شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
السوري في تركيا ولعنة البساط الأصفر اللاسحري

السوري في تركيا ولعنة البساط الأصفر اللاسحري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 أغسطس 202210:46 ص

كسوري لاجئ في تركيا، اقترن وجودي ببساط أصفر، نعم، لكم أن تصدقوا ذلك أو لا، وللأسف ليس سحرياً كما في الأساطير وأفلام الرسوم المتحركة والخيال، فلا يمكنني من خلاله التنقل شبراً واحداً بعيداً عن باب منزلي، ولا التحليق فيه على امتداد سماء هذه البلاد، بل على العكس، ما هو إلا قيد ورقي يحتجزني والملايين من أقراني داخله...

منذ سنوات، وعند عبوري إلى هنا، واستلامي بطاقة الحماية المؤقتة التي تشبه إلى حد ما البساط، كون مقاساتها كبيرة إلى درجة أنها لا تتسع في محفظة، ولا في جيب، أو ربما تحتاج إلى عامل مُياوم يحملها برفقتي إنْ فكّرت يوماً بالتنقل، حينها، وبسذاجة عبَرَتْ إلى قلبي طمأنينة عارمة فور قراءتي لكلمة "حماية" تحت صورتي التي بدوت فيها كناجٍ من مجزرة. ولم أكن أدري أنني لم أنجُ، فها أنا أضع الأغلال في يدي مع أول بصمة إصبع...

تلاشيتُ في بطاقة

مع الأيام، صرت ألاحظ اقتراني شيئاً فشيئاً بهذه البطاقة، وتلاشيي فيها، مع دخولي إلى أية مؤسسة حكومية، عند إيقافي من قِبل أي حاجز أمني، عند حجز التذاكر والشراء والبيع، في المستشفى، في الصيدلية، في محلات الهواتف، حتى في نومي بتُّ مجبراً على إبرازها اتّقاء الوقوع في كابوس الترحيل، كما صار الآخر يميّزني من طلتها الصفراء الفاقعة.

فيكفي أن تُلاحَظ بيدي في غير المدينة المسجل فيها ليُطلب منّي إذْن السفر الذي بات مستحيلاً الحصول عليه. يكفي أن ألوّح بها في أي طابور ليصبح وصولي إلى أوّله معجزة، فأنا مهما علوت سأبقى مجرد لاجئ، أو مواطن من الدرجة العاشرة، وهذه الرؤية لا علاقة لها بتنامي الخطاب العنصري، فهي صورة نمطية تتكون في معظم بلدان اللجوء.

فكثيرون منّا تعرضوا لأسئلة من نمط: هل لديكم في سوريا كهرباء؟ هل لديكم هذا النوع من الفاكهة؟ أتأكلون اللحوم؟، إلخ. وكأنّ اللاجئ أتى من كوكب آخر أو من صحراء مقفرة. ولانعكاس هذا الأمر على الجانب النفسي أثره البالغ، فربما أحمل شهادة طبيب، أو محامٍ، لكن ستبقى هذه الوثيقة ندبة لا يمكن التخلص منها، وهذا يضع معظمنا في مساحة اللاجدوى، وخصوصاً بعد ارتفاع وتيرة النبرة العنصرية مؤخراً...

"كسوري لاجئ في تركيا، اقترن وجودي ببساط أصفر، نعم، لكم أن تصدقوا ذلك أو لا، وللأسف ليس سحرياً كما في الأساطير وأفلام الرسوم المتحركة والخيال، فلا يمكنني من خلاله التنقل شبراً واحداً بعيداً عن باب منزلي"

ظهورك كعربي أو لاجئ صار سبباً لتعرضك لمضايقات جمة، وما أجدر من بطاقة الحماية لتعريفك بين الآخرين؟ فمهما تواريتَ خلف اتّقانك للّغة، أو ظهورك بمظهر حضاري، لن يشفع لك هذا، بمجرد طلب هويتك. وعدا عن ذلك، يعاني معظمنا في بلاد اللجوء عموماً وتركيا خصوصاً من أزمة اللااستقرار المقترنة بهذا النوع من الاستضافة ("حماية مؤقتة")، ففي ظل القوانين التي لا تمنحنا الحق بممارسة حياتنا بشكل طبيعي أو حتى كلاجئين محميين بقوانين اللجوء العالمية، فإن قوانين أخرى تصدر بشكل دوري، قوانين تعقّد الحال الذي هو في الأصل معقد.

حلول مؤقتة

وكحال معظم الشباب هنا، حاولتُ أن أجد بديلاً عن بطاقة الحماية، بديلاً يجنّبني نظرات الآخرين المحمّلة بمشاعر مختلطة، وينجيني من موقف عنصري أنا بغنى عنه. فمثلاً، أحد أصدقائي استحصل على إذن عمل، وآخر على شهادة قيادة سيارة، وآخرون راحوا يبرزون بدلاً عنها بطاقات جامعية وبطاقات عضوية مختلفة، وهكذا... وكوني بعيداً عن كل تلك المهن، استحصلت على بطاقة عضوية صحافية، فقط لأتّقي لعنة البساط الأصفر...

فعلى سبيل المثال، في أولى رحلاتي من الجنوب التركي إلى إسطنبول وقبل أن أستلم بطاقتي الصحافية، أبرزتُ بطاقة الحماية المؤقتة لموظف الأمن في المطار، ومن دون أي سبب قام بإيقافي لمدة ساعة، دون أن يتحدث معي بكلمة، مع العلم أنني وقتها كنت قد استطعت الحصول على إذن بالسفر. فقط أوقفني ورمى ببطاقتي إلى طاولته، إلى أن بقي على موعد انطلاق الطائرة عشر دقائق، حينها أعادها إليّ وأذن لي باللحاق برحلتي.

"فحين تسأل: ماذا يعمل السوري في تركيا؟ سيكون الجواب: يعمل أكثر من 12 ساعة يومياً لكي يجدّد عنوان السكن ويحدّث بياناته فقط ليحافظ على البساط الأصفر اللاسحري"

في رحلة العودة، كنت قد استلمت بطاقة العضوية الصحافية، فقمت فوراً بإبرازها لعنصر أمن المطار، وبنظرة واحدة لم تتجاوز الثواني قام بإعادتها إليّ وأذن لي بالصعود إلى الطائرة مع ابتسامة متخمة بالرضا... وهكذا صارت بطاقتي الصحافية هي البديل الأنجع لأكون مواطناً صالحاً في هذه البلاد... فكلما دخلت إلى مكان احتجت فيه إظهار هويتي أعطيتهم بطاقة العضوية تلك.

قد لا تشكل المواقف التي جرت معي شيئاً أمام مئات حالات الاضطهاد التي علمناها والتي لم تكن آخرها تعرّض المرأة السورية للضرب من قِبل شاب تركي وحملات الترحيل الدائمة بسبب ومن دون سبب.

وبينما وجدت لنفسي حلاً مؤقتاً، توجه كثير من الشباب للبحث عن دروب الهجرة إلى أوروبا، فقد لوحظ مؤخراً ازدياد نسبة المهاجرين من تركيا بشكل كبير، على الرغم من كل الصعوبات والمعوقات أمامهم والمبالغ الطائلة التي يدفعونها لتجار البشر، لكن كل هذا لم يعد يشكل جزءاً أمام معضلة البقاء هنا بمستقبل مجهول وبلعنة لا يمكن التخلص منها.

وعلى الرغم من أن هذه الوثيقة باتت تشكل لعنة على حاملها، إلا أن الحصول عليها صار في الوقت نفسه مستحيلاً ثامناً للاجئين الجدد، والمحافظة عليها للاجئين القدامى يشكل عبئاً نفسياً ومادياً، إلى درجة صار الأمر يتداول على أنه نكتة، فحين تسأل: ماذا يعمل السوري في تركيا؟ سيكون الجواب: يعمل أكثر من 12 ساعة يومياً لكي يجدّد عنوان السكن ويحدّث بياناته فقط ليحافظ على البساط الأصفر اللاسحري.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard