شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
يوماً ما سيرجع الليل إلى لبنان ولن يجدني هنا

يوماً ما سيرجع الليل إلى لبنان ولن يجدني هنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 19 يوليو 202210:09 ص

"أزمة الكهرباء في لبنان تتفاقم"، و"تخوّف من انقطاع تام للتيار الكهربائي"، و"الكهرباء في لبنان أزمة مستمرة ولا حلول"، و"العتمة ستلفّ البلاد"؛ نشأت وأنا أسمع كل تلك العبارات في الأخبار وحفظتها عن ظهر قلب. ولكنني في الحقيقة كنت أشكّك في حصولها. كل تلك الأخبار باتت اليوم حقيقةً، إذ بتنا نصارع الوقت نهاراً لاستخدام ساعة التغذية من "كهرباء الدولة" كما نسمّيها، وبضع ساعات من التغذية من كهرباء المولّد، أو "الاشتراك"، كما نسمّيها أيضاً. نحن في حالة سباق مستمر مع الوقت. لا، لا، ليس سباقاً، بل كرّ وفرّ. نركض من غرفة إلى غرفة بين شحن الهواتف والحواسيب، والاهتمام بالشؤون المنزلية التي تحتاج إلى الكهرباء، كالكي والغسيل... إلخ. أمّا عن الليالي الصيفية، فحدّث ولا حرج.

6 ساعات رقم كبير، والنوم مستحيل، فالحرّ لا يطاق.

درسنا في كتبنا المدرسية عن سحر ليالي الصيف في لبنان. كل شيء في الكتب المدرسية مثالي، يكاد لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. ليلنا الحقيقي مختلف كلياً، فهو أشبه بكابوس.

استيقظت الليلة، كما كل ليلة، من شدّة الحر وغزو البعوض. إنها الساعة الثالثة والنصف فجراً. احتسبت الساعات: بعد 6 ساعات سوف ننعم بساعة كهرباء واحدة، أو ساعة ونصف الساعة.

6 ساعات رقم كبير، والنوم مستحيل، فالحرّ لا يطاق.

درسنا في كتبنا المدرسية عن سحر ليالي الصيف في لبنان. كل شيء في الكتب المدرسية مثالي، يكاد لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. ليلنا الحقيقي مختلف كلياً، فهو أشبه بكابوس

افترشت الأرض علّي أستمد منها بعض البرودة. تنجح المحاولة أولاً، ولكنّ قساوة الأرض تقف في طريق راحتي؛ تصلِّب ظهري. وما هي إلا دقائق حتى انتقلت حرارة الغرفة إلى برودة الأرض عبر جسدي. جفناي لا يطبقان. أستجدي قوى خارقةً أعلم أنها غير موجودة، علّها ترسل الكهرباء عبر أعجوبة ما. أستسلم. أقف وأقترب من النافذة أرقب البيوت والأبواب والشرفات. بالكاد أراها. فالظلام دامس، لا نور سوى نور خافت يرسله نصف قمر عبر نافذة غرفتي. أستذكر مقولة أستاذي يوم أخبرته عن بعض المشكلات العائلية التي أمر بها، حين كنّا في رحلة إلى بيروت، فقال لي: "انظري يا ابنتي، هناك مشكلة في كل ضوء يشعّ من كل نافذة ترينها الآن". كان يودّ أن يخفف عني عبر قوله إن كل عائلة لديها مشكلاتها. رحل أستاذي، ورحل الضوء، ورحلت البيوت وبقيت المشكلات.

"ولا نسمة". أشعر بالحرارة في رأسي وشراييني. أشعر بها تنزل على شكل قطرات على جبيني. أمسحها مراراً وتكراراً. أحسّ بأن قلبي سيتوقّف من شدّة الحرّ. لا صوت في الخارج سوى أصوات الحشرات وكلب يعوي بعيداً وبعض القطط التي تتعارك فتشقّ بأصواتها سكون الليل.

أمّي وإخوتي ينامون في الغرف المجاورة. يُخيّل إليك أن الجميع في الحي، وحتى في البلدة، في حالة سبات عميق. ولكن هل فعلاً هم نيام؟ كلا، أعلم جيداً أننا كلنا مستيقظون، ومسمّرون في أسرّتنا، نبحلق في السقف، وتتأرجح بنا الأفكار وتتسارع الأحداث في رؤوسنا ونشتم أنفسنا لقبولنا بهذا الواقع ونفكر في ما سيحمله الغد من مفاجأت جديدة.

تعود بي الذاكرة إلى ليالي 17 تشرين الأول/ أكتوبر، فأنعاها. أستذكر بداية الأزمة في أواخر عام 2019، وتفاصيل انفجار المرفأ الكارثي في 4 آب/ أغسطس 2020. أخاف، أحارب هذه الذكريات، لا أريد التفكير فيها، فأنا بائسة بما فيه الكفاية الآن.

أمّي وإخوتي ينامون في الغرف المجاورة. يُخيّل إليك أن الجميع في الحي، وحتى في البلدة، في حالة سبات عميق. ولكن هل فعلاً هم نيام؟

سوف أعود غداً إلى بيروت. أركّز ذاكرتي على سلسلة المواعيد، والأشياء التي عليّ فعلها في العمل، وأسأل نفسي كيف سيكون مستوى الإنتاجية لدي نظراً إلى كوني أنام أقل من 4 ساعات يومياً مع استفحال الأزمات، التي أبرزها أزمة الكهرباء؟

أعتزم الرحيل، فأنسج رحلةً في خيالي. سيناريو من أحداث مخملية ونهايات سعيدة. أختار بلداً أوروبياً من تلك البلاد التي أتحدث عنها وحبيبي يومياً. أجد لنفسي وظيفةً متواضعة. أتخيل شقتي في الخارج والشارع الذي سأقطن فيه. أتخيله ملوّناً، يعجّ بالأضواء والزهور. أضواء لا تنطفئ لا نهاراً ولا ليلاً. أتخيل يوميات بسيطةً لا تتخللها إنجازات كبيرة. ربما مملة ولكن بسيطة. البساطة شيء عظيم، ولكننا نعشق التعقيدات وبؤسها. لا أريد ثورات وانتفاضات وانفجارات. لا أريد مجتمعاً مدنياً وانتخابات. لا أريد أي أمل.

بعد تنسيق كل التفاصيل، يجيء يوم الرحيل عن هذه البقعة البائسة من الأرض. أتخيل لحظة الوداع. يوم رحيلي عن هذه البلاد. أسرق مشهداً من مشاهد فيلم Cinema Paradiso للكاتب والمخرج جوزيبي تورناتوري، وأضعه في قصتي الخيالية هذه. أرى أمي تودّعني وتهمس لي: "لا تستسلمي للحنين، انسينا جميعنا".

بعد تنسيق كل التفاصيل، يجيء يوم الرحيل عن هذه البقعة البائسة من الأرض. أتخيل لحظة الوداع. يوم رحيلي عن هذه البلاد. أسرق مشهداً من مشاهد فيلم Cinema Paradiso للكاتب والمخرج جوزيبي تورناتوري، وأضعه في قصتي الخيالية هذه. أرى أمي تودّعني وتهمس لي: "لا تستسلمي للحنين، انسينا جميعنا"

أبتسم، فأنا راضية عن هذه القصص التي أنسجها في خيالي يومياً كي تنسيني طول الليالي وظلمتها. تعود بي أشعة الشمس إلى أرض الواقع. أسمع زقزقات العصافير، ويدخل نسيم طفيف إلى غرفتي. حتى في عز فصل الصيف، يبقى الصباح الباكر ألطف بكثير من بقية ساعات النهار الحارّة.

أرتدي ملابسي. أذهب إلى عملي في بيروت. أتابع حياتي وأدفن كل التغييرات والثورات والآمال التي صنعتها مخيلتي ولكنني أعلم أنها ستنبعث من جديد ليلاً، وأنها يوماً ما ستصبح حقيقةً، وأنني يوماً ما سأذهب ولن أستسلم للحنين.

يوماً ما سيرجع الليل ولن يجدني هنا. "ليلية بترجع يا ليل وبتسأل عن ناس"... فَلّوا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard