شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حياة كاملة فوق السرير

حياة كاملة فوق السرير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 23 يوليو 202212:45 م

سرير الورد

 

" هاخد الملايتين دول"، جاءت تلك الجملة بعد أن اخترت طقمين من الأغطية لسريري غرفة الأطفال التي اشتريتها للتو وبدأت بتجهيز ملحقاتها.

لم أكن عروسة مدللة لأستطيع تحمل تكلفة شراء غرفة للأطفال أثناء تجهيز أثاث شقتي، أجّلنا الأمر حتى يأتي الطفل الأول، جاءت الطفلة الأولى، تأجل الأمر مرات ومرات حتى بلغت صغيرتي ثلاث سنوات، قضيناها، أنا وأبوها وهي، نقتسم سرير غرفة النوم الأساسية في المنزل... لعن الله قلة النقود وزيادة الأسعار وترتيب الأولويات.

اشتريت غرفة لها أخيراً وبدأت بتجهيز كل ما تحتاجه لتصبح مناسبة لأميرة صغيرة أتمنى لها حياة مليئة بالمغامرة والحب والحياة، هاجمني زوجي في البداية لتدقيقي الشديد جداً عند اختيار نوع المراتب وألوان الفرش الخاص بالسريرين، الحقيقة دقة الاختيار ليس لأنني امرأة منمقة، ولكن لأنني أعلم أن حياة كاملة تكمن فوق أي سرير. 

الخبر الأول

عدت بخيالي إلى السرير الذي نبأني بوجود نطفة داخل رحمي لم يكن تم بث الروح فيها بعد.

بقلب مقبوض يغلفه شعور عارم بالحياء، أنام على سرير جلدي في إحد عيادات أطباء الأمراض النسائية. للمرة الأولى في حياتي، أحكي للطبيبة عن مشكلة ألمت بي بعد أن أصبحت زوجة، لتطلب مني أن تقوم بفحصي، تشخص المشكلة وتخبرني: "لا بد من إجراء اختبار حمل حتى نتمكن من تحديد العلاج المناسب". يباغتني كلامها ويتبدل حال قلبي من الحياء إلى الدهشة من احتمالية وجود حياة بداخلي... نتأكد من الأمر وأعرف أنني على وشك إتمام الشهر الأول من الحمل.

عندما ولدتني أمي قبل أكثر من ثلاثين عاماً لم تكن هناك الموضة الموجودة الآن بوجود غرفة للأطفال، فقط سرير بحجم كبير يشتريه الزوج بعد أن تنجب زوجته لتنام في غرفة مستقلة بمفردها مع طفلها الرضيع، حتى يتمكن الرجل من أخذ قسط من الراحة، ويتركهما في غرفة عذاب منفصلة.

كان بيتنا يحتوي على غرفة العذاب تلك، بعد أن أتممت ثلاث سنوات، وضعت أمي أخي الأصغر، ظلنا لسنوات نتقاسم، أمي وأنا وأخي، ذلك السرير. لم أعد أتذكر أية تفاصيل إلا عندما قررت أمي أن تشتري سريرين منفصلين حتى أنام أنا على أحدهما وتنام هي وأخي الأصغر على السرير الآخر، على أن يتواجد السريران معاً في نفس الغرفة.

هاجمني زوجي في البداية لتدقيقي الشديد جداً عند اختيار نوع المراتب وألوان الفرش الخاص بالسريرين، الحقيقة دقة الاختيار ليس لأنني امرأة منمقة، ولكن لأنني أعلم أن حياة كاملة تكمن فوق أي سرير... مجاز

منحني ذلك بعض الشعور بالاستقلال وبالقدرة على تغطية جسمي بالكامل في الصيف والشتاء، كما منحني القدرة على تمثيل الكثير من مشاهد الأفلام التي أحبها- وأنا مغطاة بالكامل- ومن أن أحدث نفسي بحرية بدلاً من نظرات أمي التي كانت تتهمني بالجنون لأني أحدث أناساً لا وجود لهم.

فوق ذلك السرير الذي ظل خاصاً بي إلى أن تزوجت وانتقلت إلى بيتي الخاص، كانت هناك حياة كاملة لا يعرف تفاصيلها الكثيرون.

حياة فوق السرير

السرير في بيت أبي كان المكان الوحيد الذي أمتلكه بمفردي، كان لي الحرية التامة للحياة فوقه ولامتلاكه، حتى بعد ما ماتت أمي وزال كل الأثاث الخاص بها، ليتبدل بأثاث جديد خاص بامرأة جديدة تزوجها أبي.

ظل ذلك السرير يحمل بعض الذكريات مع أمي، فأراني نائمة تنتابني حمى شديدة وهي تمد يدها لتنثر حبات الماء على وجهي، وأراني أجلس دائماً بجوارها على ذلك السرير، أعرف الآن أنني كنت أود أن تحتضني وهو الأمر التي لم تنتبه هي إليه، وعلى هذا السرير حفظت الآيات الأولى من القرآن، وعلى هذا السرير صنعت أول قبر لنفسي.

بينما كنت في السادسة عشر من عمري صنعت قبراً لنفسي بعد أن أوصتنا شيخة الجامع بأن أقرب الطرق لمعرفة الله والالتزام بأوامره وتجنب نواهيه أن نتخيل أنفسنا في القبر، تسألنا الملائكة عن أفعالنا التي اقترفناها في الدنيا، لم تتركنا هكذا، ولكنها أوضحت طريقة تنفيذ القبر فوق السرير، بأن تغطي نفسك بالكامل ولا تترك أي فتحة لدخول الضوء وتعيش تجربة القبر على حد قولها... كانت تجربة مفزعة على أية حال.

لم نشتر أية ملاءات جديدة لسريري في بيت أبي من بعد وفاة أمي إلى أن رحلت عن المنزل. كانت عدة ملاءات بهتت ألوانها من كثرة الاستخدام، وكان بها بعض الأماكن المقطوعة التي كنت أعمل دائماً على تخبئتها. لم تتبدل الأغطية بجديدة لكن حياتي كان لها كل يوم جديد فوقه.

فوق السرير قرأت كتاباً للمرة الأولى في حياتي، وتعرفت على نجيب محفوظ، واحتفظت بالعديد من الكتب تحت الوسادة لأتمكن من قراءتها خلسة دون أن يراني أبي.

على السرير كنت أجلس طوال الليل أذاكر دروسي، أفرد كتبي وأوراقي أمامي وأبدأ في المذاكرة إلى أن يطلع الصبح. طالما بكيت لعدم قدرتي على فهم الفيزياء، و طالما تيقنت من قدرتي على حل النحو بطريقة مميزة، وعليه عرفت أنني أحب دراسة اللغات.

لسنوات طوال وفوق هذا السرير كان هناك سريران آخران أنتمي إليهما ويحملان الكثير من مشاعري ومشاكلي وأحلامي، كل سرير منهما يقبع في منزل واحدة من صديقتي الوحيدتين في ذلك الوقت.

 رائحة البهجة

في الطبقة الفقيرة التي أنتمي إليها، لم يكن هناك وجود لمكتب للمذاكرة عليه، لا يوجد مكان. الغرف صغيرة، بالكاد تحتوي سريراً أو اثنين مع دولاب صغير، ولا يوجد مكان لاستقبال الأصدقاء، لأن الأريكة توجد في وسط الشقة، والتي لا تصلح للجلوس مع أصدقاء والانفراد ببعض الحديث. كانت كل مظاهر الحياة تلك تنفذ فوق السرير.

بينما كنت في السادسة عشر من عمري صنعت قبراً لنفسي بعد أن أوصتنا شيخة الجامع بأن أقرب الطرق لمعرفة الله والالتزام بأوامره وتجنب نواهيه أن نتخيل أنفسنا في القبر، تسألنا الملائكة عن أفعالنا التي اقترفناها في الدنيا... مجاز

كنا ثلاث صديقات، تدرس كل منا في كلية مختلفة، وإن كانت جميعها مرتبطة بالمجال العلمي، أكثر مكان جمعنا ثلاثتنا هو الجلوس فوق السرير الخاص بأي منا. أستطيع أن أشم الآن رائحة المنزل أثناء كتابة هذه السطور: غرفة بسرير واحد في الطابق الثاني من بيت من البيوت المصرية، نجلس ثلاثتنا على السرير ونقضي يوماً كاملاً فوقه. ننوي المذاكرة فنبدأ بعد ساعات من الكلام والضحك. نبدأ وأقاطعهما دائماً، أطلب أكواب الشاي التي ترفض أم صاحبة المنزل أن تتركني أتناولها خوفاً على صحتي، ولأن" البنات مش بتشرب شاي"، فنشربها خلسة، فتكتشف الأم وتضحك. على السرير بكينا ثلاثتنا من الخذلان وعدم تفهّم الأهل لمشاعرنا، وحكينا كثيراً... حكينا عن الحب والزواج ومشاكل الخطوبة، وعن" الولد اللي كان عاوز يكلمني في الكلية"، عن أحلام الحب الأولى وعن اختيار لفّات الحجاب التي تناسب كلاً منا، وعن الفساتين المناسبة لها، على السرير حلمنا وبكينا وضمننا بعض ونمنا سوياً في مرات قليلة للغاية، بعد محاولات مستميتة مع الأهل للبيات خارج المنزل.

ذات مرة قضينا قرابة الثلاث ساعات نتحدث عن معنى الحب، أنا عقلانية ولأنني لم يكن لدي أي علاقة عاطفية في وقتها، كنت أرى الحب أن يعين كل منا الآخر على الحياة، أن أفعل له ما يحب وأن يفعل لي ما أحب، أما كلتاهما فحالمتان للغاية، كان الحب بالنسبة لهما أن تفني نفسك في حب الآخر، أن تفعلي كل ما يجلب راحته حتى لو اضطررت لبعض التضحية، الآن كبرنا وعرفنا أن ثلاثتنا كنا على خطأ.

في بيتي الحالي أعيش على سرير هو الأحلى من بين كل الأسرة التي عشت فوقها في حياتي، سرير اخترته بنفسي، وتقاسمته مع الرجل الوحيد الذي أحببت. فوق هذا السرير تلعثمت وأنا أغير الحفاض لصغيرتي في المرة الأولى، وبكيت بعد نومها لأنني صرخت في وجهها بعد نوبة عظيمة من الغضب والبكاء. على هذا السرير كان العتاب الأول بين حبيبين تصالحا بقبلة على الجبين وضمة حقيقية، وكان النوم الحزين بعد أن فشلا ذات مرة في الصلح فزادت مدة الجفاء. على هذا السرير قررت منذ عدة أسابيع أن أسمح لقلبي أن يتسع قليلاً ليضم صغيراً جديداً مع صغيرتي، وشرعت في الحلم عما سوف يجري له فوق السرير الآخر الذي اشتريت له ملاءات للتوّ.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard