وانفلشْ

تَشذَّرْ سياطاً في الصدور.

 

العظام لا تبكي

يا حاميَ الرأس،

بل تعطي شكلا للخوف

وتصنع بئراً للفأل

لا تسبح هناك.

 

أهلك من طينة الغلاة

سيستعيدون روحك كلما

عدت في منام أو غالبهم حظ،

وإن حصل ورأيت أباك بين خفة جفنيه

قل له: "السياج المحكم يصنع جيرة طيبة".

 

طارح موجة مغناطيس

تتشرد بين حقلين

أو نوبة عتاب تردح بين ذاكرتين.

أو...

كن أذنا

تلتقط مغط أصوات الرغبات الزاحمة،

وعينا

تحدق في حرارة الأخلاط العمياء،

وزئبقا

يغرق في الأحواض اللبدة

وإصبعا

تتلمس أحفور الأمل في "رخام الانتظار".

 

ولكنك لم تتعلم الانتظار في ماضيك،

مع أنك مرصوفة

بكاء

وتذكّر

وترقّب.

 

هكذا هي السردية،

نَشوة تغول في مدار الاحتمالات

وكلٌّ أصغر من "فَلْتِ" أشيائه

وأنت أصغرها يا مريد.

 

تستعيدك الأوقات إلى طياتها تلصصا،

وجعا في أحشاء الأحياء

وحليبا في ثدي أمك،

 ما من لحن ترقص عليه يا مترنح.

 

دع المطر يبري تلك العيون المالحة،

فليست الأمكنة كما تبدو على الخرائط يا مهاجم

بل كما تتراءى فوق الصاري للبحار.

 

أنت باب الحزن من طرفيه

أكمل نزولك.

 

جاور هذا العضوي،

كن حافز السماد الجامح،

حرك مزيج التعفن النشط

 للعناصر القديمة.

 

افتح ذراعيك للاتجانس يا متماثل،

وصالب فكّيك

لهذا العموم

المتحلل المشترك.

 

أنا لا تاريخ لي/ما كان يجمعنا/ تشريحُ جيف/ سأعود يوماً /سأعود عندما تمطر سمكاً / اذهبوا الآن، اذهبوا /اسبحوا بين السبب والأثر/ وتعلّموا الحداد- علي شمس الدين

إن حالفك حظ

فربما

يلتقطك رمث عظام تائه،

فِضْ أحماضاً ليدنو منك

فيلتقطك

تلك هي فتنة الصفح وحفَّاز الألفة.

 

لجوهرك ما يكفي من أنقاض،

اسبح فيه وامتصه نثرات،

لا تزين كاحليك ومعصميك

ولا ترخِ أحاليلك في كلس الصخور

وتحسب أنك ترسم عِلمَ وجودك يا مفترس.

 

لا تستحثّ بلادة المخيلة

وتردد حكايا القاصّين وبدع الغائبين،

شهوة الشقوق تألف

دِهن الرقاب

وعضلات الصدر

ووتر الأفخاذ

تأجج يا جيّاب وانزل.

 

ابعث رسائلك حفراً على الغبار،

أزراراً وإبراً ومنامات:

 

" أنا لا تاريخ لي،

ما كان يجمعنا

 تشريحُ جيف،

سأعود يوما،

سأعود عندما تمطر سمكاً،

اذهبوا الآن، اذهبوا،

اسبحوا بين السبب والأثر

وتعلّموا الحداد".

...

علي شمس الدّين: شاعر وكاتب صحافي لبناني من مواليد 1979. مقيم في لندن منذ 2007. متخصّص في أنساق تكنولوجيا المعلومات وأسواقها الجديدة. يعملُ في مجال الهوية الرقمية والسلوك البيومتري. مُهتمّ بالشعر والفلسفة والأدب وتقاطعاتها مع سرديّات الخطاب والاجتماع والسياسة. صدرت له مجموعة شعرية واحدة بعنوان "نُزول الألفة" 2022.

...

جميع الحقوق محفوظة لدار النهضة العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard