شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رواية

رواية "متاهة الإسكندرية" لعلاء خالد… التأريخ للأماكن بالسَيْر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 أغسطس 202212:27 م

السَّير والذاكرة؛ شيئان كثيراً ما يترددان على لسان الكاتب والشاعر المصري علاء خالد، الذي يرى أن أفضل طرق التعرف على المدن والأماكن هي من خلال المشي فيها. خلال سيرنا نتعرف على قصص وأشخاص جدد. نحفظ الطرق والشوارع. نرى ونشهد أحداثاً لتتسع مساحتنا الشخصية وتندمج في مساحات الآخرين.

تقول الروائية المصرية رضوى عاشور، في روايتها "أطياف": "تكتسب الأماكن فجأةً معنى جديداً حين تتعرف على حكاياتها، ربما ليست الحكاية الكاملة ولكن ومضة من الحكاية، جانباً منها يُضيء المكان فجأةً فتراه ولم تكن تراه وتدركه، وحين تدركه وتعرفه يملكك بحق الحيّز الذي يشغله في عقلك ومخيّلتك، باختصار، بحق إسهامه في تكوينك واستقبالك لهذا الوجود". ويرى علاء خالد أن التعرف على هذه الحكايات يكمن في السير فيها وسؤال سكانها عنها. المشي لمسافات طويلة ولساعات تقرّب الناس أو تباعدهم في الطريق، يتجاذبون أطراف الحديث، يشير أحدهم إلى مكان وما يلبث أن يروي قصته، فنرتبط بالأماكن ارتباطاً وثيقاً.

في أعمال علاء خالد، نجد أن السيّر مرتبط بها، لا يشبه أدب الرحالة، ولكنه أدب الأمكنة؛ يكون المكان هو سيد القصة. لا يكون مكاناً جديداً لا يزال الكاتب يتعرف عليه، بل يكون مكاناً تشرّبه وحفظه جيداً.

نوستالجيا الأماكن والتيه فيها، شعور دائماً ما يلاحق القارئ وهو يقرأ لعلاء خالد. في آخر رواياته "متاهة الإسكندرية"، نتعرف على إسكندرية أخرى، تختلف عن كليشيه الكورنيش أو شريط الترام، حتى يبدو لمن لم يزر تلك الأماكن أن أحداث الرواية في مدينة أخرى

في روايته الأولى: "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان إلى آخر"، يرتبط القارئ ارتباطاً شديداً بفيلا رشدي التي تدور فيها الأحداث، وينعى مباني الإسكندرية التي تُهدم واحدةً تلو الأخرى. وجدت نفسي على طريق الترام لشهور أبحث عن فيلا واحدة قد تتشابه مع المنزل بطل الرواية بالرغم من معرفتي بأنها هُدمت قبل سنوات.

نوستالجيا الأماكن والتيه فيها، شعور دائماً ما يلاحق القارئ وهو يقرأ لعلاء خالد. في آخر رواياته "متاهة الإسكندرية"، نتعرف على إسكندرية أخرى، تختلف عن كليشيه الكورنيش أو شريط الترام، حتى يبدو لمن لم يزر تلك الأماكن أن أحداث الرواية في مدينة أخرى.

الرواية تشعر القارئ بأنها الجزء الثاني لألم خفيف، وهو الأمر الذي أكده الكاتب في حفل توقيعه في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. "متاهة الإسكندرية"، أشعرتني شخصياً بأني في متاهة، ليس فقط من خلال الشخصيات، أو الراوي الذي لن نعرف اسمه إلا في نهاية الكتاب، إلا أن الفصول نفسها صممت في شكل متاهة، أحياناً تشعر بأن كل فصل يمكن أن يُقرأ بشكل منفصل، كل فصل ذو قصة وعنصر معيّن، فقد يمهد الكاتب أن الراوي يسير في جماعتين، جماعة المكفوفين، وجماعة الحمير (وهو اسم جمعية تضم مجموعةً من الفنانين والمثقفين كانت موجودةً قديماً)، غير ذلك كل فصل يروي قصةً مستقلةً بذاتها، ثم تتجمع كل الفصول لتأتي في نهاية واحدة وتتشارك في الفصول الأخيرة التي تشكل بوابة الخروج من المتاهة.

ربما الكاتب كان لديه شعور مشابه بأن الإسكندرية التي وُلد ونشأ فيها لا يمكنه التخلص منها بعد، لا يزال يريد أن يرويها، و"متاهة الإسكندرية" تبدو أنها مرآة تنقل جانباً آخر من ألم خفيف، عالم خفي من عوالم الإسكندرية

هل نتخلص من الأماكن عندما نحكي عنها أم نرتبط بها أكثر؟

في حفل توقيع كتاب "متاهة الإسكندرية"، يعترف علاء خالد بأن متاهة الإسكندرية ربما هي الجزء الثاني في كتابه النثري الأول "ألم خفيف"، وأنه شعر بأن لا زالت لديه قصص عن إسكندرية شبابه أراد أن يرويها.

وغالباً ما يمر أي كاتب بأن لديه قصةً ملحةً، يحاول مراراً وتكراراً أن يصيغها، وفي كل مرة يرويها بتفاصيل جديدة، حتى يصل إلى مرحلة التخلص منها، وتأتي هذه المرحلة عندما تخرج الفكرة في أحسن شكل ممكن لها. ومن بعدها يتفرغ الكاتب لقصص أخرى.

ربما يتخلص علاء خالد من حكاياته عن الإسكندرية عبر حكايتها مرات ومرات، لكنه بالتأكيد يربط شخصاً جديداً –القارئ- بها.

ربما الكاتب كان لديه شعور مشابه بأن الإسكندرية التي وُلد ونشأ فيها لا يمكنه التخلص منها بعد، لا يزال يريد أن يرويها، و"متاهة الإسكندرية" تبدو أنها مرآة تنقل جانباً آخر من ألم خفيف، عالم خفي من عوالم الإسكندرية.

تختلف الكتابات النثرية للشعراء عن غيرها من الأعمال التي يكتبها مؤلفون اختصوا بالنثر في الشفافية؛ لغة رائقة كأنها شعر منثور أو نثر موزون. غالباً ما يبدع الشعراء في أثناء كتاباتهم النثرية في الرهافة والرقة، وتحديد المشاعر والوصف.

ربما يتخلص علاء خالد من حكاياته عن الإسكندرية عبر حكايتها مرات ومرات، لكنه بالتأكيد يربط شخصاً جديداً –القارئ- بها.

السيّر في كل الدروب للوصول إلى النفس

"السير والسير حتى نغير المشهد؛ حتى نقتل السأم؛ حتى نقتل أنفسنا القديمة؛ حتى نشرب التاريخ؛ حتى نكتشف تلك البحيرة التي تقع وسط تفاصيل الحياة المرهقة، لنجلس أمامها ونتأمل وجودنا ونحنو عليه".

بطل الرواية وراويها، يروي حكايته عبر السير، يتوقف في محطات معدودة ثم يكمل طريقه برفقة رفيقته "سميحة" التي تفتح له بدورها الباب لعوالم جديدة. "أصل أحياناً لحائط لا أقدر أن أتجاوزه في فهمي لسميحة، ولكني لا أمنع نفسي من الاصطدام به، لأني أصدقها".

يأخذنا لنجول في مقابر الإسكندرية الرومانية، أو في أحياء نسيتها الحياة، ليتعرف إلى نفسه. تتجمع جماعة الحمير وتلقي بأحكامها على الجميع، وتتناقش الموت والحياة والإله بتكبر شخص سن قوانينه وليست لديه الشجاعة في أن يعيد حتى التفكير فيها أو نقدها.

يردد الراوي أن سيره في المدينة كان بلا هدف، إلا أنه في الحقيقة كان يقشر طوابق المدينة التي بُنيت فوق أنقاض حضارات وحضارات.

ككل المتاهات، تتنتهي غالباً بطريق واحد فقط. ينهي الكاتب حكايته بقصة أسرته وعائلته. ثم في فصل أخير يلملم كل أطراف القصة. في الفصل الأخير نصل إلى الراوي في خمسينات عمره، في عيد مولده، حين قرر أن يذهب إلى "بوفيه فليب" الذي اعتاد أن يجتمع فيه مع جماعة الحمير في شبابه، ولكن هذه المرة توارى "بوفيه فليب" عن الأنظار بمنشئات منطقة سان ستيفانو الحديثة.

الإسكندرية تبدو واضحةً للزائر، فكل الطرق غالباً تنتهي عند البحر، هي نفسها الإسكندرية التي بُنيت على حضارات فوق حضارات، وتشتهر بسراديبها التي يكتشفها منقبّو الآثار كل فترة، وتجمع ذكريات مختلفةً لكل من عاش فيها، بالرغم من وضوحها، وتخطيطها الذي صُمم ليسير على ثلاث شوارع متوازية: البحر، والترام، وأبو قير

في مقدمة الكتاب، يستهل الكاتب روايته بأنه عندما أراد أن يحكي عن كل الشخصيات لم يجد ما يجمعه بهم سوى التيه، فبين أسرته، أمه وشقيقته، وبين جماعة المكفوفين، وجماعة الحمير، تتخبط الشخصيات في طريقها الطويل مع نفسها، في مرحلة التعرف على الذات، وأيضاً التعرف على المدينة.

الإسكندرية تبدو واضحةً للزائر، فكل الطرق غالباً تنتهي عند البحر، هي نفسها الإسكندرية التي بُنيت على حضارات فوق حضارات، وتشتهر بسراديبها التي يكتشفها منقبّو الآثار كل فترة، وتجمع ذكريات مختلفةً لكل من عاش فيها، بالرغم من وضوحها، وتخطيطها الذي صُمم ليسير على ثلاث شوارع متوازية: البحر، والترام، وأبو قير. ثم يجب أن تنتهي كل الشوارع بشكل ما إلى البحر. ينقب الكاتب عن ذكرياته، فنجد في "ألم خفيف" الإسكندرية المألوفة التي نعرفها ربما، بينما في متاهة الإسكندرية يجرّدنا الكاتب من أسماء الشوارع المشهورة، ليأخذنا إلى الأسواق الشعبية، ومعامل تحميض النيغاتيف. يصحبنا الراوي إلى إسكندرية الثمانينيات والتسعينيات. إسكندرية لا نلمح بريقها المعتاد. بقدر ما تبدو "متاهة الإسكندرية" على أنها رواية عن المكان، إلا أنها رواية عن الأشخاص الذين مروا بهذا المكان أو عاشوا فيه؛ بكل تدرجاتهم، واختلافهم، وتنوعهم يسيرون في المتاهة نفسها إلى أن يصل كل منهم إلى مخرجه الخاص منها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard